برخصة المشاع الإبداعي- بيكساباي
من المصادفات العجيبة أن طاهي الباييا الأدبي الأول ليس عربيًّا أو إسبانيًّا

بورخيس.. طبَّاخ الباييا

منشور الثلاثاء 3 يناير 2023 - آخر تحديث الجمعة 20 يناير 2023

ما بين الأسطورة والرواية التاريخية زعموا أنه فيما مضى من سالف العصر والأوان، كان الخدم في قصور الأندلس العربية يجمعون البقايا بعد إطعام السادة، ويطهونها معًا فيما سيصبح واحدًا من أمتع الأطباق الإسبانية الآن: Paella/الباييا!

لم تعد الباييا الآن مجرد بواقي وفِضَل أكل السادة، بل طبق أصلي يضم أنواعًا من فواكه البحر مع الأرز، وتحتمل الكثير من الحرية في عدد منتجات البحر، وفي إضافة خضار كالبازلاء والفاصوليا الخضراء، والدجاج أحيانًا. وتنفرد الباييا البلنسية، نسبة إلى مدينة بلنسية أو فالنسيا، بوجود لحم الأرنب.

وتعلو قيمة طبق الباييا كلما زاد عدد ما يحويه من أنواع، لكن قاسمها المشترك والحاكم، هو الزعفران، أغلى التوابل على الإطلاق.

ومن المصادفات العجيبة أن طاهي الباييا الأدبي الأول ليس عربيًّا أو إسبانيًّا، لكنه الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، الذي تخصص في تقديم طبقه الأدبي الشهي من بقايا الطبخات الأدبية السابقة، مستلهمًا آداب العالم داخل نصه، وبينها التراث الشعري والفلسفي والقصصي العربي وفي القلب منه "ألف ليلة وليلة"، مضيفًا من عنده الزعفران الأغلى من كل مكونات الطبخة.

يتعثر القراء الغربيون في الكلمات العربية داخل نصوص بورخيس، ولابد أنها تبدو لهم ضربًا من السحر، بينما نستشعر نحن العرب الراحة وشيئًا من الفخر عندما نجد لديه زهير بن أبي سلمى، المعتصم، ابن رشد، وفاتحة أبجديتنا ورمز التوحيد "الألف". زهو يماثل زهونا عندما نرد الباييا إلى ما نعتقد أنه أصلها العربي: "البقية".

ورغم أن عدد الذين تأثروا بالليالي في الآداب العالمية أكبر من أن يُحصى؛ فليس هناك من استلهم بنية المتاهة بحذق بعد مارسيل پروست مثلما استلهمها بورخيس، وإذا كان پروست استلهم البنية الكاملة، فقد رأى صاحب الإلهام الرياضي الصارم أن يلتقط الماسات الصغيرة من الليالي لتحقيق الغرض ذاته.

ما يُميِّز بورخيس على الجميع هو شجاعته التي بدت تهورًا، حيث أقام إبداعه كله على فكرة "إعادة الكتابة". في بداية حياته الأدبية، قبل أن يترسخ مفهوم التناص في النقد، وصف ما يفعله بأنه إعادة كتابة لقصص الآخرين. يقول إبراهيم الخطيب "راجع، على سبيل المثال مجموعته الألف، طبعة Emece /Alianza، وكتب في مدخل طبعة 1954 من كتابه التاريخ الكوني للفضيحة، قائلًا إن هذه الصفحات هي لعب غير مسؤول يقوم به امرؤ خجول لم يجد الشجاعة الكافية لكتابة حكايات فتلهى بتزييف أو تحوير قصص الآخرين دون عذر جمالي في بعض الأحيان".[1]

التزييف والتحوير أو "التناص" بالمصطلح الحديث مبدأ أدبي منذ القدم، وهو مبدأ عابر للغات نجده بأوضح معانيه في كليلة ودمنة، ونجده في حي بن يقظان، ونجده في ألف ليلة وليلة، نفسها مرارًا، ونراه في الكتب المقدسة.[2]

استوعب بورخيس كل شيء في الليالي، ولم يهمل ذلك الناسك المتقشف شيئًا من مباهجها سوى الطعام. استبعد موائد السلاطين المبهرة، حتى أن الوهم يمكن أن يتملكنا حال قراءة نصوصه فنعتقد أن البشر الذين يخلقهم في قصصه وقصائده لا يأكلون، بل يستمدون طاقتهم من الإرادة أو من الأقدار الغريبة التي تتحكم بهم. عندما يظهر طعام يكون بسيطًا، فشيء من أرز وفاكهة يبدو غذاءً كافيًا لجسد مكرس لمهمة وحيدة هي النوم والحلم.[3]

الحلم، المرآة، والمتاهة، الركائز الثلاث لإبداع بورخيس التي استلهمها من الليالي. نجدها مجتمعة في مقطع واحد من قصيدته، استعارات ألف ليلة وليلة:

 يتبدد الحلم وإذا بحلم آخر

يتبدد فإذا به آخر بل أضعاف بديلة

 تتشابك عبثًا فإلى عبثِ متاهة يؤدي.

 في الكتاب؛ الكتاب. دون أن يعي،

تقص الملكة على الملك قصتهما

 المنسية. لقد خطفتهما

صاعقة أسحار سالفة،

فلم يعودا يعرفان من هما.

ولا يزالان يحلمان.[4]

الثالوث البورخيسي في جوهره يؤدي إلى الواحد؛ ففي الحلم والمرآة والمتاهة، معاني التكرار والمضاعفة وعدم الوصول إلى نهاية. ذلك هو العود الأبدي. ولو لم يكن الطعام مادة مستنفدة، لكانت الباييا الطبخة التي تلبي فكرة العودة الأبدية. فلو كل طبخة "بقية" تبقت منها فضلة ودخلت في طبق بقية جديد، والطبق الجديد بدوره فضَلت منه أخرى ودخلت في طبق جديد، لاستمر الأمر هكذا دون نهاية.

بورخيس، كاتب النصوص الفلسفية، الفنتازية، القصيرة، واحد من كبار المؤمنين بفلسفة "العود الأبدي" التي وضع أساسها أفلاطون. في قصصه يأتي الخلود من التكرار، حتى انتهى في كتاباته إلى أن تاريخ الكون ليس سوى تاريخ رجل واحد يتكرر باستمرار، وقد وجد في الليالي الكثير الذي يتطابق مع رؤيته.

تلبي الليالي، أكثر من أي أثر أدبي آخر، تصور مُشيِّد المتاهات الصغيرة للزمن الدائري والعود الأبدي لبشر يتتابعون ويرتكبون الأخطاء ذاتها ويجترحون الحلول نفسها، فالتصق بها حتى لتبدو كتاب حياته، ونرى آثارها في متاهاته الزمانية البارزة جدًا في نصوص "الألف" وقصص مثل حديقة الطرق المتشعبة، ومكتبة بابل.

يعزل حكاية أو موقفًا صغيرًا من إحدى قصص ألف ليلة وليلة، ويضعه في مسارات مختلفة تُفضي إلى احتمالات جديدة متعددة. لا يؤمن بورخيس سوى بالكثافة لذا لم يكتب الرواية. "ويقول عن منهجه في كتابة قصصه: من الهراء والمضني والفقير أن تؤلَف كتب ضخمة وأن تُمط الفكرة في خمسمائة صفحة بينما يستغرق عرضها الكامل شفاهة عدة دقائق ومن الأفضل التظاهر بأن هذه الكتب قد أُلِفت بالفعل والاكتفاء بعرض ملخص لها أو تعليق عليها".[5]

رغم قصر نصوص بورخيس، فإن مكان وزمان الحكايات البورخيسية شاسعين يشملان جغرافيا وأزمان ألف ليلة وليلة

لهذا لم ينجذب بورخيس إلى البناءات المركبة والقصص المتوالدة في الليالي إلا ليلتقط منها موقفًا أو ثيمة صغيرة. كمثال على ذلك تعامله مع "حكايات من الأندلس" وهي قصة تقع في أقل من صفحة[6] فضلًا عن تماثيل الفرسان العرب كان القصر زاخرًا بالنفائس والتحف العجيبة، لكن ماذا اختار بورخيس من تلك النفائس؟

مرآة! اختار المرآة التي يرى الناظر فيها الأقاليم السبعة للأرض. لم يُفوِّت تلك الأعجوبة التي تذكرها القصة في جملة واحدة؛ لأنها تُلبي رؤيته للمرايا التي تفيد التكرار ولها خصائص مخيفة مثلها مثل الحلم والجماع، والتيه.

رغم قصر نصوص بورخيس، فإن مكان وزمان الحكايات البورخيسية شاسعين يشملان جغرافيا وأزمان ألف ليلة وليلة، وفوقهما أماكن وأزمان لم تبلغها الليالي، اكتسبها من قراءاته الإنجليزية والإسبانية والألمانية، دون أن يقوم من مكانه: إنه سليمان الأدب الذي تأتيه عجائب العالم دون أن يبرح مكتبته.

الفهم والولع غير المسبوقين بألف ليلة والشعر والمرويات العربية، لم يجعلا بورخيس واحدًا من كبار مستلهمي ألف ليلة فحسب، بل من كبار مفسريها كذلك، على أن نأخذ في الاعتبار ذلك التناقض المُلهم في تكوين بورخيس بين السوداوية والمزاح، وهو التناقض الذي يجعله يبحث عندما يؤلف، ويؤلف عندما يبحث، يخلط المقال بالقصة بالشعر، ويخلط الجد بالمزاح العميق، لهذا نجده يُخضع المشاهد التي يتوقف عندها في إبداع الآخرين إلى مرآة محدبة تبدو الصور فيها على غير حقيقتها، مختلفة الأبعاد، وكاريكاتورية أحيانًا، ويحلو له أن يستخلص ما يريد فيلجأ إلى التعمية ربما، وربما يكون مصدر العماء الترجمات التي قرأ الليالي عبرها.


[1] إبراهيم الخطيب، مقدمة مختاراته العربية من قصص بورخيس "المرايا والمتاهات" دار توبقال، الدار البيضاء 1987، وقد ترجم فايز أبا الكتاب المذكور تحت عنوان التاريخ الكوني للعار، وصدر عن دار شرقيات، القاهرة، 2000.

[2] ارتبط التناص كمفهوم بالناقد الروسي باختين (1895- 1975) وتبلور كمصطلح مع البلغارية چوليا كرستيفا (1941- …) التي تقول بأن كل نص يتضمن صدى لنصوص سابقة، ومن أشهر باحثيه من بعدها الفرنسي جيرار جينيت (1930- 2018)، لكن المفهوم قديم عربيًّا، وقد خصص له عبد القاهر الجرجاني (توفي 1078) في "أسرار البلاغة في علم البيان" فصلًا تحت عنوان "في الاتفاق في الأخذ والسرقة والاستمداد والاستعانة".

[3] الإشارة هنا إلى طعام الراهب في قصة "الخرائب الدائرية" في كتاب "المرايا والمتاهات" ترجمة إبراهيم الخطيب، وقد ترجم محمد أبو العطا القصة تحت عنوان "الأطلال الدائرية" ضمن مختاراته المعنونة "كتاب الألف" شرقيات 1998. وتحكي القصة عن كاهن فارسي أراد أن يحلم بابن له، وقد تحقق له ذلك وأنجب ابنًا من حلمه، ثم اكتشف أنه نفسه حلم رجل آخر.

[4] قصيدة "استعارات ألف ليلة وليلة" لبورخيس، ترجمة يوسف ديشي، مجلة فصول، المجلد الثالث عشر، العدد الثاني، صيف 1994.

[5] محمد أبو العطا، من تقديمه لـ "كتاب الألف" نقلًا عن مقدمة بورخيس لـ "حديقة الطرق المتشعبة" بوينس آيرس، 1942.

[6] الليلة 271، طبعة بولاق.