موقع imbd.
لقطة من فيلم ريش.

جماليات العفن والتحلل والقبح في فيلم ريش

منشور الاثنين 22 أغسطس 2022 - آخر تحديث الاثنين 22 أغسطس 2022

لم تكن المشاهدة الأولى للفيلم كافية. على مدار اليوم ظللت عالقًا في عالمه، أسمع موسيقاه في أذني، وأتخيل تكويناته البصرية كلما أغمضت عينيّ. يومها تراوحت ألوان الحياة بين درجات من الرمادي والبني والترابي والأصفر. لم أرَ في الشارع غير الوسخ والوحل والكلاب التائهة، هذا ما يهمني الآن.

في اليوم التالي شاهدت الفيلم للمرة الثانية، فطالما لم أستطع مغادرة عالمه بسهولة، لماذا لا أعود إليه مرة أخرى؟

لا يتحدث فيلم ريش، بل يجعلك ترى. أنت ترى وتفهم وتشعر من خلال الصورة. ريش ليس فيلمًا صامتًا، بالعكس، أغلب المشاهد لا تخلو من جمل حوارية. لكنها لن تصل بك إلى شيء واضح. إذا تتبعت الحدوتة والحوار فقط، سيقع الفيلم منك في هوة بلا عودة، ستشعر أن الفيلم يقفز من حدث لآخر في عشوائية مبهرجة.

انتصار الصورة 

أجمل ما في ريش أنه متطرف فنيًا، يرتد بالسينما من عالم الحدوتة والجملة المنطوقة، إلى الصورة. يجعلك تفكر من خلالها،ليس من خلال الكلمة. تصبح هي لغة الفيلم الأولى.

بعد نهاية الفيلم لا تعلق في ذهنك جملة مميزة أو حوار جذاب، إنما تتذكر الصورة فقط. تتحدث أغلب الشخصيات في خلفية موسيقية أو وسط ضجيج ما، بصوت خافت أو بشكل مقتضب وكسول، تتداخل الأصوات أحيانًا ويغطي بعضها بعضًا، يُضيق الفيلم مساحة "الكلمة" بشكل متعمد وصريح من البداية. 

أنت تشاهد فيلمًا، لا تقرأ رواية، ماذا تنتظر من اللغة المنطوقة؟

ريش فيلم عن الفقر والمهانة، عن قمع النساء وتسلط الرجال واستغلالهم، عن الفوارق الطبقية المرعبة وبطش السلطة وسأم البيروقراطية وبشاعة العمل، لكنه ليس عنهم تمامًا. ولنتذكر معًا أن الفيلم الجيد هو فيلم أبعد من موضوعه دائمًا: لا يصل بك إلى حارة سد، إنما يدفعك إلى متاهته الخاصة الممتعة.

ماكيت مصغر للعالم 

نعلم أن الفيلم تدور أحداثه في مصر، لكن الأماكن مجهولة بلا أسماء وكذلك الشخصيات. نجد البيت، والمصنع والزوج والأطفال والفيلا البرجوازية. كأن الفيلم هو ماكيت مصغر، تجريد للعالم، لكن ليس التجريد هنا بمعنى العزلة والتعالي، إنما يعني احتواء الواقع والذهاب إلى ما هو أبعد منه بكثير. الفيلم واقعي للغاية، لكنه خيالي إلى أقصى حد.

من خلال مشاهد معدودة في البداية، ندخل عالم ريش بخفة: ملابس مهترئة، منزل متهالك، وسخ وجلخ وعفن وزبالة في كل مكان. زوجة صامتة وساهمة، جسدها نحيل، تحمل طفلًا ترضعه ويحيط بها طفلين صغيرين. زوج يعمل في مصنع، يوازن مصاريف البيت براتبه الهزيل، والزوجة توازنه بالتقشف في شراء طلبات البيت والطبيخ اليومي. لكن الفيلم لا يستعطفك ولا يريد منك الدمعة والشحتفة بموسيقى مأساوية أو دموع استفزازية أو جمل درامية، هو أبعد من ذلك تمامًا.

بعدما يظهر عالم الفيلم المتحلل، يأخذك إلى فقرة مرحة تقلب موازينه فيما بعد، كأنه يقول لنا: ليس الفقر موضوعي وحكايتي، انتظر لترى.

على موسيقى بوب-كورن لعمر خورشيد، تهتز خصور الرجال في حماس وتصفق أياديهم في حفل عيد ميلاد راقص وصاخب، أقامه الأب لابنه الصغير في البيت، في حضور الجيران والأصدقاء.

أكل ورقص ومرح، وفقرة ساحر. الفقراء يمرحون ويلعبون ويحتفلون أيضًا، لا يعيشون عمرهم كله أسرى لفقرهم ومأساتهم. 

مع اقتراب نهاية الحفل، يتحول الزوج إلى فرخة، في لعبة على يد ساحر فاشل محدود المهارات. ينطلق الفيلم من "اللعبة" وليس من المأساة. يبدأ من "السحر" وليس من الأزمة والمعضلة.

يمسخ الساحر الزوج إلى فرخة بيضاء، ويفشل في محاولة إصلاح الأمور. تتابع الزوجة محاولات الساحر لإعادة زوجها إلى صورته الأصلية، بعيون ساهمة، لا تعبر عن انفعال واضح، كأن الأمر سيان، بإحلال الفرخة محل الزوج، لم يتغير الكثير.

يتجنب الفيلم فخ الميلودراما، يعي أنه يلعب على موضوعات استهلكتها السينما المصرية بما يكفي: فقر مدقع وفقد زوج وخيانة صديق، كلها موضوعات لا تحتاج أكثر من موسيقى حزينة حتى يبكي المشاهد أبو قلب حنون. لكن بخفة ينقل الفيلم تلك الموضوعات إلى مستوى من السحر والغرابة. يجعلك ترى ما هو أبعد منها.

ضد سينما الكومباوند

أكبر تحدي في الفيلم هو جمالياته بالطبع. سيطرت على السينما والتلفزيون في السنوات الأخيرة أفلام ومسلسلات تنتمي لعالم الكومباوندات، حيث المكان متجانس ومتشابه مثل انعكاس لا نهائي في المرآة، الرؤية أمامك واضحة، نظيفة، نقية، تمر عينك على المشاهد الملساء فلا تجد ما يعترض منظور رؤيتك أو يثير انتباهك أو تفكيرك.

لكن في ريش يسيطر العفن والتحلل على رؤيتك، الدم الفاسد والجرح الغائر في الجسد، الطين والوسخ والكلاب التائهة والملابس المكرمشة الباهتة والأكل الجاف المتقشف، الباذنجان المقلي في الزيت الداكن، والأرز الأبيض المقدد في الطبق الألومنيوم والعيش البلدي المحروق.

تظهر بعض الأجساد نحيلة، حادة الملامح وطويلة الأطراف، وبعضها الآخر متضخم بشكل كاريكاتوري، أو متقزم، جميعها أجساد هاربة من انضباط وجماليات سينما الكومباوند. 

تستوقفك الصورة في فيلم ريش، فتشعر بالتقزز والنفور والبهجة والدهشة. تتفاعل عينيك وشعورك مع صورة حيوية تنفجر بالتفاصيل.

ستجد مشهدًا يركز على مرحاض يغطي جداره الخضار والعفن، ودم يسيل على سيراميك أبيض يعلوه جسد الزوج الملطخ بطبقات كثيفة من الوحل والطين، وجزار يقطع رأس جاموسة، يضرب بالساطور على لسانها. لا يريح الفيلم عينيك بمشاهد "نقية" و"نظيفة"، إنما يربكك، ويجعلك تحدق في عين الفقر والألم والمأساة بلا شفقة ماسخة.

لم أفهم أبدًا ما الذي يفيد من عمل فني خطابي يقول لنا الفقر بشع، الفقر سيئ. نحن نقرر أن نتجاهل معاناة الآخرين بإرادتنا، نقرر أن نعمي أنفسنا ونعطل حواسنا، ولن تقدم لنا تلك الأفلام غير شفقة سنرميها خارج دائرة شعورنا بمجرد خروجنا من قاعات السينما. الشفقة لا تجعلك منفتحًا على الآخر، إنما تجعلك تستحلب شعورك ليس أكثر، مستمتعًا بذاتك الحزينة على معاناة الآخر.

يبدأ أحد المشاهد بصورة لطبق أرز، ترص الزوجة عليه الجمبري الجامبو وقطع السمك المشوي الطازجة. للوهلة الأولى، يتوقع المشاهد أن عمل الزوجة الذي وفره لها صديق زوجها النذل، أتى ثماره أخيرًا. لكن بمتابعة المشهد سنجدها في مقر عملها، وها هي تحمل الطبق وتأخذه إلى غرفة المدير مع طبق إضافي من الخضراوات الطازجة، ليتناول وجبة الغذاء.

لا يحتاج المشهد إلى كلمة واحدة، كل ذلك يحدث وينتهي في صمت، لا يقع فيلم ريش في فخ العبرة والرسالة، إنما يضعك رأسك ببساطة في الوحل، لترى.

المغامرة الكبرى

فيلم ريش ليس جماهيريًا، لأنه لا يقول لك ما تريد سماعه، ولا يريك ما تتوقعه، ولا يشرح لك ما يصعب عليك فهمه. أنت تتوقع من الفقراء أن يتصرفوا بطريقة معينة، وتتوقع من الزوجة التي تفقد زوجها أن تقوم بتصرفات محددة، تتوقع أن ترى جماليات للفقر مستلهمة من أعمال فنية أخرى. اطمئن، لن ترى ذلك. 

تبدو كلمة "الجماهير" في سياق الحديث عن "الفن الجماهيري" نوعًا من احتقار الأفراد، كأن السطحية والتفاهة هو ما يليق بهم ويستحقونه. كأنهم عاجزون عن التخيل والتفكير المعقد والتحليل، يحتاجون من يسحبهم من أيديهم ويوضح لهم كل شيء.

يخوض فيلم ريش المغامرة الكبرى: يقف ضد الجماهير. في تجربة فنية تنتصر للخيال والتجريب والمرح، وتبث داخل أرواحنا أملًا في وجود سينما مازالت قادرة على الابتكار والخلق بشجاعة.