تعرفت على الشاعر مهاب نصر (1962- 2023) قبل أن أراه، من خلال قصيدة في مجلة الكرمل عام 1988، بينما يرأس تحريرها الشاعر محمود درويش. كان للمجلة تصنيف مرتفع في أوساط الشعراء الحداثيين، والنشر فيها يعني خطوة متقدمة في هذا التصنيف.
بعدها توطدت العلاقة بيننا عندما دُعينا، مع مجموعة من الأصدقاء، على شرف تأسيس جماعة "الأربعائيون"، وأيضًا عند إصدارهم العدد الأول من المجلة المسماة بالاسم نفسه عام 1992، لأنهم كانوا يلتقون يوم الأربعاء من كل أسبوع.
جميع أعضاء الجماعة كانوا شعراء: ناصر فرغلي، صديق وزميل مهاب في كلية الآداب قسم لغة عربية، الذي تعرفت عليه في منتصف ثمانينيات الإسكندرية داخل قصور ثقافتها المعتمة، وكانت له قدم خارج مصر بسفره لأمريكا للعمل.
هناك أيضًا الأستاذ عبد العظيم ناجي (1933- 2003) أحد شعراء جيل الستينيات. كان أستاذ اللغة العربية لناصر فرغلي في المرحلة الثانوية، بعد عودته من إعارة طويلة في ليبيا، ونشأت صداقة بينهما، امتدت لعلاقات عائلية. كانت هذه الصداقة هي حجر الأساس الذي قامت عليه الجماعة.
أما العضو الرابع والأخير وهو الشاعر الراحل حميدة عبد الله، وكان أيضًا مدرسًا للغة العربية، تتسم لكنته بلهجة ريفية ذائبة داخل طريقة نطقه التقليدية للغة العربية. يكتب الشعر، ويؤمن بالحداثة إيمانًا مفرطًا، وكان صديقًا لناصر أيضًا من قصور الثقافة. كان يقف في المنتصف بين جيل ناصر ومهاب، وجيل عبد العظيم ناجي.
صورة خالدة للعائلة
كان جو العائلة، باختلاف التجارب والسن وطرق التفكير، يسيطر على اللقاءات التي تجري في صالون بيت الأستاذ عبد العظيم ناجي، في حضور زوجته السيدة ميرڤت وولديه، حيث كان الشعر وهمومه أحد الأعضاء اللامرئيين في تلك الجماعة.
هناك صور تخلّد هذا الجو العائلي الذي كان يحبه مهاب، ويشعر داخله وداخل أي تجمع مماثل بالاطمئنان وخلود الحياة عبر هذه الحوارات الفكرية الممتدة للصباح.
في تلك الصور، يجلس الجميع متلاصقين على الكنبة الكبيرة التي تتصدر الصالون، وربما أيديهم فوق أكتاف بعضهم بعضًا. تكرر هذا السلوك في بعض صور مهاب الأخرى، أن يريح ذراعه على كتف من يجاوره، صورة خالدة للمحبة والصداقة، أو هكذا كان مفهوم الصداقة، هذا التقارب الجسدي، وليس النفسي أو الفكري فقط.
كان صدور مجلة "الأربعائيون"، وتوهج هذه الجماعة وجلساتها الحميمة، تحفر رافدًا جديدًا موازيًا للحياة العملية اليائسة التي كان يعيشها مهاب آنذاك إذ كان يعمل مُدرسًا في مدرسة المرقسية، ويضخ فيها أحاسيس الأمل في المستقبل.
ولكن بعد صدور ثلاثة أعداد من المجلة خلال سنتين تقريبًا، وسفر ناصر للخارج، وربما انقطاعه عن مصر بسبب عمله الإعلامي وغيرها من الظروف الخاصة، هدأت هذه النار المشتعلة، وفُرِّغت دائرة العائلة من حوله.
حكاية التدين
كانت إحدى حكايته الكبرى التي رواها لي، ولغيري؛ تجربته الأليمة في الثانوي بانضمامه ثم خروجه من جماعة دينية متشددة.
استغربت استمرار تأثير هذه التجربة، بعد مضي ما يربو على عشر سنوات. يبدو أن هناك تجارب عميقةً تتجاوز زمنها، مثل تجارب الحب تمامًا، تلك التي تتسم بنوع من التصديق أو الإيمان يجعل صاحبها يتماهى مع الجوهر اللامادي لهذا المفهوم اللازمني، مع الكلمات والأفكار والصور التي شكلت أفق وخيال التجربة، لتتحول في النهاية إلى شفرة على رقبة صاحبها.
ربما ينطبق هذا التصديق والتماهي على مهاب، بداية من تجربته مع الجماعة، وصولًا لاختياراته في القراءات الفلسفية والروائية، كحبه الشديد لدوستويفسكي وكونديرا وغيرهما من أصحاب الأفكار والنماذج الملهمة التي تستثير عاطفة الإيمان.
لم يكن يرى شيئًا إلا بوصفه حقيقة، ولا مكان لديه للتمثيل وألعاب الخيال. ربما الأدب، كما يراه، وخاصة الروايات، ليس استعارة لحياة أخرى، بل فيه تداخل شديد بين الحقيقة والخيال. وهذا يعني في وجه منه أن هناك قلقًا وخوفًا دائمين بسبب هذا التطابق بين العالمين.
ربما تكونت نظرة مهاب الأخلاقية، سواء في الحياة أو الكتابة، بسبب حيز تجاربه المحدود آنذاك، وميله للعيش داخل الحقيقة، ومحاولة تمثلها في كل النشاطات داخل هذا الحيز الافتراضي المحدود من التجارب، والحيز اللامحدود من الخيال، حتى ولو لم تكن له قوة مجابهة أشباح هذه الحقيقة، لذا نشأ نوع من الحدة والإدانة الأخلاقية في نقده الجمالي أو الاجتماعي.
اللغة تقودنا كما نقودها
كان لمهاب حسٌّ تنظيريٌّ واضحٌ، أحيانًا يكون مدعومًا بأمثلة حية ولغة حسية، وإن كانت تجريدية، ولكن لها صدى تجربة فكرية تقف وراءها، أو هناك إمكانية لتمثلها وتحويلها إلى أفكار حية، وأحيانًا يجنح التأويل إلى ناحية غامضة تمامًا، فتتقافز الشعارات الفلسفية، وحيدة بدون حياة تحوطها.
عندما أتأمله في تلك المسافة قبل أن أصل إليه أشهد لحظة إخلاص عميقة
ربما جوهر الفلسفة المجرد الذي أدمن قراءته، خلق لغة ما أصبحت تقود لغته، وربما هي التي أكسبته هذا الحس الأخلاقي، لأن هناك عالمًا مثاليًا نشأت فيه اللغة، وستعود إليه، وأثناء حياتها بيننا على الأرض، نمنحها نحن، من نستخدمها، الفخامة المثالية والتجريد اللذين يليقان بها، كأنها لغة إلهية.
كانت كلمة مثل المهانة أو الإهانة، أو التفاهة، أو الشر، تتكرر كثيرًا في لغته الشفاهية وكتابته، وربما كان يدعمها هذا النموذج الأخلاقي الشخصي، الذي كان بلا شك أرحب من كونه نموذجًا ذاتيًا خالصًا، يقف ضد الإهانة، ومع الكرامة، والحرية الإنسانية.
لقاء على المقهى
عندما كنا نتواعد في المقهى، أجده دومًا بصحبة كتاب، غارقًا في عالمه، داخل فقاعة بحجم جسمه، تفصله تمامًا عن ضوضاء المكان. يتحول الكتاب على وجهه إلى انقباضات، وتعبيرات غامضة، يحوطها دخان السيجارة، الذي يشكل الطبقة الخارجية لهذه الفقاعة.
أتأمله في تلك المسافة قبل أن أصل إليه، أشهد لحظة إخلاص عميقة. أشعر بأنه يمضغ الكلمات والرؤى، أشعر برجفة خفيفة، أو خضة، عندما ينتبه لوجودي. تسبقه الضحكة، لتسدل الستار إلى حين على هذا العالم الداخلي المفتوح.
من اللحظات المشبعة فكريًا وإنسانيًا، لكلينا، عندما كنت أجهز مسودة لمقالات العدد الجديد من مجلة أمكنة، حيث كان مهاب أحد محرريها، لنتناقش فيها، وأستقبل ملاحظاته وتعليقاته على المواد، ثم يتفرع الحديث إلى أفق أرحب ومواهب إنسانية أوسع.
امتلك مهاب قناعي المسرح الإغريقي الضاحك والباكي، والاثنان لهما أصل واحد. بجانب حبه للموسيقى وعزفه على العود. ورغم حسه الميال للتشاؤم، فإنه كان يوزع بعفوية ودون تكلّف القفشات التي تثير الضحكات هنا وهناك.
حكاية الأب
الحكاية الأخرى هي حكاية الأب الذي مات مبكرًا. حمل له مهاب مشاعر دين بهذا الموت المبكر، كان شخصًا في غاية الرقة والتعاطف، كما يقول عنه. ربما حمل من رقته، وربما بسبب هذه الرقة والتعاطف، لم يتمرد عليه.
وضعت صداقاته الجديدة، وقراءاته بالطبع، أمامه مفهوم التمرد بشكل خشن، فأراد مبررًا أمام نفسه أولًا، يدرأ به هذه الخشونة، لعدم تمرده على هذا الأب، ومرور فترة المراهقة بيضاء تمامًا.
كان يبرر عدم صدامه مع أبيه بأنه كان مستفيدًا بشكل ما من هذا النظام الأبوي، الذي سيطارده ويجرسه لاحقًا في صورة "الدولة الصايعة" التي سيهجوها في عدة مقالات بعد ثورة يناير، ليس بالضرورة بوصفها بديلًا عن الأب السلطوي الذي لم يتعامل معه أو يتمرد عليه، بل كرمز لسلطة ورثتها الحياة وورثتها لأبنائها، ومن لم يرها ربما يمر من طريق آخر آمن، لن يفسر شيئًا من هذا الغموض القدري الذي يحوطنا.
حكاية أروى
الحكاية الأخيرة هي حكاية زواجه ثم انفصاله عن الكاتبة والسياسية أروى صالح، وقد عشت جانبًا من تفاصيلها، قبل وفاتها المأساوية إثر انتحارها المدوي.
ربما هي الحكاية الأقسى، التي تأثرت بها كتاباته، وأصبح مفهوم التطابق بين الإنسان والنموذج المحبب له، الذي يصنعه بخياله، أحد المصطلحات التي يستخدمها بإفراط كنوع من تفسير موت أروى، ربما لأنها طابقت نموذجها الإنساني المحدود بنموذجها السياسي المتخيل اللا محدود.
هذا التطابق سبب المأساة، لذا يأتي مفهوم التمثيل عند مهاب، الذي استخدمه أيضًا بإفراط في سنواته الأخيرة، كنوع من التوسط بين الاثنين.
سافر مهاب إلى القاهرة أملًا في تجربتي زواج وحياة جديدتين، وترك التدريس والمدرسة، ونظام التعليم الفاسد، الذي هجاه أيضًا في مقالاته. بدأ يفكر في حياة أخرى يمكن أن يمارس داخلها مواهبه الحقيقية المعطلة.
لم يدم الزواج، وعاد حزينًا إلى الإسكندرية، وبعدها انتحرت أروى. لم يجد أمامه سوى العودة للتدريس الذي بلا مستقبل، مرة أخرى، بجانب النوم، الذي أصبح جزءًا من النشاط النفسي للهرب من وطأة الحياة.
ربما أهمية زواجه من أروى أنه كان اختيارًا ذاتيًا في الابتعاد عن الخيارات العائلية الآمنة.
لكنه عاد من هذه التجربة متيقظًا للمكان الجديد وللخبرة التي اكتسبها. ثم جاءت وفاة أروى لتنقل إحساسه بها من مكان شخصي حزين لآخر رمزي متعدد، وعادت لها مكانتها الرمزية في كتابته، بدون أي ألم، وعاد حديثه عنها مغلفًا ببريق حياة مضت، ليست به أي إدانة.
مستر مهاب
بدأت الحياة تبتسم له، فقد انتقل للعمل في إحدى مدارس اللغات، وهناك سيتزوج من زميلته في العمل، ويسافران إلى الكويت.
كانت المدرسة الجديدة ومجتمعها فاتحة خير في حياته العملية، حيث كوَّن عائلة أخرى حقيقية من تلاميذه، أولاد الطبقة المتوسطة العليا، الذين أحبوا "مستر مهاب" لأنه كان ينير لهم طريقًا لم يألفوه من قبل. كان يساعدهم بإخلاص ومحبة، وبممارسة أبوية حانية، في مسابقات اللغة العربية ويتحدى بهم تلاميذ المدارس الأخرى.
هذه الجماعة اللا مرئية من التلاميذ بعد أن كبروا شكلوا الأكثرية التي حضرت جنازته وعزاءه
ثم أقدم بجرأة على خوض تجربة الدروس الخصوصية، بدون أي أحكام مسبقة، فتفوق فيها بطريقته، وأقبل عليه تلاميذه وتحولت المحبة إلى علاقة تبادلية، وبدأت الحياة تزهو قليلًا بعد أن استيقظ هذا الجزء الخاص بالمستقبل داخل نفسه، ما جعله يتحمل ساعات العمل الطويلة بدون شكوى. أصبح هناك أمل يدفعه لرؤية المستقبل بشكل مختلف.
المفارقة أن هذه الجماعة اللا مرئية من التلاميذ، بعد أن كبروا، شكلوا الأكثرية التي حضرت جنازته وعزاءه، كما حكت صديقة حضرت الجنازة.
حياة مخلصة لنفسها
كان مرحلة الكويت التي امتدت لخمس عشرة سنة تقريبًا من أفضل الأوقات، إثر عمله في الصحافة أيضًا واستقرار أحواله المادية، والأهم البعد عن سجن وعين ورقابة العائلة الرمزية التي كانت تحوط خطواته داخل مصر. حدث تدفق شعوري سواء في الشعر أو في غزارة المقالات والأفكار، وأيضًا في ثقته بنفسه.
ربما للمرة الأولى كان غريبًا، رغم العلاقات القوية التي جمعته بزوجته وبعض أصدقائه هناك، ولكن هذه الغربة ولَّدت وعيًا حقيقيًا، لأنها ولدت على أرض جديدة، وربما صاغت من جديد هذا المكان الأخلاقي.
ربما لمس بُعدًا جديدًا في روحه جعل هناك وجهًا ثالثًا يتوسط الضاحك والباكي، بين الحقيقة والخيال. ربما اتخاذه لوضع الغريب/المتأمل لا المتورط/الغريق الباحث عن نجاة، خفف قليلًا حس الإدانة في كتاباته، وأصبح التمثيل حقيقيًا، والاستعارة حقيقة، لأن بها اختيارات وليست إجبارية.
ربما وفاة والدته، التي أثرت فيه كثيرًا، منحته المكان الحُر، وأصبحت العائلة مجرد هيكل من المشاعر الماضية التي لا تحتاج لصراع، لأنه أصبح ندًا لكل الأشياء التي اتخذ منها موقفًا أو خشي منها من قبل، وهذا منحه استحقاقًا ذاتيًا، كبَّره في عين نفسه.
ربما التجربة، بكل مصاعبها وأعراضها، منحته حياة جديدة وكتابة شعرية جديدة، غامضة ربما، ومجردة ولا تخلو من التمثيل، ولكنها حارة، مليئة بالصور العابرة، التي تأتي من حياة حية كانت مختزنة في الذاكرة، خاصة في ديوانيه الأخيرين.
حتى ولو انتابه إحساس الخذلان في الحياة، قبل وفاته مباشرة، أو قبل الارتطام بثانية، ولكن إحساسه هذا كان مختلفًا، لأن الكنز الحقيقي في كتاباته كان يتفجر خلف هذه المشاعر الحقيقية، أيًا كانت، وخلف الحقيقة التي تخص هذه الحياة المخلصة لنفسها.