تصميم: يوسف أيمن- المنصة

إعادة تدوير منازل الآخرين: براح الاستقلالية في ثلاثة أمتار

منشور الثلاثاء 14 سبتمبر 2021

"أقيم في داري الخاصة، لا أريد أحدًا وأسخر من كل معلِّم لم يسخر من ذاته بعد".

كان هذا أحد الاقتباسات التي قرأتها في مكان ما لنيتشه، وأعجبني لدرجة أنه كان بمثابة شهادة الميلاد المعلقة على شبكة من الأسلاك المعدنية كانت في ذلك الوقت حائط بيتي الذي لا يتعدى الثلاثة أمتار عرض وقرابة المترين ارتفاع. إنها صومعتي الحبيبة.

بعد انتقالنا إلى نويبع وأنا بعمر الخامسة تقريبًا و في بداية عامي السادس عشر، وكأي مراهق عاشق فى بيت أهله منذ الطفولة، كانت غرفتي هي عالمي الوحيد الذي حلمت بأن يكون منفصلًا عن الأهل والأقارب والزيارات غير المتوقعة وبالتأكيد انتهاك الخصوصية.

فكرت في حل عملي للأمر، لكنني لم أكن أملك عملًا يسمح لي بذلك الاستقلال المنشود، فالاستقلال قبل كل شيء يجب أن يكون ماديًا بالأساس حتى تستطيع التحكم بالفعل في زمام حياتك، وما دون ذلك هو مجرد محاولات ضائعة.

في نويبع، حيث كنت أعيش، هنالك الكثير من المساحات الفضاء لكنها صحراء في معظمها، ولا تتوفر فيها الخدمات الأساسية إلا في التجمعات السكنية الحضرية، وفي عصرنا الحالي لم تعد فكرة الإقامة الدائمة في البادية عملية أو سديدة حتى، ربما يستطيع المرء قضاء الليل في الوديان الفسيحة أو " البَر " كما نسميه، هربًا من الحرارة الشديدة طوال الصيف.

 

حامل أطباق معدني تم استخدامه كأرفف مكتبة داخل الصومعة. تصوير الكاتب 

كان عليَّ إذًا البحث عن مكان لا يبعد كثيرًا عن العمار وفي نفس الوقت يحقق الاستقلالية المجانية كما أسميها، وبعد عدة أيام من البحث، لم أجد مكانًا يحقق الشرطين معًا، و لأنني أمتلك هواية غريبة بعض الشيء، وهي البحث في القمامة عن الأشياء التي يمكن إعادة استعمالها، فقمامة أحدهم قد تكون كنزًا بالنسبة لآخر كما يقول المثل الأمريكي، ساعدتني هذه الهواية في الوصول إلى ما أسميه جمالية المُهمَل، وفي إحدى جولاتي المعتادة بالقرب من بيتنا، وجدت أرض فضاء بين عمارتين، كانت تلك اللحظة بمثابة الومضة التي أضاءت طريقًا مظلمًا من البحث، وأخيرًا وجدت حلمي المنشود، إنما تبقى مشكلة واحدة، وهي كميات كبيرة من القمامة التي كُدَّست في المكان.

عاشق إعادة التدوير

شعرت بأنني وقعت على الكنز الذي سيمكنني من بناء حلمي، تجولت في المنطقة التي كانت،  وللمفارقة، في خلفية حديقة عامة مهجورة، كانت عملية فرز أكوام القمامة تلك، محفوفة بالمخاطر الصحية ولاشك، لذا فهي تستوجب الحذر، وكما يقولون فإنه يمكنك التعرف على نمط حياة شخص ما من قمامته، حسنًا كان عليَّ التعرف على كثير من الأنماط.

أولًا كان على التخلص من الأشياء التي لن أتمكن من استخدامها، إما بسبب حجمها أوالمادة المصنعة منها، كالأقمشة التي كانت مهترئة في معظمها والأكياس البلاسيتيكة غير القابلة للتحلل.

استغرق فرز هذه الأكوام شهرًا من العمل اليومي من شروق الشمس وحتى مغيبها، ولا زلت من المتحمسين لفكرة الإستجابة للطبيعة في عاداتنا اليومية، فالطيور مثلًا تستيقظ مع شروق الشمس و تنام مع غروبها أو يخف ضجيجها على الأقل، إنما نحن البشر لا نتوقف أبدًا عن الضجيج.

وبعد الفرز أصبح لديَّ أكوام قمامة جديدة لكنها مقسَّمة هذه المرة، ورغم الأكوام التي بدت هائلة في بداية مشروع الاستقلال، فإنها أنتجت القليل من المواد التي تصلح لإعادة الاستخدام، فتوجب عليَّ البحث عن المزيد منها في المدينة كلها، وهو أمر يحتاج المواظبة والسرعة، ففي مدينتنا الحدودية الصغيرة تُزال حاويات القمامة بانتظام يوميًا، كما أن الخبرة التي اكتبستها من الفرز السابق علمتني أن الحصول على مواد جيدة لإعادة الاستخدام من القمامة المنزلية يعد أمرًا صعبًا، فتوجهت للأماكن المهجورة والفارغة، وهي كثيرة، نظرًا لنشاط حركة السياحة سابقًا في المدينة، لكن بعدما تغيرت الوجهات السياحية المفضلة للزائرين، ورويدًا رويدًا أصبحت نويبع مدينة لأولئك الراغبين في وحدة هادئة وطبيعية، بلا أي مظهر من مظاهر التمدن المعروفة.

 

بقايا مطبخ خشبي قديم، تم إعادة تدويرها لحفظ الكتب. تصوير الكاتب 

خلف ذلك الكثير والكثير من الأماكن شبه المتهدمة التي غادرها أصحابها بحثًا عن أماكن أفضل للعمل، وفي تلك الأماكن وجدت ضالتي المنشودة أو المكسورة كما كنت أسميها، فكل الأشياء التي وجدتها ملقاة في تلك الأماكن كانت إما مكسورة بشكل جزئي أو مهشمة بالكامل، وبعد أسبوعين من البحث، نجحت في الحصول على أشياء كثيرة يمكن إعادة استخدامها، كمطبقية معدن صدأة يمكن استخدامها كحامل للكتب بعد إزالة الصدأ ودهانها، وأدراج خشبية كبيرة، تبقت عن مطبخ قديم تصلح لأن تكون مكتبة صغيرة بعد بعض التحسينات الخفيفة،  وفي إحدى المرات التي حالفني فيها الحظ كثيرًا وجدت خيمة من الصوف المتهالك ملقاة على جانب الطريق، لم أكن أحتاج منها سوى أربعة أمتار، فاخترت الجزء السليم الباقي منها وقصصته، لتصبح عندي أول سجادة من الصوف المعتبر.

الآن وبعد تجميع مواد البناء توجب البحث عن الأساسات، حسنًا، هذه مهمة صعبة لم أكن أستطيع القيام بها وحدي، فاستعنت ببعض الأصدقاء الأوفياء، الذين رافقوني في رحلة بحث داخل الحديقة المهجورة المجاورة لتجميع سعف النخيل الواقع على الأرض، كان جافًا ومليئًا بالكثير مما يشبه المسامير المدببة الصغيرة على حواف السعفة بالقرب من بدايتها، كانت عملية مليئة بالكثير من الجروح الصغيرة في الأماكن الظاهرة كاليدين والساقين، الا أن سعف النخيل ذلك شكَّل السقف الأقوى والأمتن لسكني الجديد.

بقيت مشكلة الجدران التي اقترح بشأنها أحد الأصدقاء، أن يحضر لي شباكًا معدنية قديمة كانوا يستخدمونها كسياج لحديقتهم، وكانت تلك أغلى هدية بحياتي حينذاك. الآن وبعد أن أصبحت المنطقة نظيفة ممهدة، بعد فرز القمامة، ودفن ما يصلحها منها ليكون سمادًا عضويًا، أصبح عندي مكانًا لبيتي الحقيقي، بالطبع طول السياج المعدنية التي شكلت الجدران كان هو الحاكم في تحديد المساحة الصغيرة نسبيًا والكبيرة بقلبي وروحي، وفي غضون أسبوع أصبحت "الصومعة" جاهزة للاستخدام حتى إننى أحطتها بسياج من أوراق شجرة اللبلاب، سريعة النمو،  لتمنحها خصوصية عن الشارع، كما زرعت بذور شجرة ظل أحضرها لي أحد الأصدقاء.

 

صندوق معدني صدئ تم إعادة استخدامه لحفظ الكتب. تصوير الكاتب 

كان كل شيء في تلك الصومعة معاد استخدامه، من " الجدران" التي خيطت فيها شكائر بلاستيكية ملونة تعكس ضوء الشمس بألوان مختلفة، وحتى السقف الذي غطاه سعف النخيل الجاف، والسعف مفيد في اتقاء حرارة الصيف وكذلك في تجديد الهواء بالمكان، رتبت الكتب كلها حتى تحيط بي من كل جانب، واستعملت درجًا معدنيًا كمكتب صغير، وأكثر ما أثرَّ بروحي في تلك الفترة، هي هدايا الأصدقاء التي كانوا يغمروننى بها احتفالًا بانتهاء العمل في الصومعة، فأحضر أحدهم طقمًا للشاي، والشاي في عرفنا المشروب الرسمي واليومي، ولأنني من محبي الموسيقى الكلاسيكية اشتريت راديو مستعملًا يعمل بالبطارية، حتى أتمكن من سماع إذاعة البرنامج الموسيقي.

 

لم تتوقف زيارات الأصدقاء لصومعتي أو "مجعدي/ مكاني" كما نقول باللهجة الدارجة، وكلهم كانوا يساهمون في استكمال أشياءها الناقصة بكل حب وإخلاص، حتى إن والديَّ بعد فترة أبديا إعجابهما بالأمر رغم الرفض القاطع الذي واجهاني به خوفًا مما ستقوله الناس عن ابنهم الذي هجر البيت ليقيم في الشارع، رغم أنى لم أشعر يوما داخل ذلك المكان الصغير بأننى في الشارع بل ربما كان هو أكثر الأماكن خصوصية وأمان وقربًا لقلبي من غرفتي الأولى. 

أصبح لدي الآن مكانًا مستقلًا أستطيع أن أكون فيه على طبيعتي وأعيش وفقًا للعالم الذي أحبه، دون أن يزعجني أحد، والحق الحق أقول لكم، إن الاستقلالية المبكرة في الحياة علمتني الكثير من الاعتماد على النفس، وإمكانية تحقيق الأحلام مادمت تملك إيمانًا قويًا بها وإرادة قوية لتحقيقها، فحتى القمامة يمكنك أن تخرج منها شيئا مفيدًا، كل شيء أعدت استخدامه في تلك الصومعة، شكَّل جزءًا لا يُنسى من روحي و نظرتي للعالم، فكلما رأيت شيئًا أحضره صديق شعرت بعمق الرابطة التي تجمعنا بالآخرين دون سابق معرفة، ورغم أنني لم أستطع يومًا أن أقف "مفرودًا " في تلك الصومعة لصغرها، إلا أنها كانت كل العالم بالنسبة لي وظلت تحتل مكانًا صافيًا لا يُنسى بذاكرتي، وعلمتنى أن الاستقلالية أفضل طرق الحياة، فكانت دافعي الأساس في السكن وحدي بعدما جئت إلى القاهرة رغم أن السكن مع شركاء كان أرخص ماديًا، إلا أنه كان سيحرمني من براح الاستقلالية البديع.

 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.