
أصوات الأذى.. جمهورية الضوضاء في زمن انعدام الهيبة
في مذكراته يحكي نوبار باشا كيف استطاع محمد علي إثبات جدارته وبناء دولة حديثة بالصرامة في تطبيق القوانين والفرمانات. هناك العديد من القصص، أهمها ما يتعلق بالمساواة بين المسلمين والمسيحيين.
نجح في بسط سلطة الدولة على كامل أرضها، الأمر الذي مكَّنه من تأمين طريق القوافل التي تنقل البضائع عبر سيناء بين البحرين الأبيض والمتوسط. وذات يوم تبين اختفاء أحد الجمال من قافلة، وسبَّب هذا الاختفاء استنفارًا في الدولة، وانتهى التحقيق والبحث إلى أن الجمل ضل طريق القافلة وشرد يرعى بحمولته كما هي.
ليس الحكم الديمقراطي وحده الذي يحتاج إلى إقناع مواطنيه بجدواه كنظام حكم. الاستبداد أيضًا بحاجة إلى إثبات جدارته، رغم أن الرعايا مجردون من صفة "الناخب" التي تجعل الحكم الديموقراطي يراهم جيدًا ويضع رغباتهم في حساباته.
مملكة الميكروباص
جدارة الاستبداد تنبع من إمكانية توصيفه ضمن نسق واضح منسجم يمكن أن تفهمه الرعية، حتى لو كان ظالمًا، وهذا هو سر المثل السائر "المساواة في الظلم عدل".
لا يمكن لنظام أن يكون مهابًا، لمجرد أنه شديد البطش بمعارضيه السياسيين، بل لا بد له من الشدة ذاتها في تحقيق الأمن العام وضبط الأسعار والفصل بين أطراف المجتمع والتصدي لمختلف أنواع الفوضى ليقنع الرعية بأن للدكتاتورية ميزةً ما في النهاية ويحقق لها أمان القفص.
وربما تبدو "فوضى الأصوات" ظاهريًا أهون أنواع الفوضى، لكنها خطيرة في الحقيقة علاوة على أنها تفضح غياب النسق المقنع بالجدارة.
أتابع الظاهرة الصوتية منذ عقود، ضمن اهتمامي بالحواس بوصفها الطريق الأصدق لمعرفة العالم ورصد الظواهر السياسية. في قلب الفوضى التي تعيشها المدن المصرية تبرز مملكة الميكروباص. كان مجرد ظهور هذه الوسيلة الأقل احترامًا علامة على انسحاب الدولة من مسؤولياتها في النقل، ومع الوقت بدا الصمت على ممارسات السائقين علامةً على انسحاب الدولة من مسؤولية الضبط والربط.
تغفل الحكومة عن المجهود الدعوي لسائق الميكروباص لكنها تساعده على أكل الفكة
الفوضى الصوتية، أبرز ما في ظاهرة الميكروباص. الكلاكس هو المظهر الخارجي من توحشه، يخيف المارة وشركاء الطريق من المركبات الأخرى. وفي داخل العربة نسق آخر من الأصوات مفروض على الركاب، قليلًا ما يكون الغناء الرديء الصاخب، لكن في الغالب تلاوة القرآن (ترتيلًا لا تجويدًا) أو خطب قد يكون أصحابها أنفسهم في السجن أو تحت التراب أو ممنوعين من الخطابة. ولا يتعارض كفاح السائق لنشر الإسلام مع قدرته على أكل "الفكة" من أموال الناس بالباطل.
تغفل الحكومة عن المجهود الدعوي للسائق، لكنها تساعده على أكل الفكة. كانت التسعيرة دائمًا تتضمن كسورًا يتهرب السائق من دفعها لغياب الفكة. كانت في السابق كسرًا في الجنيه الواحد، وبعد مرمطة الجنيه أصبح الكسر جنيهًا أو عدة جنيهات تتمم للخمسات والعشرات، لأن الأجرة أصبحت 14 أو 16 جنيهًا!
غيبة الهيبة
التساهل مع أصوات الشوارع الرئيسية مستمر منذ عقود، تتساهل معه الإدارة بسبب إرهاق الشرطة ربما أو لاعتقاد السلطة أنه لا يأكل من مكانتها أو ينتقص من هيبتها، وهذا غير صحيح بالمرة؛ فالصورة التي يقدمها التساهل مع الفوضى الصوتية تكشف عن صورة دولة ضعيفة وفاسدة تفتقد السيطرة على أدواتها في إعمال القانون.
في فترة حكم مبارك كانت لمصر صورة الدولة الرخوة، لكن الرخاوة كانت نسقًا منسجمًا مع ذاته؛ فهناك بعض الرحمة والتساهل مع أصوات السياسة كما التساهل مع كلاكسات السيارات.
أما اليوم فيقدم افتقاد النسق صورةً هزليةً. الشدة ضد الصوت الذي يجهر بالرأي مقابل التساهل المبالغ فيه تجاه الأصوات التي تنهك راحة المواطنين وتبدد طمأنينتهم، لا يمكن أن يرسي الهيبة.
الغريب أن الفوضى تتمدد، فلم تعد تقتصر على الشوارع الرئيسية فحسب، بل تتغلغل في الشوارع السكنية، ولم يعد الإضراب عن الخروج بمنجاة لصاحبه من عصف الأصوات، منذ الصباح الباكر.
يبدأ نهاري بجامع الروبابيكيا. يأتي في التاسعة صباحًا بندائه المختصر كخيط اتصال ضعيف بين الحاضر والماضي. النداء "بيكيا.. بيكيا" أقدم من الجمهورية الأولى، وأعجمي يشير أصله الإيطالي إلى موقع مصر بين دول حوض المتوسط عندما كانت وجهة للهجرة من اليونان وجنوب إيطاليا الفقير وكانوا يأتوننا آمنين، اليوم أصبح أبناؤنا يغامرون بحياتهم للسفر عبر البحر إلى إيطاليا المغلقة في وجوههم هي وسائر بلاد الاتحاد الأوروبي، ولم يبق من شواهد الهجرة المعاكسة سوى نداء البيكيا.
تتوالى أصوات جامعي الروبابيكيا على مدار اليوم يمشطون الشوارع مسلحين بالميكروفونات
لا يمنعني هذا النداء الأول اللطيف، الذي يكون عادة دون مكبر صوت، من مواصلة النوم. لكن في العاشرة يأتي النفير الأول. صوت جهوري حد البلطجة لبائع فطير معزز بمكبر صوت لا داع فعلي له: العسل والطحينة، عسل أسود وطحينة بيضا، وجبنة قديمة والفطير المشلتت، الفطير السُخن الفلاحي. ويمد كلمة "الفلاااااحي" إلى حد إيلام جدران العمارة.
الرجل الذي أتلقى أذاه الصوتي منذ سنوات في مدينة نصر صادفته يومًا في روكسي، واكتشفت المدى الذي تبلغه حدود مملكته. ربما يغيب يومًا لكنه يأتي في اليوم التالي، فأعرف أنني سأحظى بنهار سيئ، لهذا أحب أن أباغته بالاستيقاظ قبل ظهوره.
جربت أكثر من مرة أن أطل من الشرفة وأتتبعه إلى أقصى مدى رؤيتي من الجهتين، قادمًا وموليًا ولم أر على امتداد الشارع الطويل أحدًا يستوقفه أو يشتري منه، وحتى الآن لست متأكدًا من أن الشيء المغطى في صندوق التروسيكل خلفه هو فطير حقًا، أو ربما كان هناك بعض الفطير الذي لا يهتم ببيعه. أفكر بأنه ربما يكون ديلر مخدرات أو مخبرًا. لكن بنيته الجسدية القوية والثقيلة تناقض مواصفات جسد الديلر كما أتخيله خفيفًا قادرًا على المناورة والفرار.
فاض غضبي ذات مرة، وصرخت فيه بأنني أسمعه قبل أن يصل من مصر الجديدة، وأن صوته الطاغي ليس بحاجة إلى مكبر صوت، لكنه نظر إليَّ بثبات المستعد للقتال وواصل نداءاته بالإيقاع ذاته متلكئًا في الانصراف.
بعد الفطير، ستتوالى أصوات جامعي روبابيكيا على مدار اليوم، يختلفون عن الرجل الذي ابتدأ النهار. كلهم مسلحون بالميكروفونات يواصلون تمشيط الشوارع وكأن البيوت تثمر روبابيكيا كل لحظة، من سحناتهم تعرف أن بينهم الريفي والمديني، تتباين مركباتهم من عربة اليد إلى التروسيكل والعربة نصف النقل. أحصي نحو عشر دورات لهؤلاء على مدار النهار، ومن غير النادر أن يتقابل اثنان أمام بيتي. أو يتقاطع صوت منادي شارعنا مع منادٍ في الشارع الخلفي.
مواسم.. مواسم
يتبادل مع تجارة الروبابيكيا السيطرة على المجال الصوتي، باعةُ الخضر والفاكهة الذين تكشف نداءاتهم عن تطور الأسعار ومواسم الثمار. وكلهم مسلحون بمكبرات الصوت، بعضهم ينادي على الهواء مباشرة، وبعضهم يدير تسجيلًا، فيهلك السكان دون أن يتعب. أصبحت أطل عليهم بابتسامة وإشارة إلى التليفون على أذني فيعتذر المهذب منهم ويتوقف عن النداء لثوانٍ، ثم يستأنف بعد أن يبتعد خطوتين.
في الربيع، يظهر فلاح يحمل على رأسه مشنة ورق العنب، فيحملني إلى عنب الذكريات الذي ضحيت بورقه وثمره في سبيل العيش في القاهرة. قد يأتي مرة أو مرتين في العام ثم يختفي، فأعيش بقية العام في حنين إلى الربيع وإلى كل ما مضى من عمري.
المشمش عزيز جدًا، لا يعاني من الوفرة إلى حد الدوران به واستجداء المشترين، وهذا يضاعف حبي له، ويجعلني منتبهًا إلى موسمه وأتمنى لو أن مناديًا ينادي عليه مرة. البطيخ على العكس، ثقيل الظل، موسمه طويل كالأيام السوداء، ومثله موسم الذرة المشوية، لكن عدد السريحة بالذرة المشوية لا يقارن بعدد باعة البطيخ، الذين بدورهم يختلفون عن جميع الباعة والمتسولين، بأنهم مسلحون بالسكاكين إلى جانب مكبرات الصوت: ع السكين يا بطيخ. هل يمكن للزبون أن يبدي عدم إعجابه ببطيخة بعد أن شقتها السكين؟!
بين ميكروفون بطيخ على عربة كارو وآخر على عربة نقل، سيصدح ميكروفون مُميز؛ صوت عربة لحوم تحيا مصر، وهذا يخاطب الناس بـ"أهالي المنطقة الكرام" ثم يبدأ في عرض بضاعته في صيغة من يزف بشرى: كيلو اللحم البلدي بكذا، كيلو الكبدة، كيلو السجق.
هذه البشارة الصوتية تكرر عمل بشارات في أكشاك عشوائية لهيئات في الدولة، تمارس التجارة تحت عباءة الإحسان، ترفع على جدرانها الصور المرصعة بالنياشين وشعارات "كلنا واحد" و"محاربة الغلاء" وأشياء من هذا القبيل.
الفرق بين المتجر المرتحل في عربة والثابت في كشك هو الفرق بين الصوت والصورة. لكن كليهما يمثل حصة النظام في نشر العشوائية التي يدعي محاربتها، والمهن الطفيلية التي يكرهها في الوظيفة، والأهم أن هذه التجارات الإحسانية تكشف أولويات المرحلة وتحدد قامتها التي تعجز الأغاني وخطب نجوم الأمنعلام في جعلها أرفع مما هي عليه ولو قليلًا.
زيت مستعمل للبيع
تحتل أصوات عربة اللحم المعروض في الحر فترة الظهيرة، ومع طراوة العصر تنطلق أصوات جامعي الزيت المستعمل، وهذه صدفة تشبه العمد، لأن فوح الزيوت المحروقة من شأنه أن يكون أفظع تحت حر الظهيرة.
بدأت هذه التجارة عام 2020 على ما أتذكر، بسعر عشرة جنيهات للكيلو على ما أتذكر أيضًا، وكان ذلك يساوي سعر كيلو الزيت النقي قبل أشهر قليلة، فكانت الظاهرة مذهلة. الآن وصل سعر كيلو المستعمل إلى خمسة وثلاثين جنيهًا لكن شيئًا لم يعد يثير الدهشة.
وخلال سنوات خمس لم يظهر أي صوت حكومي، يقول للناس إن كان هناك مسار آمن لهذا الزيت أم أنه يعاد تسريبه للأسواق. كانت هناك مبادرة وحيدة في يناير 2021 بعنوان إنتي البداية تبنتها وزارة البيئة مع إحدى الشركات، تخاطب ربات البيوت لتسليم الزيت المستعمل مقابل عبوة جديدة. وزعمت المبادرة أن الزيت المستعمل سيذهب إلى صناعة شحوم المعدات. ولم يسمع أحدٌ من بعد عن مصير هذه المبادرة، لكن تقاريرَ صحفية متعددة نُشرت حول الظاهرة نقلت ادعاءات التجار دون تمحيص، وبينها ادعاء أن هذه الزيوت تُجمع للتصدير إلى فرنسا وإنجلترا، في مقابل ادعاءات أخرى بالتصنيع في مصر، لكن ظلت إمكانية إعادة التدوير بعد التبييض قائمة دون نفي أو إثبات.
تستحق هذه التجارة مقالًا خاصًا، إذ يبدو الإهمال الرسمي لها أحد مظاهر ازدراء الناس والاستخفاف بصحتهم. لكنني أتعرض لها هنا ضمن الظاهرة الصوتية، التي يجب ألا أنسى فيها موتوسيكلات توصيل الطلبات، ولا الأصوات الموسمية كطبلة السحور في رمضان، لم يعد أحد بحاجة إليها لكنها فلكلور تتغنى به الموضوعات الصحفية الموسمية، أو مكبر صوت لرجل يطلب كفنًا من داخل تاكسي أو امرأة تطلب علاج ابنها من السرطان، مسلحة بعتاد يتكلف الكثير: سيارة وسائق وميكروفون!
يؤطر ديلر الفطير في الصباح وذلك الشحاذ القوي في الليل ساعات اليقظة.. مشادة واحدة مع كل منهما علمتني التفاوض مع الباعة الآخرين
مؤخرًا، منذ رمضانين أو ثلاثة بدأت في مدينة نصر فرقة طبل ومزمار، لا علاقة لها باحترافية موسيقى الشارع التي نراها في دول أخرى، مجرد ضوضاء عنيفة تثير الخوف لا الطرب. وبين وقت وآخر يتوقف الدق من أجل صيحة "كل سنة وإنت طيب" ينطق بها الرجال الأشداء الستة الذين تتكون منهم الفرقة، صيحة عنيفة مهددة لا مستجدية.
يؤذن المغرب دون أن ينصرفوا، فيقع السكان في الحرج والله أعلم بحال إفطارهم في هذه السنين العجاف. بدأت الفرقة تمد نشاطها خارج رمضان بين وقت وآخر. لا أعرف في أي ساعة من النهار يبدأون تجريدتهم على حي مدينة نصر، لكنهم يصلون إلى شارعي ليلًا في أحيان كثيرة. وعندما يغيبون ينوب عنهم متسول ستيني قوي البنية. وقت مروره المعتاد منتصف الليل وليس بحاجة إلى مكبر صوت. يزعق: يارااااب، بقوة لا تتناسب مع مقام الأدب مع الله، وتبدو توبيخًا للمتأهبين للنوم. يؤطر ديلر الفطير في الصباح وذلك الشحاذ القوي في الليل ساعات اليقظة. مشادة واحدة مع كل منهما علمتني التفاوض مع الباعة الآخرين.
بعد أن تنسحب الأصوات البشرية وأصبح منهكًا تمامًا، تتكفل معارك الكلاب لساعات بتغطية الوقت المتبقي من الليل، لأن النظام يدخر كل طاقته من الشفقة للكلاب الضالة. جربت ملاذات آمنة للكتابة دون جدوى.
بالنتيجة أعيش كما يعيش غيري في كل مكان تحت عصف الأصوات، أتعلم التفاوض من أجل لحظة هدوء وكأننا نعيش هكذا متجاورين بالصدفة دون رابط يربطنا، أو نظام يرعانا، نتفاوض من أجل لحظة هدوء. بالأحرى نعيش في حالة دفاع عن النفس، لا نستطيع أن نسمع أنين غزة أو ليلى سويف.