Pixapay- برخصة المشاع الإبداعي

العناية المركزة حافة مكتنزة بالضحكات

منشور السبت 24 ديسمبر 2022 - آخر تحديث السبت 24 ديسمبر 2022

كان جاري في غرفة العناية المركزة رجلًا تجاوز الثمانين من عمره، واسمه أيضًا علاء، يعاني من مرض السكري، أرى قدمه اليسرى المتورمة والمقروحة، وهي مفرودة بيننا، تقطع تلك المسافة الصغيرة الفارغة بين حدود سريره وسريري، اللذين تفصل بينهما ستائر سميكة. لم يكن يهدأ لحظة، طوال الوقت طلبات وشكاوى. ربما لطول إقامته، أو تعدد زياراته، اعتادوا عليه، وكشفوا عن معدن شخصيته الشكَّاءة، فلم يستجيبوا لكل نداءاته، حتى عامل النظافة كان "ينفِّض له" كأنه غير مرئي.

بمجرد أن يلمح إحدى متدربات كلية التمريض يناديها من شرفة سريره، بصوت مدهون بالمَسْكَنة "والنبي يا بنتي"، "أيوه يا حبيبي"، "تعبان"، ثم يستطرد في شرح سبب تعبه. ربما لا سبب له سوى إحساسه بالسجن الذي يعيش فيه، وبأن الحياة، في ذلك العمر، بدأت تتخلى عنه. أنا أيضًا كنت شكَّاءً، ولكن في صمت، "ساهرًا على حياتي"، وجذورها الممتدة خارج تلك الغرفة.

كان جاري يزيح ستائر الجزء الأمامي من سريره، ليطل على نهر الشارع الرئيس في الغرفة، حيث الحركة الدائبة، كأنه ميدان عام، الليل فيه موصول بالنهار، بدون تلك الحدود الفاصلة بين الاثنين. ربما بسبب طبيعة مرضه، كان يعيش ضيفًا أو سائحًا داخل الغرفة، يريد أن يمر الوقت سريعًا، يتعجل وجبات الطعام، التي تقوض الوقت وتقلل من إحساس السجن. بمجرد أن تحضر الوجبة حتى تسكن مؤقتًا التأوهات.

ربما يبرز المرض ذلك الجزء الغريزي، أن نجاتي تكون على حساب الغير، ويتمثل الصراع عندها على أي شيء، مهما كان بسيطًا، فهناك سباق للوصول إلى صدارة طابور النجاة

ذلك الجزء الغريزي

حدث بيني وبين جاري خلاف على شيء شديد البساطة. لم أتوقع، في ذلك المكان الأخروي، أن ألمس تلك المشاعر الخشنة من أحد ساكنيه، ربما بسبب الجيرة، وربما بسبب تشابه اسمينا، أصبحت منافسًا له.

أثناء إقامتي القصيرة هناك إثر إجراء عملية دقيقة للغاية في معدتي، طلب مني الممرض في الساعة الثانية ليلًا أن استعد للاستحمام في الحمام الملحق بالغرفة بدلًا من الاستحمام في السرير، فواففت، واستعددت نفسيًا لتلك الخطوة الصعبة. كان جاري قد رفض قبلي الاستحمام في ذلك التوقيت، لكنه عندما سمع موافقتي واستعدادي للذهاب، وجدته ينادي الممرض، ويتكلم معه بصوت هامس لكنه مشحون بالغضب والعتاب، فوصلني كلامه عندما قال له بأنه "الأوْلى مِني"، بأن يستحم قبلي.

جرحتني كلمته، خاصة وهي تقال داخل ذلك الحيز الأخروي بأنه "أوْلى مني". لا أعرف هذا الطابور، الذي رسمه في خياله، ويضمنى أنا وهو فقط، هل كان يسير باتجاه الحياة، أم باتجاه الناحية الأخرى؟ ربما يبرز المرض ذلك الجزء الغريزي، أن نجاتي تكون على حساب الغير، ويتمثل الصراع عندها على أي شيء، مهما كان بسيطًا، فهناك سباق للوصول إلى صدارة طابور النجاة.

مشاعر السجن

المشاعر التي تتفجر لحظة فتح باب الزيارة، كانت تجسد مفهوم السجن في نظري، تلك المشاعر المحتجزة سواء من المرضى أو ذويهم من الزائرين، وتحت ضغط الوحدة الليلية وبطء مرورها. كنت أبدأ في مراقبة ساعة الحائط، البعيدة عن سريري، بداية من الثامنة صباحًا، بعد عدة انعكاسات لها على الأسطح اللامعة، فيصلني الوقت مقلوبًا.

تنفتح البوابة في الواحدة ظهرًا، فتندفع تلك الكتلة الملهوفة التي تقف وراءها، لتتفرق حول الأسرَّة، تتحول إلى خيوط، كل خيط يذهب إلى سرير، لكنها جميعًا لها مركز تخرج منه. وفي الوقت نفسه تندفع أرواح المرضى في أماكنها، لتتقابل تلك العواطف المحتجزة من الطرفين، يحدث صدام دامع، تتعانق الأصابع، وبعدها يبدأ الكلام.

ربما ندافع عن أنفسنا بالضحك

حافة مكتنزة بالضحكات

رغم أن الغرفة كانت في الدور الرابع، كنت أشعر بأنها تشغل غرفة قريبة من العالم السفلي، حيث ارتحل جلجامش ليبحث عن صديقه إنكيدو في العالم الآخر. كنا نقف على حافة مادية ومجازية معًا، حيث يكون الموت قريبًا، ومادة مساومة ودعاء مستمرين. المفارقة أنه يمكن لتلك الحافة، أو أي حافة، أن تكتنز داخلها الضحكات.

كنت أطلّ من شرفة سريري لأطالع هذيانات جاري في السرير المقابل، على الضفة الأخرى من نهر الطريق، وردود فعله الكوميدية عندما تقترب منه إحدى فتيات طاقم التمريض، لتعلق له المحلول، أو تطعمه. كان يرفس بيديه وقدميه، كل من يقترب منه. كن يعاملنه كطفل، وكان أكثرنا استحقاقًا بصفة "حبيبي" التي تتردد باستمرار، لكنه طفل كبير جاوز الثمانين، أي حركة ستبدر منه ستمر من عنق تلك المفارقة، وتولد ضحكًا، أو ابتسامًا مبطنًا بالبكاء، الذي سيتأخر ظهوره.

ربما ندافع عن أنفسنا بالضحك، كما كانت تتعامل الممرضات معه بمرح وبندية أحيانًا تجعله يتحول إلى طفل خائف ومذنب تسهل قيادته.

كان هذا الجار فاقدًا للذاكرة. أثناء نومه يظل يكرر أسماء يتحدث معها وأحيانًا يسبها، الشيء نفسه كان يحدث مع طقم الممرضات، اللاتي كان يسبهن أيضًا. لم ترشح ذاكرته إلا تلك الطبقة المليئة بالسباب والإدانة، لكنها أيضًا إدانة فكهة، فالسباب داخل ذلك الحيز الأخروي له معنى آخر، ربما بها عشم فيمن يوجه له السباب، ربما لسان حال ذاكرته المفقودة يقول "هتسيوني أموت يا ولاد الكلب".

عندما كانت تأتي له زيارة يجلس أمامهم صامتًا تمامًا، لا يتكلم في أي شيء. أحدهم كان يفتح الهاتف على أحد أبنائه المسافرين في الخارج، يظل يحدق في وجهه طويلًا بحثًا داخل ذاكرته عن أي علامة تذكره بذلك الوجه الغريب.

حائط الثلج

سيد، هو عامل النظافة في غرفة العناية. تقريبًا في نهاية العقد الثالث من عمره. بجانب النظافة كان يساعدنا في خلع ملابسنا وتغيير الفراش وحمل أجسادنا التي أصبحت أثقل مما كانت بسبب المرض. برغم ضآلة جسمه فإنه كان يتسم ببنية قوية، وبحرفنة في حمل الأجساد وترويضها.

ولأنّ مهنته هي الأصعب كانت له سلطة ما، يمارسها على الجميع، كثيرًا ما يصم أذنه على أي نداء أو استغاثة أو طلب، لأنه يعرف العناء المنتظر وراءه. كان دائم الخناق مع الممرضات والمرضى على السواء، يجر شكل الجميع، كلعبة لا يعرف غيرها، لكن ذلك يذوب سريعًا، فهو حجر الأساس لغرفة العناية المركزة، ولا استغناء عنه مهما حدث.

كان سيد يمتلك رأسًا عنيدًا كأنه طفل يعامل أطفالًا يريد معاقبتهم، لا نزلاء غرفة العناية. عادة كان يمسح الأرض يوميًا مرتين بالكلور، كانت رائحة الكلور مثل الطلاء سميكة ونفاذة تغطي العنبر كله، بل تجرده من إنسانيته، مثلها مثل رائحة الفنيك في الحمامات العامة. تتحول الغرفة كلها لصورة حمام مغطى كله بالسيراميك الأبيض البارد.

كانت تؤذيني تلك الرائحة فرجوته ألا يمسح الأرض بالكلور، وترجاه آخرون، ولكنه كان يبيت شيئًا آخر في نفسه، وربما وجد الطريقة التي يؤدبنا بها، فرأيته يعيد الكرَّة في يوم ثانٍ وثالث، صرخت في وجهه، ولكنه صم أذنيه تمامًا وابتسم ابتسامته البلهاء، ونظر لي كأنه لا يسمعني. هناك حائط ثلجي في وجهه كان يصد به الإهانات الموجهة إليه.

كرة الراهب

بعد خروجي من العمليات كانت ذراعي اليمنى شبه مشلولة لا أشعر بها، كأنها لا تنتمي لجسمي ولا أستطيع توجيهها بعقلي كما المعتاد. عملت أشعة دوبلر عليها، وكانت مطمئنة، ونصحني الطبيب بأن أجري تدريبات بواسطة كرة من الكاوتشوك.

أتت زوجتي بكرتين إحداهما زرقاء والأخرى بيضاء. عندما رآهما سيد جرى اللعاب في فمه، وأخذ يجربهما بدون أن آذن له. كنت أشاهده بجانب سريري، بينما أنا مستلقٍ على ظهري بين النوم واليقظة، وهو يلعب بهما، يرفعهما لأعلى ثم يلقفهما، وهكذا. ذكرني مشهده وهو يلعب بالكرتين بقصة لأناتول فرانس، تحكي عن راهب اسمه برنابا كان يعمل قبل دخول الكنيسة مهرجًا، يلعب بالكرات النحاسية والسكاكين.

دخل برنابا الدير، بناء على نصيحة راهب صادفه في الطريق، كون الرهبنة هي الوظيفة الأسمى في الحياة، ولكنه لم يجد ما يفعله هناك، فالكل يحترف عملًا من أجل مريم العذراء، أما هو فلا يملك طريقًا للاقتراب منها سوى أن يؤدي بعض الألعاب البهلوانية بالكرات النحاسية التي احترفها في حياته الماضية.

كان في وقت الغذاء يتسلل إلى مذبح الكنيسة ليتمرن على ألعابه القديمة. استغرب رئيس الدير عن تغيب برنابا في ذلك التوقيت يوميًا، فتجسس عليه مع الكهنة، ليجدوه واقفًا على رأسه وساقيه في الهواء ويقذف كراته النحاسية لأعلى بمهارة أمام المذبح تكريمًا للعذراء.

احتج الرهبان وقالوا إن ما يفعله ما هو إلا تدنيس لحرمة الدير، وخمن رئيس الدير أن جنونًا ما مس عقله، وشرعوا من مكانهم ليطردوه من الدير، عندها "رأوا فجأة العذراء المقدسة تنزل درجات المذبح كي تجفف العرق الذي كان يتساقط من جبهة المهرج بثنية من ثنيات طرحتها الزرقاء"، فركع رئيس الدير على الأرض وأحنى رأسه حتى واجهت السلم الرخامي، وقال"طوبى لأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله".

كان سيد يتدرب على لعبته أمام سريري المنزوي في ركن الغرفة، بعيدًا عن الأعين، ولو كنت امتلك حرية الحركة لنزلت من سريري وطبطبت على رأسه، كما فعلت السيدة العذراء مع برنابا في قصة فرانس. يومها قَلّتْ كراهيتي لرائحة الكلور.

وعند خروجي من العناية، تركت الكرة الزرقاء هدية له.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.