Green Chameleon- unsplash.com

الكاتب الظل: حوار مع أميمة صبحي عن المحرر الأدبي

منشور الأربعاء 17 أغسطس 2022

تجلس أميمة صبحي في زاوية مكتبها، تحاوطها الكتب من كل الجهات، وموسيقى خافتة تنبعث من الكمبيوتر الذي تعمل عليه، لعله يحجب ضجيج شارع قصر النيل خلفها. ضوء الشمس يحتل الغرفة الكبيرة نسبيًا، بينما هي في الطرف تمامًا تتحاشاه، متوارية في الظل. 

قبل أن نرتب موعدًا للقاء في مكتبها، أخبرتها أني سألتقي بشخصية واحدة فقط من شخصياتها، لأني كما أعرفها متعددة الشخصيات، بخلاف كونها محررة فهي كاتبة، ومترجمة، وأم وحيدة لطفلين، لكنها لم تتخلص بعد من القلق الذي يصاحبها عندما تعرِّف نفسها كمحررة أدبية.

"في كُتَّاب بيشوفوني صغيرة سنًا، ميعرفونيش، في الأول مكنش عندي ثقة قوي في نفسي فكنت بعرَّفهم بكتابتي وبصراحة بعد كده كانوا بيعتذرولي ويقولوا معلش مكناش نعرفك. أنا أصلًا مبعرفش أعمل حاجة في حياتي غير الكتابة والقراية، لا نفعت أكون أم كويسة ولا زوجة ولا ابنة"، ضحكنا وطمأنتها أنني جئت لأعرف منها تحديدًا طبيعة عمل المحرر الأدبي.

أميمة صبحي. بإذن للمنصة

بدأ السؤال يراودني بعد تجارب شخصية وأخرى لأصدقاء مع دور النشر عبر نافذة مظلمة، إيميل يرسل إلى دار النشر مرفقة به مسودة عمل أدبي، إذا كنت محظوظًا سيصلك رد بالقبول أو الرفض، الأغلب لا يرد، والبعض يخبرك أن عملك لا يتوافق مع سياسات الدار، لا أحد يعرف من ذلك المجهول الذي يقرأ عشرات المسودات التي ترسل لدور النشر يوميًا؟ 

"صعب شغلانة المحرر يبقى في اتفاق عليها حتى من المحررين نفسهم، الموضوع مختلف لأنه خاضع لذائقة كل محرر"، ضحكنا ونحن نتحدث عن التصورات الخاطئة التي يظنها البعض عن طبيعة المحرر الأدبي باعتباره مصححًا لغويًا أو كاتبًا في الظل مثلًا.

وضعتني أميمة أمام مساحات عملها كمحررة أدبية، فهي تُقيِّم الأعمال الأدبية، بالقبول أو الرفض، وفقًا لمعايير دار النشر "فيه كتب أنا حررتها وهي مش عجباني، لكن هي مناسبة لسياسة دار النشر. أنا انتقائية جدًا في الأدب، لكن مش بحكم ذائقتي الشخصية بس، وإلا يبقى فيه حاجات كتير مش هانشرها".

تسير أميمة في عملها كمحررة خلف مجموعة من الأسئلة تقودها إلى مفاتيح النص الذي تحرره "هل ده أدب جاد؟ ولا سطحي وفيه استسهال؟ أو الكاتب معندوش أساسيات الكتابة؟ ده بقى هرفضه، عمومًا برفض الكتابة غير الحقيقية وبقول ده مصطنع".

لفتني استخدامها لـ "الحقيقية" كمعيار في الحكم على العمل الأدبي، سألتها عن مقصدها، كيف تميِّز العمل الأصيل عن غيره؟ قالت وهي تحاول انتقاء كلماتها "مش عايزه أذكر أسماء بعينها شفتها لكن ممكن يكون كاتب صغير، بلوجر مثلًا في نص العشرينات وقرر يكتب قصة حياته، هو شخص عنده فولورز وده هيبقى مفيد تسويقيًا، لكن فين التجربة الحياتية اللي تستحق النشر؟ لو أنا قارئة في الأربعينات ليه هقرأ تجربة حد لسه في عشرينياته".

بعيدًا عن الذائقة، يلتقي المحرر الأدبي بنصوص تحمل أفكارًا يناهضها ولا تشبهه، كأن يحرر رواية صوتها ومنطقها ذكوريين. سألتها، هل ستدفع حينها الكاتب إلى إعادة النظر في أفكاره؟ وكيف تقبل تحرير عمل أفكاره لا تشبهها؟ تعود أميمة من جديد إلى إخلاصها للنص، لن تجبر نفسها على التماهي مع أفكار الكاتب لكن عليها أن تتصالح مع وجود هذا الصوت بالأساس "لو هي رواية ذكورية بمنطقها هي يبقى خلاص، أصل النموذج الذكوري موجود في المجتمع، بس مقدرش أقول مش هقدم رواية فيها أفكار ذكورية علشان أنا عندي اتجاه نسوي، ما هو النموذج ده موجود وقارفنا في عيشتنا وبنتعامل معاه يوميًا فمينفعش إننا ننحيه، وبرضو زي النموذج الإسلامجي، اللي هو شخصية ذكورية متغلفة بالدين، مينفعش أرفضه لأنه موجود بالفعل، بس المهم يكون لها منطقها في النص الأدبي".

أميمة صبحي. بإذن للمنصة

بدأت أميمة عملها محررة أدبية قبل ثلاث سنوات، عملت قبلها في الكتابة الثقافية والترجمة بشكل حر في مجلات عربية ومصرية منذ 2009، لكن وظيفة المحررة وضعتها في مقعد مختلف، طرفًا مشتبكًا مع النص الأدبي، الجملة، الفقرة، الفصول، الشخصيات التي جاءت لتحكي حكاياتها، المهم أن تحكى بشكل جيد.

لكن إلى أي مدى يقتحم المحرر النص؟ وما حدود المساحة المتاح له الاشتباك فيها معه؟ 

تصيغ أميمة علاقتها بالنص بأنه ما يقودها إلى إصلاحاته، إذا كان مهلهلًا يحتاج إلى حذف وتشذيب تترك ملاحظاتها للكاتب بأن ذلك المشهد بحاجة إلى استفاضة، اختصار في السرد، تلك الشخصية تحتاج أن يظهر صوتها أكثر.

ملاحظاتها تتمحور حول إعادة ضبط النص "جزء من الشغل هو التكثيف، فيه كتاب مثلًا بيحبوا المقدمات الطويلة في بدايات رواياتهم قبل ما يدخلوا الحدث، وقتها بقولهم طيب ما نبدأ بالحدث على طول، أو حتى نلغيها، مش معنى إني بكتب رواية إنها تبقى 500 صفحة، لو قادرين نقولها في 200 صفحة يبقى زي الفل" الأمر لا يقف عند ملاحظاتها فحسب، هي دائمًا بحاجة إلى تعاون الكاتب معها.

يقلق الكاتب إذا استشعر يدًا تقتحم نصه كماكينة جز العشب، البعض يتصالح مع ملاحظات المحرر، البعض يرفض أن يُحرَّر نصه، والبعض يتعامل بحذر خشية أن يكتسب نصه روح المحرر "أنا بدي الملاحظات والكاتب يشتغل عليها، لكن مبعملهاش بنفسي، لأني لو عملتها هحط من روحي، وكده هبقى بخون نفسي. يبقى فين كتابتي أنا بقى؟ ممكن محرر تاني مش كاتب بالأساس يعمل كده، لكن أنا مقدرش أعمل ده، هيبقى فيه أنانية".

خوفًا من محاكمة الخيال

يصف الكاتب حمور زيادة المحرر الأدبي بأنه "يعمل على النص بلا عواطف، وبرؤية فنية فقط لا تجامل ما يريد الكاتب قوله. ربما ذَبَح المحرّرُ مشهدًا يحبّه الكاتب واجتهد فيه لأن له قيمةً شخصية عنده. لكنَّ المحرر لا يجد له ضرورة فنية فيحذفه. سيحزن ذلك الكاتب. لكنه غالبًا ما يفيد العمل".

عند جز الكتابة تختلف الدوافع، فنية كانت أو رقابية. تؤكد أميمة أنها لا تحكم على الأدب من منظور أخلاقي لكن طبيعة المشهد الثقافي الحالي تجبرها على السير بحذر، "وضع النشر في مصر بقى مرعب، بعد اللي حصل لأحمد ناجي بقينا كلنا بنخاف. يعني مثلًا لو نشرتي قصة في جريدة حكومية وفيها شيء فاضح هم أصلًا بيرفضوا، الباب اتوارب بشكل مرعب، كلنا بقينا بنخاف ومش هنقدر ننكر ده".

وبالتالي تقول للكاتب "لازم نخلي بالنا"، لأن هذا السائد الآن "دي مش قواعد خاصة بيا أنا بس، بل بكل دور النشر المصرية دلوقتي".

وكان الكاتب أحمد ناجي حُكم عليه بالحبس سنتين في 2016، بتهمة "خدش الحياء" في روايته "استعمال الحياة". 

بات المناخ العام ضاغطًا ومقيدًا للخيال، بإمكاننا إذن النظر إلى المنتج الأدبي الحالي باعتباره ابنًا للقيود والخوف، وبجانب ضبط النص فنيًا أصبح المحرر يمارس دورًا آخرًا رقابيًا ليحافظ على النص ويبقيه في مساحة آمنة بعيدًا عن الاشتباك مع المحظورات سواء كانت خدش الحياء أو القضايا السياسية الشائكة. 

هذا المناخ الملغم يدفعنا للسؤال عن القارئ باعتباره الطرف المهم في عملية تلقي الأدب. تتابع أميمة اهتمامات القراء من خلال جروبات القراءة على فيسبوك "بقى فيه اتجاه عام ناحية الرواية النظيفة، الجروبات فيها آراء غريبة ومرعبة، مثلا شوفت كتير تقييمات لقراء على موقع جودريدز بينتقدوا إزاي كاتبة ست تكتب مشاهد بالنسبة لهم فضائحية". 

في معرض حديثنا تذكَّرت روايةً حررتها احتوت مشهدًا جنسيًا لكنه مهم في كشف تطور الشخصية "لو أنا مش قارئة مخضرمة ومحافظة هقف قصاد المشهد ده وأرفضه، دي بقى عايزه خبرة جاية من القراية، إني أقدر أميز ده مشهد دخيل والكاتب حاطه علشان يثير القارئ ولا ده مشهد أصيل وأساسي في الكتابة وبيساعدنا في تطور الشخصية".

تمسكت أميمة بالمشهد رغم كونه صادمًا، لكنها اقترحت على الكاتب أن يقلل من بعض الألفاظ، تحاول دائمًا الإمساك بمنتصف العصا ليخرج النص بأقل قدر من الخسائر.

حديثنا عن الرقابة دفعنا إلى الأدب الغربي، فاجأتني أميمة بتفاصيل لم أكن أعرفها تخص سلطة المحرر الغربي وقدرته على اقتراح تعديلات جذرية على النص، كأن يغير الكاتب زمن الرواية تمامًا، أو يدفعه للشطح بعيدًا عن المكتوب.

في كتابه لمن نقرأ حين نقرأ موراكامي يتطرق ديفيد كاراشيما إلى الحديث عن المحررين الأمريكيين لروايات موراكامي المترجمة، وكيف أنهم يأخذون في حسبانهم القارئ الأمريكي فيضيفون تفاصيل ويعيدون صياغة بعض الأحداث لجعل القارئ متماسًا مع الرواية، وهو أمر لم يعارضه موراكامي، وقرّبه أكثر من القارئ الأمريكي.

في نهاية اليوم تحاول أميمة إعادة ضبط حياتها، تمامًا كما تفعل في النصوص الأدبية، بعض الجوانب تنضبط والبعض لا

شعرت بفجوة بين وسط عربي لا يزال يتساءل عن طبيعة المحرر الأدبي ومحرر أجنبي يملك سلطة تصل إلى تغيير نظرة الكاتب نحو مشروعه "مؤخرًا تابعت آراء كتيرة أجنبية وعربية اتفقت على إن رواية إيزابيل الليندي الأخيرة بقت قريبة من السوق الإستهلاكي للنشر، كأنها تغازل القارئ ومش أصيلة زي رواياتها الأولى. ولما تتبعوا ده لقوا إنها غيرت المحررين بتوعها لأنهم بيدفعوها إنها تكتب كتابة جماهيرية وتسوق لنفسها أكتر".

لكن، ورغم الفارق بين طبيعة المحرر الأدبي هنا وهناك لا تزال أميمة محتفظة بحدود مساحتها، لا تنزعج من كونها غير مرئية، بل ترى الظل مقعد أنسب. في النهاية العمل الأدبي يحمل اسم كاتبه وحده، والمحرر دوره توجيهي لا أكثر.

في نهاية اليوم تحاول أميمة إعادة ضبط حياتها، تمامًا كما تفعل في النصوص الأدبية، بعض الجوانب تنضبط والبعض لا؛ على صفحتها على فيسبوك لا تعرِّف أميمة نفسها بأنها محررة أو كاتبة أو مترجمة، بل أم عالية ونوح.

تعمل طوال الأسبوع كمحررة، وتقسم أيامها بين المكتب والعمل من المنزل، وفي المساء تجلس في صالة بيتها لتكمل عملها في الترجمة، محاطة بأبنائها "طبعًا طول الوقت الأولاد متذمرين، عالية بنتي الكبيرة عندها هاجس إن أنا مش موجودة معاهم، بس بقيت بحاول أشاركها لما شغلي ينشر".  

لكن عندما تجلس إلى طاولة السفرة تمتزج شخصياتها جميعًا، الأم والمحررة والكاتبة والمترجمة. تعترف أن الكاتبة هي أكثر شخصياتها المظلومة، لكن الحياة لها حسابات أخرى "عجلة الرأسمالية والغلا بيحكمنا، أنا هوفر وقتي مثلاً للتحرير، للترجمة اللي هتجيب لي فلوس علشان الحياة والبيت والأولاد، لكن الكتابة هتتظلم للأسف".