إذا كان هناك ما يُعدُّ اكتشافًا أضاف لي زوايا غير مألوفة للنظر إلى حياتي الشخصية، وممارساتي الثقافية والحياتية، ومراجعة أفكاري وأفكار المجتمع من حولي والمصالحة بينهما؛ فسيرجع الفضل لاهتمامي بعلم الأنثروبولوجيا، أو "علم الإنسان".
كان هناك عِلمٌ يسير بجانبي ولكني لم أقترب منه، يقرأ ممارسات حياتنا ويصنفها، ويسعى لتفسيرها. فالممارسة ليست نزوعًا فرديًا ولكنها تراكم معرفي كامن في جسم هذه الجماعة، ماضيها ومستقبلها.
يؤصل هذا العِلم نظريًا وحسيًا لهذه الممارسات وعلاقتها بالجماعة الكبيرة، إذ كان طوال تاريخه يلعب دور الممثل لآخرَ لم يكن مُعيَّنًا بالنسبة لي في ذلك الوقت من التسعينيات بهذا الوضوح. حاضر ماديًا، لكنه غائب نظريًا.
كنت أحتاج إلى موضوعية هذا العِلم في وقت لم يكن هناك إلا صوت الذات يتردد صداه داخل جسمك وعقلك، بلا أي ترجيع، لأنك كنت مقطوع الصلة بجماعتك، تراهم ولا تعرف لماذا أنت هنا، ولماذا هم أيضًا هنا. وهل يوجد "هناك" يمكن الذهاب إليه، لنبدأ في تعريف أنفسنا، ورصد إحداثيات وجودنا على تلك الخريطة الإنسانية الكبيرة التي تضمُّنا معًا؟
محاكمة الثقافة
ورثت ذاتًا لم أعرف كيف وصلت إلى هذه الدرجة من التعقيد والتشوش. لست قادرًا على الإمساك ببداية الخيط الذي يمكن منه أن أبدأ سرد حكايتي، أمام نفسي، وأمام هذه الجماعة الكبيرة.
حاولت في البداية تقشير ذاتي من طبقات كادت أن تخفي الأصل النيء للشخصية، الذي أشترك فيه مع الناس ممثلي هذه الجماعة الكبيرة والصغيرة.
كأن الأنثروبولوجيا تصنع كونًا موازيًا ترى فيه نفسك جالسًا أمام فيلم حقيقي تشاهد رحلة الإنسان على الأرض
بحثت في الطفولة، لكنها لم تكن كافيةً، ربما كان هذا الأصل المتوهم كامنًا أبعد من ذلك، في سلاسل النسب وحلقات الثقافة المتصلة، عبر التاريخ الطويل للإنسان، وهو ما يملكه هذا العلم، تلك الزاوية الكونية في الرؤية التي تواسي ألمك وحيرتك الشخصية، وتوسع من مساحة ذاتك.
بدأت أحاكم الثقافة والمعرفة التي آمنت بها، كونها السبب في هذا التشوش، والوحدة، وغياب الصلة الحميمة بالآخر، رغم أنه كان ماثلًا ومُمثَّلا في الثقافة عبر روايات وأشعار وأفلام. لكن هذا الآخر كان بعيدًا عن أن يكون مشخصًا داخل الحياة نفسها، رغم كل المحيطين بك ممن تحولوا إلى رموز مجهولة في حاجة إلى من يفك شفرتها.
دائمًا القراءة كانت لها الأولوية، لأنك كنت تبحث عن مسافة ترى من خلالها لتفهم بها هذا الآخر. كان نوع الثقافة الجذرية المطروح أمامك في عقد التسعينيات وما قبله، التي آمنت بها في لحظة استنارتك، تبعدك أكثر عن جماعتك الكبيرة والصغيرة، بوصفها ثقافة نقدية جذرية، تملي شروطًا مستحيلة لتصحيح الأوضاع، وأملها أن تعيد بناء الحياة والمجتمع من جديد، عند درجة الصفر، وعلى مية بيضا، ليستقيم البناء بعد ذلك.
كون موازٍ
لم تدرِ، عبْر إيمانك النقدي هذا شديد الجذرية والعنف، بأنك تمسك ببداية سلسلة من التوريطات التي انحرفت بها الثقافة عن منبعها وأسباب وجودها، ولو بحثت داخلك أيضًا لوجدت سلسلةً شبيهةً من التوريطات والأخطاء نفسها، التي لا بداية ولا نهاية محددة لها.
لذلك كان السؤال عن تحديد نقطة البدء، لتبدأ العمل على إزالة التناقضات. كيف تقبض على هذه البداية الجديدة النظيفة من الأخطاء والتوريطات؟
وكانت الإجابة أو الصدمة أنه من الصعب الإمساك ببداية زمن الأخطاء، والانحراف عن أصل نقي؛ فهناك تفاعل دائم بين الذات والخطأ، ومن الصعب الفصل بينهما، إلا لو نُظِر إلى الخطأ كجزءٍ من تفاعلات الحياة في تشكيل الذات.
كان يجب أن أودِّع هذا التصور وهذا المنهج النقدي الجذري، وعندها لم أجد بديلًا لهذا الفكر المسيس سوى السفر والتجول والملاحظة، وكلها أدوات علم الأنثروبولوجيا، لأنه لا ينظر للأخطاء بوصفها أخطاءً ولا يحكم عليها، وإنما يدخل في ثنايا نسيج الممارسات والأفكار، بدون حكم مسبق، ويربطها فيجعل منها مشهدًا كليًا. يراها داخل سياق.
كأن الأنثروبولوجيا تصنع كونًا موازيًا، يمكن أن ترى فيه نفسك جالسًا أمام فيلم حقيقي، تشاهد رحلة الإنسان على الأرض، لا رحلتك فقط. وتنسى، من تشعُّب وتعقيد هذه الرحلة، سؤالَك الجذري الأول، الذي جئت من أجله، وبدأت الرحلة لتجيبه. تنسى وتغرق أكثر فأكثر وسط هذا الكون الجذاب والمغري. ربما خطورة هذا العلم أنه يقشر ذاتيتنا تمامًا، ويصوغها في ثوب جماعي جديد.
الثقافة حركة في اتجاهين متضادين
كان تبني أي تصورات جذرية عن مجتمعك يدفعك بعيدًا عمَّا حولك. ربما كانت هذه المسافة مهمة، ولكن الأهم منها هو كيف تعود من جديد وتصل خيوطك مع ذاتك، ومع الآخرين.
يمثِّل علم الأنثروبولوجيا أداة الوصل، كونه يمثل حكاية كبيرة تجري وقائعها عبر راوٍ، أو ملاحظ، أو منظر، أو رحال، وفي حضور مجتمع يجري تبادل التصورات والأسئلة والحيرة معه. والاثنان يدخلان معملًا كبيرًا ويصبحان جزءًا من ظاهرة ومعرفة جديدة، تتسلل إلى جسم الثقافة من جديد وتوسع من حدودها وطريقة فهمها لنفسها.
أهمية الممارسة النقدية من هذا النوع أنها قد تغرِّبك عن كل ما حولك، وهناك الاتجاه المعاكس لتعيدك بعد هذه الغربة العوليسية، شخصًا جديدًا إلى حاضنة هذه الثقافة بعد أن اكتسبت أدوات قراءتها، وتيقنت أنها الحقل الذي سيعيد إنتاج وجودك، فالثقافة حركة في اتجاهين متضادين.
لن تكون مثقفًا بأن تخلع عنك كل ما يربطك بالآخرين، فحيث العلاقة الصحيحة بينك وبينهم يكمن الجوهر أو الإحداثي الذي يمكن أن تُبنى فوقه الشخصية، ويُعثر على بداية الخيط، فللآخرين نصيب في مشترك أبدي، بينك وبينهم، داخل جسمك وذاكرتك، وماضيك ومستقبلك.
المشترك العميق هو ما يجب أن نحافظ عليه، ونبني فوقه ونضعه في الاعتبار، هو وممثله من أغلبية هذه الجماعة الكبيرة.
داخل هذا المشترك، يمكن أن يتولد شكل جديد لنقد هذه الجماعة التي تنتمي إليها، دون أي تخلٍّ عن فردانية أو ذاتية، لكنها ستكون مخلوطة بوعي جمعي هو الآخر يبحث عن خلاص، ولكن بخطوات أبطأ كونه متفاوت الطبقات والسرعات والاستجابات.
شبح يسير بجواري
كان هذا العِلم يسيرُ معي كالشبح أثناء أسفاري داخل وخارج مصر، مرشدًا لي. أسير على حبلِ موضوعيِّته كيلا أقع في أي ناحية تجعلني متعسفًا في الحكم على الآخرين، وعلى نفسي، أمام هذا الاختبار الحساس عندما تقف على أعتاب عقل آخر، تحاول أن تفحصه كطبيب، وهو أيضًا يقف على أعتاب عقلك ويفحصه.
أهمية هذا العلم تكمن في مرونته وقدرته على التمدد واستيعاب كل العلوم الأخرى والاستفادة منها واستخدامها
ربما الموضوعية الغائبة عن حياتنا هي وظيفة الأنثروبولوجي داخل رحلة حياته، يبحث عن لحظة التساوي بينه وبين الآخرين، ليس هناك أدنى أو أعلى، هناك إعادة التقسيم بين الذات والآخر على أرضٍ جديدة، يمنحها هذا العلم، إلى حد كبير، وتكتسبها أيضًا أي ذات قلقة تبحث عن عدالة لقائها بالآخر، بعيدًا عن الإرث والمنشأ الاستعماريين لهذا العلم ولهذه الذات.
ربما كانت نشأة هذا العِلم استعمارية كونه انبثق من وزارة المستعمرات لبريطانيا العظمى، من مجتمع أقوى ناحية مجتمع أقل. وفي زمن أسبق، عند فتح أمريكا، ولكن مع الوقت كأي علم بدأ يعدل من نفسه بحثًا عن أدوات جديدة تلغي هذا التفاوت.
يكتب الأنثروبولوجيست الشهير إريك وولف "ليست الأنثروبولوجيا مجالًا بحثيًا بقدر ما هي ارتباط بين عدد من المجالات. إنها تاريخ من جهة، وأدب من جهة أخرى. إنها علم طبيعي من جهة، وعلم اجتماعي من جهة أخرى. تهدف الأنثروبولوجيا إلى دراسة الإنسان من الداخل والخارج، وتعد طريقة للنظر إلى الإنسان وطريقة للتنبؤ بمستقبله في آن واحد. الأنثروبولوجيا أشد العلوم الإنسانية طبيعة علمية، وأشد العلوم الطبيعية إنسانية".
مرونة الأنثروبولوجيا
أهمية هذا العلم تكمن في مرونته، فهو قادر على التمدد واستيعاب كل العلوم الأخرى والاستفادة منها واستخدامها ضمن أدواته، ربما بسبب أن له منهجًا ينم بالمباشرة والعملية معًا، فهو قادر على أن يتمدد على المستوى الأفقي لأنساق الفكر والتفكير في أي مجتمع على اختلاف تكويناتها، ويضم إليه أي معرفة جديدة، يستشعر أهميتها، ويطوِّعها داخل معمله الكوني، وينسب هذه المعرفة لنفسه، بدون أن تشعر بأنه علم متسلط أو ديكتاتوري.
أحيانًا كنت أخشى منه، أشعر بالغيرة من هذه السهولة في استغلال العلوم الإنسانية الأخرى، وربما الطبيعية، لصالحه.
ربما السبب أنه خرج من مركز وهو الإنسان، المشترك بين عدة علوم، ولكنه يمتاز بتزامنه مع كل تحول لهذا الإنسان، مع تمسكه بعدة وظائف أساسية تحفظ له مركزيته. لذا امتلك نقطة جذب قديمة ومتجددة، وكلية، منحته القوة، التي يعاود من خلالها تنمية وجوده وأدواته لصالح هذا الإنسان، صاحب الحكاية، الذي يتحدث عنه.
وتزداد حيرته على مر العصور، ويزداد تعقيده، وتزداد معها طرق البحث عن خلاص، فبالضرورة هناك تحالف قوي بينه وبين إنسان كوني يسعى لقراءة حياته وتفسير واقعه، ومنحه الجدارة ليستمر وتطول إقامته على الأرض، ضد كل ما يعوقه.
فالمعمل الذي يجري فيه هذا العلم تجاربه هو الحياة باتساعها.
جهاز الرنين الأنثروبولوجي
نحن مدينون للأنثروبولوجيا، فهي مثل جهاز أشعة الرنين المغناطيسي، تكشف عن الشعيرات الدموية الدقيقة، وعن الترجيعات السلوكية المتوارية فى حياتنا اليومية، وفي جسد الثقافة، وتضعها داخل سياق كوني.
ستخرج من الناحية الأخرى لجهاز الرنين الأنثروبولوجي مُحمَّلًا بشبكة معقدة من التفسيرات. ربما تنسى نفسك كإنسان فرد، وتتخيل تلك القبيلة الإنسانية التي شردت عنها منذ آلاف السنين. ربما تفقد فرديتك تمامًا، لكن بدون ألم، وتتحول إلى خطاب إنساني نابض يقع فى نهر تاريخ واسع يعبر به.
كشف هذا العلم عن الوعي العميق والاختيار الأعمق والاستسلام الأعمق أيضًا، الذين يقبعون وراء هذه السلوكيات وليس سجنها أو صكها في مصطلح فقير.
ستخرج من الناحية الثانية لجهاز الرنين الأنثروبولوجي مُحمَّلًا بالأمراض، أو إمكانية التنبؤ بها، مُحمَّلًا بالتفسيرات التي يجب عندها أن تتسامح مع نفسك وتراها كحكاية إنسانية صغيرة تقع في مصب أنهار حكايات أخرى.