الصورة من بوابة الأزهر الإلكترونية http://www.azhar.eg/

حكايات مجاور.. وسحر الزي الأزهري

منشور السبت 27 فبراير 2016

يرسم سليمان فياض تأثير التناقض النفسي على طالب الأزهر الذي يدرس مواد ومناهج وطريقة تفكير من القرون الوسطى، بينما هو يعيش واقعيًا في القرن العشرين.

 

في واقعة طريفة، ادعى طالب بكلية الصيدلة فرع جامعة الأزهر بأسيوط، أنه سافر إلى دولة ماليزيا التي تنعقد بها مسابقة عالمية لحفظ القرآن الكريم، وأنه حصل على المركز الأول في تلك المسابقة. كُرِّم الطالب بالفعل على ذلك من عدة أماكن مختلفة رسمية وغير رسمية، سواء في محافظته أو على مستوى أكبر بالقاهرة، وكان في طريقه لمقابلة شيخ الأزهر، وقيل أيضا إن رئاسة الجمهورية نفسها كانت بصدد تكريمه.

عبد الرحيم راضي.. جائزة مزيفة وصفحات فيسبوك "مضروبة"

قام الطالب بعدد من المقابلات مع وسائل الإعلام المختلفة ومن ضمنها مقابلة مع المذيع تامر أمين. كان يحكي بالتفصيل عن سفره والحفاوة التي وجدها في ماليزيا، كان يحكي بثقة ويقين مع عتاب على الجهات الرسمية في مصر التي لم تشجعه أو حتى تودعه بالمطار. وحكى أيضا عن الإجهاد الشديد لصوته من كثرة القراءة. بل وذكر أن هناك نصائح طبية له بعدم القراءة لمدة معينة حتى تتعافى الأحبال الصوتية التي أُجهدت (يا ولداه) في هذه الرحلة. وكلما كان يحكي كان المذيع يعبر عن سعادته وانبهاره مع بعض الخجل والأسى من عدم التقدير لمثل هذا الفتى قبل سفره. وبالتأكيد كان هناك قطاع كبير من الجمهور لديه نفس المشاعر المختلطة بين التقدير والأسى لهذا الطالب المتفوق حافظ وحامل كتاب الله. لكن وقبل موعد اللقاء بشيخ الأزهر تم اكتشاف ادعاء وكذب هذا الطالب الذي لم يحصل لا على تأشيرة ولا سافر ولا قرأ حتى "جزء عم". ومن ثم أُلغيت كل ترتيبات التكريم.

حكاية هذا الطالب فكرتني بحكايات كثيرة قرأتها  عن طلبة الأزهر على مر السنين. دائما ما كانت هناك نظرة تقدير للطالب الذي يرتدي زي الأزهر المعروف، وتقدير أكبر لحفظة القرآن، "الكرام البررة"، وهو وصف جاء في القرآن للملائكة ومعناه أن خلقهم كريم طيب طاهر؛ وبالتالي فعلى حافظ القرآن أن يكون في أفعاله وأقواله على السداد والرشاد، أسوة بهؤلاء الكرام. 

مازالت هذه النظرة حاضرة إلى حد كبير في معظم قرى مصر. وقد تسبب هذه النظرة وهذا التقدير المبالغ فيه، وتصور الناس لمواصفات غير بشرية لحافظ القرآن، خللًا نفسيًا وعدم اتزان لهذا الطالب أو ذاك، خصوصا مع حداثة السن.

يحكي طه حسين في رواية "الأيام" عن نفسه عندما أصبح شيخًا ولم يكن عمره قد تجاوز التاسعة؛ شيخًا لأنه حفظ القرآن "ومن حفظ القرآن فهو شيخ مهما تكن سنه" وأنه أحب هذا الوصف في بداية الأمر، لكنه كان ينتظر ما هو أكثر من لقب "شيخ" من مظاهر المكافآة والتشجيع، كان الشيخ طه يحلم بالجبة والقفطان كما ينبغي لهيئة الشيوخ أن تكون. ولعل طالب أسيوط كان يحلم هو الآخر، لكن بما هو أبعد من اللقب أو الزي، يحلم بالشهرة والمجد ومزيد من نظرات التقدير والإعجاب. أيضا يحكي طه حسين عن شعوره بالظلم بسبب عدم التقدير الكافي وأنه لم يقتنع بأن ضآلة جسمه وكونه ما زال مفعوصًا مبررين عن عدم ارتداء الجبة والقفطان، هذا الشعور بالظلم جعله يهمل حفظ القرآن، إلى أن جاء اليوم الأسود في حياة هذا الصغير، اليوم الذي ذاق فيه الفتى "لأول مرة مرارة الخزي والذلة والضعة وكره الحياة" حين طلب منه أبوه أن يقرأ أمام الضيوف، من سورة "الشعراء" ثم "النمل"، ثم "القصص".. ولم يتجاوز فيما قرأ الفواتح: "طسم، طس، طسم". 

 

طه حسين

لكن طالب أسيوط، عبد الرحيم راضي، لم يهمل القرآن بل كان كاذبًا.. كاذبًا لأبعد حد، سافر بخياله إلى ماليزيا، ووصف مشهد مهيب لاستقباله في المطار هناك، بل وكتب لافتة الترحيب بنفسه لنفسه "مرحبا بقارئ الأزهر". وقد وصفه واتهمه مجلس تأديب كليته وجامعته بالإخلال بالشرف والكرامة، والإخلال، أيضا، بحسن السمعة والسلوك داخل الكلية وخارجها؛ بادعائه كذبًا حصوله على المركز الأول بالمسابقة العالمية.

النظرة التي يسجلها طه حسين في "الأيام" لتقدير وإجلال الناس لطلبة الأزهر ولزيهم في سنوات العشرينيات وقت أن كان يدرس هو، وأيضا ما سجله سليمان فياض عن مجاوري الأزهر في فترة لاحقة  في الأربعينيات في سيرته "أيام مجاور"،  تكاد تكون متشابهة جدا. تأثير نظرة المجتمع على نفسية هؤلاء الطلاب الفقراء في الغالب وكيف يكون لها أحيانًا مفعول السحر عليهم، وأيضا ما يذكره فياض وهو يرسم تأثير التناقض النفسي على طالب الأزهر الذي يدرس مواد ومناهج وطريقة تفكير من القرون الوسطى، بينما هو يعيش واقعيًا في القرن العشرين.

 

غلاف رواية أيام مجاور لسليمان فياض - دار الهلال

هذا الأمر ما زال حاضرًا إلى اليوم. ويمكن أن نتخيل مفعول تلك النظرة وهذا التناقض، والذي قابل نفس ضعيفة في حكاية طالب أسيوط. كل هذه الأفكار والحكايات خطرت في بالي وأنا أتابع حكاية وكذب "الشيخ" عبد الرحيم راضي، الذي أحيل إلى مجلس التأديب بكليته التي فصلته بعد ذلك نهائيا، ثم اختفى من الظهور الإعلامي. حاولت أن أفكر وأتصور بهذه الطريقة دوافع  هذا الطالب الصغير في نسج  هذه الكذبة، ومدى تأثير نظرة الناس، وجرأته الممزوجة بجنون الشهرة، وبراعته في الأداء والحكي، ونجاحه في تنفيذ معظم ما فكر فيه.. وقلت في بالي: يا ابن الـ..