في إحدى محاضرات مادة النساء والتوليد عندما كنت طالبًا في كلية الطب، تحدث المُحَاضِر عن عملية جراحية معينة. وكجزء من الدرس، كان عليه أن يشرح الدواعي التي تجعل المريضة بحاجة لهذه العملية، فقال إن الداعي الأول لإجراء تلك الجراحة؛ هو دفع قسط السيارة.
القصة تبدو طريفة بالطبع، ولعل الدكتور قال ذلك على سبيل الفكاهة وكسر الحاجز بينه وبين الطلاب. لكن الدعابة نفسها -بالتأكيد- تعكس واقعًا مريرًا تفرضه إشكاليات العلاقة المادية المباشرة بين الطبيب والمريض. لعل هذا الأستاذ كان يعرّض علينا (نحن الطُلّاب) هذه الإشكالية بسخرية مُبطنة.
تنفق الأسر المصرية من جيبها الخاص ما يتراوح من 67 مليار إلى 116 مليار جنيه على الرعاية الصحية، طبقا لتقارير البنك الدولي لعام 2014، وتقرير المسح الصحي لعام 2008. هذا يعني أنه في المتوسط يُقدَّر ما ينفقه المواطن المصري من دخله الخاص بحوالي ثلثي الإنفاق الصحي العام في البلاد، بينما لا تتحمل الحكومة سوى الثلث.
الكارثة جليّة في هذا التباين المفزع في الإنفاق الصحي، ولذا يمكننا تبيُّن حجم الكارثة، دون الإسهاب في وصف عبثية تسليع الخدمة الصحية في مصر رغم الافتقار التام لمعاير الرقابة وضمان جودة الخدمة الصحية.
أما عن تمرُّد مصر – ربما لكون معدلات رخاء سكانها رائعة – على توصيات البنك الدولي ذاته، لوضع آليات وضوابط تنظيمية للقطاع الصحي الخاص، فيكفي لفهم الفلسفة وراءها أن ننظر إلى اولويات مصر في الإنفاق العام وما تتبعه عمومًا من سياسات اقتصادية. أما الأصل في الرعاية الصحية؛ فهو ألا يحدث هذا كله.
الخطأ يبدأ في العلاقة المادية (المالية) المباشرة بين المريض والطبيب. تذهب السيدة الحامل لتتابع عند طبيب النساء والتوليد في عيادته الخاصة، وتدفع رسوم الكشف والمتابعة خلال مدة حملها، ثم تدفع رسوم عملية الولادة القيصرية المُقررة سلفا.
الخدمة الصحية إذن يسبقها الدفع، والقرار الصحي يحدده المبلغ المدفوع/المطلوب. فينتهي الحال بأن ترتفع نسبة الولادة القيصرية لأكثر 52% طبقا للمسح الصحي لوزارة الصحة. في الوقت الذي تؤكد فيه منظمة الصحة العالمية أن زيادة الولادات القيصرية عن 15%، يعد مؤشرًا على تدخل طبي غير مبرر.
من هنا نجد الحل، وهو البدء بفصل العلاقة المادية المباشرة بين المريض والطبيب، بإدخال طرف ثالث في هذه المعادلة، يتولى مسؤولية التنظيم المادي للرعاية الصحية وإعادة هيكلة دخل الأطباء. هذا الطرف قد يكون حكوميًا مثل النموذج البريطاني في التأمين الصحي الحكومي الشامل، أو خاصًا مثل نموذج شركات التأمين الصحي في الولايات المتحدة. وسيؤدي ذلك إلى ترشيد الإنفاق الصحي، وتحسين المنظومة الصحية من خلال عدة جوانب:
أولها: إعادة هيكلة دخول الأطباء بشكل أكثر عدلاً، من خلال تقييم قائم على تقدير المؤهل والخبرة والمجهود وساعات العمل، وليس على قدرة الطبيب نفسه على انتزاع أكبر مقابل ممكن من مرضاه. سيؤدي هذا إلى تقارب دخول الأطباء في المستوى الوظيفي الواحد، ويمنع التفاوت المبالغ فيه بين التخصصات المختلفة، وهو الأمر الناتج عن التعامل مع الخدمة الطبية كسلعة.
فالأخصائي صاحب السلعة الأغلى والأكثر طلبًا؛ يكون دخله أعلى بكثير من الأخصائي صاحب السلعة الأرخص أو الأقل طلبًا. هذه الرؤية التسليعية تخلق مشكلتين رئيسيتين في مجال الخدمة الصحية: الأولى؛ هي ضعف وندرة التدريب والتأهيل الطبي في بعض التخصصات الدقيقة، لأن العديد من الاستشاريين والأساتذة المتخصصين فيها، يتعاملون معها كسرّ صنعة، يحتكرونه ويحجبونه إلا عن أفراد مختارين من الأجيال الأصغر. والثانية؛ هي عزوف كثير من شباب الأطباء عن التخصصات قليلة الحظ، ذات العائد المادي الضعيف. ما يخلق عجزًا شديدًا في هذه التخصصات.
وبتفكيك احتكار الخدمات الصحية، سيتوزع العائد المادي بشكل أكثر عدلا بين الأطباء، وسيصبح "سر الصنعة" ليس سرا بعد الآن. وسينعكس ذلك على تأهيل وتدريب أفضل للأجيال الشابة من الأطباء، وتحسن إقبال الأطباء على العديد من التخصصات الحرجة التي يعزفون عنها، إما لضعف العائد المادي فيها (كالطوارئ والعناية المركزة)، أو لاستحالة تعلمها والحصول على التدريب اللازم فيها لاحتكار الكبار لها (كجراحة المخ والأعصاب، وجراحة القلب والصدر).
ثاني مزايا فصل العلاقة المادية المباشرة بين الطبيب والمريض؛ هو أن الطرف الثالث (الوسيط سواء كان مؤسسة حكومية أو شركة)، سيشرف بشكل فني على قرارات الإجراءات الطبية والعلاجية، مما سيدفع إلى رأي طبي موضوعي غير مدفوع بأغراض الاستحواذ على المال. هذا سيؤدي إلى انخفاض ملحوظ في الإجراءات الطبية غير الضرورية.
فجأة ستجد أن نسبة الولادات القيصرية هبطت لتدور بالقرب من معدلاتها الطبيعية. وفجأة أيضًا؛ سيقل الطلب على إجراء قساطر القلب وأشعات الرنين والمسح الذري وعمليات الغضروف والعمود الفقري، وتحاليل الدلالات السرطانية ووصف مقويات الكبد والمناعة، وغيرها من الإجراءات الطبية المُكلِّفة التي لا يُعزز الفحص السريري الاحتياج إليها. هذا أيضا سيقلل الأخطاء الطبية والاحتيال الطبي.
أما ثالث المزايا، فتأتي من حقيقة يعرفها دارسو وممارسو الطب في مصر، وهي كون الممارسة الطبية في مصر لا تستند -في معظم الأحوال- إلى المعايير العلمية الصحيحة كالخطوط الاسترشادية العالمية مثلا.
تُعرّف هذه الخطوط بأنها بورتوكولات طبية تهدف إلى إرشاد القرارات والمعايير الخاصة بالتشخيص والرعاية والعلاج. وهي دائما مبنية على دراسات وأبحاث متخصصة، ومدعومة بأدلة قوية على فعاليتها. وبتطبيق الأطباء لهذه البروتوكولات؛ ستقل في قراراتهم نسبة الاجتهادات الشخصية غير المبنية على أية أدلة أو دراسات. وسينعكس ذلك في تحسن الخدمة الصحية المقدمة للمريض؛ عند التشخيص وفي مرحلة العلاج.
هذه الخطوط الاسترشادية بالمناسبة، تضع في عين الاعتبار البعد الاقتصادي للقرار الطبي والعلاجي، ما سيؤدي إلى ميزة ترشيدية إضافية. وبإضافة الطرف الثالث المشرف على العلاقة بين المريض والطبيب، سيزداد اتساق الممارسة الطبية في مصر مع هذه الخطوط؛ لأنها ستكون مرجع تنظيمي يُحتكم إليه بين الطبيب والجهة المشرفة، والتي ستكون محترفة وقادرة على فرض هذا النوع من الرقابة الطبية، على عكس المريض الغير متخصص.
رابع الميزات ستظهر عند زيادة التعامل المبني على الخطوط الاسترشادية، فهذه المحددات العلمية الدولية وفرضها عبر رقابة صارمة، ستزيد من استيعاب هذا المفهوم بين الأطباء في مصر. وعلى أساس هذه الممارسة؛ ستبدأ ممارستنا الطبية في تنظيم نفسها لإجراء الدراسات والأبحاث العلمية اللازمة لبناء هذه الخطوط محليًا، ومن ثم تطوير خطوطنا الخاصة لتي تناسب الاختلافات الطبيعية للشعب المصري، والتي قد لا يتناسب معها بالضرورة الإرشادات الأجنبية.
بهذا يمكن لخطوة واحدة أن تطلق تفاعلاً متسلسلاً، تؤدي محصلته إلى تغيير مفهوم الرعاية الصحية في مصر وتحسينها بشكل جوهري. خطوة بسيطة هي؛ يمكن حتى تطبيقها على القطاع الخاص لأنها لا تفرض إرثا إشتراكيا – لا سمح الله –، ولن تمس مكاسب "فطاحل الأطباء". خطوة لا تعلن تمردًا ثوريًا على سياسات البنك الدولي ولن تثير حفيظته وتوقف مضخة القروض الخانقة.. خطوة قائمة بالأساس على النظر إلى الرعاية الصحية كحق إنساني أصيل، الأمر الذي تدعو إليه بالمناسبة كل الاتفاقيات والمواثيق الدولية التي وقعت عليها مصر. هذه ليست حتى خطوة خيرية؛ لكنها تنظر للرعاية الصحية فقط من منظور مصلحة المريض.
ولكن الإشكالية الأكبر ليست في مفاضلة هذه الخطوة مع تلك، ولا في وجود اقتراحات لتحسين المنظومة أو لا. الإشكالية تكمن في الإدارات السياسية المتتالية التي لا ترحم شعبًا ضعيفًا ترزح فئة مهولة منه تحت الحذاء الثقيل للفقر المدقع.
إدارات سياسية أصبحت لا تحب أن تتنزل رحمة الله على الناس، في شكل اجتهادات فردية من منظمات خيرية ومدنية وسيطة، تحاول أن تلملم حطام المجتمع بعد هجمة السلطة الطاحنة عليه.
الإشكالية أيضا تكمن في تحالفات المال والسلطة المستفيدة من سُعار النظام الاقتصادي المطبّق في المجتمع، هذا التحالفات التي تتحكم في منهجية اختيار القيادات، ووضع الخطط والرؤى الاستراتيجية. والتي من الواضح أن رؤيتها الأساسية هي تمكين أكبر لتحالفات الفساد فقط.