
تونس.. القلّة المسيطرة بعد الثورة
إعادة إنتاج نموذج "الدولة التراكمية"
تاريخ الانتفاضات الشعبية في تونس المعاصرة ليس سوى صراع بين محكومين و"قلّة مسيطرة" على السلطة والثروة معًا. ما جعل تراكم الثروة، آلياته ومصادره وآثاره، هو مدار الصراع الأساسي دائمًا بين الطرفين، فضلًا عن كونه مدار صراعٍ داخل تلك "القلّة المسيطرة" ذاتها، التي تتفرّق حينًا إلى أجنحةٍ وتتآلف أحيانًا ضد المدّ الشعبي.
في كل مرةٍ تعيد تشكيل نفسها على نحوٍ مختلفٍ، مغيّرة كلّ شيء، كي لا يتغيّر أيّ شيء. فهذه القلة التي ولدت من رحم رأسمالية الدولة، التي سادت بعد الاستقلال حتى مطالع السبعينيات من القرن الماضي، بدأت منذ الثمانينيات مع التحوّلات النيوليبرالية الكبرى في العالم، في السيطرة على جهاز الدولة بعد أن كانت تحتمي به.
تحاول هذه الورقة البحث في آليات ومصادر تراكم وتركزّ الثروة في أيدي "القلّة المسيطرة" في تونس بعد ثورة 2011، وتحديد طبيعة هذه القلة، ورصد التداعيات التي خلفها هذا النمط التراكمي على الاقتصاد، خصوصًا على مجتمع المحكومين.
الدولة التراكمية
لا يمكن فهم نمط تراكم وتركز الثروة في تونس بعد الثورة من دون فحص الهياكل الاقتصادية التي كانت سائدةً قبلها. ففي عهد زين العابدين بن علي، كان الاقتصاد خاضعًا لهيمنة رأسمالية المحاسيب، حيث تسيطر دائرة صغيرة من النخب، المرتبطة غالبًا بعائلة الرئيس وأصهاره، على قطاعات رئيسية، نجحت من خلالها في جمع ثروات هائلة، مستفيدة من الممارسات الاحتكارية واللوائح التنظيمية التي تساهم في وضعها عبر مصادر قوة فوق اقتصادية وقمعية أحيانًا.
استحوذت عائلة بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي على الامتيازات والإيجارات التي خلقتها مجموعة القوانين واللوائح القائمة لصالحها. وبحلول نهاية عام 2010، تمت مصادرة 220 شركة لصالح عائلة بن علي، وهي شركات تمثل أقل من 11% من الوظائف ونحو 0.9% فقط من إجمالي الشركات، لكنها تستحوذ على 55% من صافي أرباح القطاع الخاص. كما تتفوق على الشركات الأخرى على المستويات كافة (الأرباح، الإنتاج، والحصة السوقية).
لم يكن اختيار القطاعات عشوائيًا. فقد اختارت هذه العائلات القطاعات المربحة، حيث كانت المنافسة مقيدة، وذلك من خلال متطلبات الترخيص المسبق لقيود الاستثمار الأجنبي المباشر، مثل النقل الجوي والبحري والاتصالات وتجارة التجزئة والتوزيع والعقارات والفنادق والخدمات المالية. وفي حال لم تحمِ اللوائح التنظيمية قطاعًا مربحًا تستثمر فيه هذه الشركات، فإن السلطة السياسية كانت تستخدم سلطاتها التنفيذية لتغيير التشريعات لصالحهم. وهو ما ثبت من خلال 25 مرسومًا وقعها بن علي نفسه، وأدخلت متطلبات ترخيص جديدة في 45 قطاعًا مختلفًا، وقيودًا جديدة على الاستثمار الأجنبي المباشر في 28 قطاعًا، ومزايا ضريبية جديدة في 23 قطاعًا.
ساهم الاندماج المتزايد في الأسواق العالمية من خلال الصناعات الموجّهة للتصدير في ربط مصالح البرجوازية الاحتكارية العائلية بالبرجوازية الأوروبية
ولد هذا النمط الاحتكاري العائلي بعد سيطرة بن علي على السلطة بشكل نهائي مطلع تسعينيات القرن الماضي، إذ نجح في تصفية أجنحة نظام الرئيس الحبيب بورقيبة داخل الحزب الحاكم والبرجوازية التقليدية المرتبطة به. وكذلك نجح في تصفية الحركة الإسلامية التي كانت تنازعه على السلطة.
في هذا السياق، بدأ نفوذ العائلات المرتبطة به وبزوجته في الصعود، بالتزامن مع التحولات النيوليبرالية، التي تميزت بزيادة خصخصة الكثير من الشركات المملوكة للدولة وإلغاء القيود التنظيمية، خصوصًا في قطاعات مثل الاتصالات السلكية واللاسلكية والخدمات المصرفية والزراعة. وكان الهدف المعلن هو "فتح فرص للاستثمار الخاص"، لكن أغلب هذه الأصول ذهبت لأفراد وعائلات قريبة من النظام.
عنوان فرعي
أما الوجه الثاني لهذا التحول فهو الاندماج المتزايد في الاقتصاد العالمي، بدايةً من المصادقة على الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة (GATT) في عام 1990، ثم الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية في 1995، وفي تموز/يوليو من العام نفسه، تمّ توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، كأول شريك في دول الجوار الجنوبي.
وقد ساهم الاندماج المتزايد في الأسواق العالمية، لا سيما من خلال الصناعات الموجّهة للتصدير مثل المنسوجات والسياحة، في ربط مصالح البرجوازية الاحتكارية العائلية بالبرجوازية الأوروبية، شريكها الأول، وهو ما انعكس على تعزيز شرعية النظام السياسي، على الرغم من مستويات القمع الشديدة ومصادرة الحريات التي كان يمارسها.
في المقابل، حافظ النظام محليًا على نوعٍ من التوازن الهشّ بين المضي في النيوليبرالية من جهة وحراسة النمط الاحتكاري العائلي بالسلاح والتشريعات من جهة أخرى، واستدامة المقايضة الطبقية مع الطبقات الوسطى من خلال النقابات والاتحادات المهنية عبر توفير الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة والنقل. إلا أن هذا التوازن المعادي لنظام الأشياء كان سقوطه حتميًا.
وبالقدر الذي كانت فيه الثروة تتركز أكثر في قطب العوائل المقربة من السلطة، وتخسر فيه بقية أجنحة البرجوازية مصالحها، كانت التناقضات تتعمق داخل النظام. وبالقدر الذي تتعمّق فيه هذه التناقضات كانت أوضاع المحكومين تتدهور على نحو واضح من خلال تصاعد مستويات البطالة، خصوصًا في صفوف الخريجين، وكذلك نسبة الفقر، لا سيما في المناطق الداخلية المهمّشة.
ولمعادلة هذه الهشاشة، رفع النظام من قدرته القمعية على نحو أشد من خلال السيطرة على الحركة النقابية وقمع أجنحتها غير القابلة للتدجين، وإضعاف نفوذ الاتحاد العام التونسي للشغل. وقد سمح هذا للعوائل الاحتكارية بتعزيز سلطتها من دون تحديات كبيرة من العمل المنظّم، على الرغم من حدوث احتجاجات وإضرابات متفرقة، خصوصًا في المناطق المهمّشة. وتزامنت هذه الهشاشة المحلية مع توازنٍ حاول نظام بن علي أن يديره مع الأزمة المالية العالمية في عام 2008، حين وجد نفسه يعاني ويلات هذا الارتباط الخارجي.
ولتقديم تحليل أكثر دقة من رأسمالية المحاسيب، بوصفها أداةً تعتمدها المؤسّسات المالية الدولية السائدة لتوصيف حدود التنافسية التي تشجّع عليها في الاقتصاديات خارج العالم الغربي، يمكن الاستعانة بنظرية الدولة التراكمية، كما قدّمها الاقتصادي المجري غابور شيرينغ، ويمكن تعريفها كشكل من أشكال الحكم يدمج الاستبداد مع شكل مميز من الرأسمالية، حيث تؤدّي الدولة دورًا أساسيًا في تعزيز تراكم الثروة لمصلحة نخبة مفضلة.
برزت البرجوازية الإسلاموية الطفيلية وتوسّعت متكوّنة من رافدين أساسيين أولهما برجوازية الأطراف وثانيهما برجوازية صاعدة من الحركة الإسلامية
وهو ما كان سائدًا في تونس حتى ثورة 2011، إذ اتسم نمط تراكم الثروة بمزيج من الإرث التاريخي، ورأسمالية المحسوبية، والقوة فوق الاقتصادية التي تمارسها الدولة، والتفاوتات المناطقية الشديدة بين سواحل البلاد الأكثر تطورًا واندماجًا في الأسواق العالمية، ودواخلها التي تعاني من ضعف الاستثمار وارتفاع معدلات البطالة ومحدودية الوصول إلى الخدمات العامة للدولة.
في المناطق الطرفية المهمّشة، كان النشاط الاقتصادي الأساسي، يقع خارج الاقتصاد الرسمي من خلال التهريب، الذي شهد توسعًا كبيرًا منذ نهاية الثمانينيات، بعد تحسن العلاقات مع الجارتين ليبيا والجزائر، ولاحقًا توقيع اتفاق اتحاد المغرب العربي، وأصبحت الدولة تغض الطرف عنه، ثم صار جزءًا من نشاط العائلات المقربة من السلطة.
طبيعة "القلّة المسيطرة" بعد الثورة
في نهاية عام 2010، وصل التوازن الهشّ الذي حاول نظام بن علي الحفاظ عليه إلى طريقٍ مسدودٍ. إذ إن توسّع الانتفاضة الشعبية، التي انطلقت من المناطق الداخلية ووصلت إلى المركز، وانضمّت إليها قطاعات واسعة من الحركة الشعبية العمالية والطالبية، دفع البيروقراطية الأمنية والعسكرية إلى التخلي عن بن علي ودفعه نحو الهروب، لضمان استمرارية النظام.
وهو ما ظهر على نحو دعائي في وسائل الإعلام السائدة تحت عناوين انحياز الجيش للثورة. لكن من الناحية الموضوعية لم يكن سقوط بن علي، ومعه الاحتكار العائلي، ممكنًا من دون تفكّك الروابط بينه وبين البيروقراطية القمعية. وما كان مجمّعًا في يد بن علي أصبح مفرّقًا في يد قوى متعدّدة: نخب مالية وسياسية وأمنية وعسكرية وإدارية.
البرجوازية التقليدية، التي فقدت هيمنتها في عهد بن علي بسبب سيطرة العوائل القريبة من السلطة على الثروة بالتحالف مع برجوازية الأطراف، دعمت صعود الباجي قائد السبسي إلى رئاسة الحكومة المؤقتة، بدفعٍ قوي من الجيش في مارس/آذار 2011. وكان قائد السبسي الممثل السياسي لتلك البرجوازية الباحثة عن الثأر. وقد نجح في خلال شهور قليلة من حكمه في وضع من تبقى من رموز نظام الاحتكار العائلي في السجن، فضلًا عن مصادرة جميع شركاتهم وأملاكهم. وشملت عملية المصادرة 530 عقارًا و650 شركة و24.739 قطعة منقولة و73 مليار دولار، ومليار ونصف مليار يورو، و173 سيارة فخمة.
أدّى القضاء على الاحتكار العائلي المديد للعوائل القريبة من زين العابدين بن علي وزوجته إلى تحرّر البرجوازية التقليدية من قيودها، والعودة بقوة إلى شغل مواقع الهيمنة التي تركتها في منتصف تسعينيات القرن الماضي. والمفارقة أن هذه البرجوازية هي الأخرى مجموعة من العائلات، التي لديها جذور تاريخية في النشاط الصناعي والتجاري، وقد شكلت الجناح الأساسي للقلة المسيطرة بعد الثورة.
أما الجناح الثاني فهو البرجوازية الإسلاموية الجديدة، التي بدأت بالظهور بعد سيطرة حركة النهضة الإسلامية على السلطة في 2011. وتشكّلت نتيجة تحالف موضوعي بين برجوازية الأطراف التي نشأت قبل سنوات، من خلال التراكم خارج أطر الاقتصاد الرسمي على الحدود. وهذه البرجوازية في جذرها هي تلك التشكيلات الاجتماعية الوسطى المحافظة في الثمانينيات، التي ارتقت طبقيًا بفضل تحوّلات جيوسياسية في المنطقة، منها تطبيع العلاقات بين تونس وليبيا وتحسّنها مع الجزائر، الأمر الذي أدى إلى انتعاش التجارة غير القانونية على طرفي الحدود، حيث كانت تونس أحد مصادر التزويد السلعي والمالي للبلدين.
لم يعد أصحاب الثروات في خدمة النظام ولكن أصبحت القلة المسيطرة هي المركز والنظام السياسي التوافقي هو من يخدمها
وهذا الجناح المهمش من البرجوازية كان يعاني لسنوات من عدم نجاحه في الوصول إلى مواقع متقدمة من الهيمنة، فوجد في صعود حركة النهضة للسلطة فرصة تاريخية لوصول أكبر نحو مواقع الهيمنة، من خلال تحويل فوائض كبيرة من التراكم نحو الاقتصاد الرسمي الخدمي، خارج قطاعات الإنتاج، في عملية "تبييض رساميل" واضحة، لتبرز في خلال هذه الفترة الكثير من المشاريع العقارية والترفيهية كالمطاعم والفنادق، والمشاريع الصحية كالمصحّات الخاصة.
بالإضافة إلى ميولها المحافظة، نظرًا لانتمائها جغرافيًا إلى مناطق ذات بناء اجتماعي قبلي، دُفعت هذه الشريحة من البرجوازية المهمشة، من خلال موقعها الطبقي الهامشي، نحو الحركة الإسلاموية، فيما ساعدتها الحرب الأهلية في ليبيا وسيطرة الميليشيات الإسلاموية على السلطة في تعزيز مواردها المالية على نحو غير مسبوق.
وفي هذا السياق، برزت "البرجوازية الإسلاموية الطفيلية" وتوسّعت متكوّنة من رافدين أساسيين، أولهما برجوازية الأطراف التي نجحت في إدراج رأسمالها ضمن الاقتصاد الرسمي، وثانيهما برجوازية صاعدة من القاعدة الاجتماعية المحافظة للحركة الإسلامية.
انعكس صراع هذين الجناحين خلال المرحلة الانتقالية (2011 - 2014) بوضوح على الصراع السياسي بين المعسكر الإسلاموي والمعسكر الليبرالي، الذي وصل إلى مستويات من التوتر، بلغت الإرهاب والاغتيالات السياسية. ولم تحسم إلا بتسوية بين رئيس حركة النهضة، راشد الغنوشي، ورئيس حركة نداء تونس، الباجي قائد السبسي، وكان عراباها كلّا من سليم الرياحي، أحد رموز البرجوازية الجديدة التي راكمت ثروتها خارج المسارات الاقتصادية الرسمية المحلية، ونبيل القروي، أحد رموز البرجوازية التقليدية التي ولدت وانتعشت مُستفيدةً من فتح الاقتصاد المحلي على الرأسمال الأوروبي. وقد أفرزت هذه التسوية نظام التوافقية السياسية الذي ربط جناحي البرجوازية المتصارعين بمصالح مشتركة.
آليّات التراكم
تقوم الآليّة الأساسية لتراكم الثروة في تونس بعد 2011 على إعادة إنتاج نموذج "رأسمالية المحاسيب"، بشكل مقلوب. بمعنى لم تعد السلطة السياسية هي مركز التراكم، أي لم يعد أصحاب الثروات في خدمة النظام، ولكن أصبحت القلة المسيطرة هي المركز والنظام السياسي التوافقي هو من يخدمها. لكن حدث تحوّل جذري في العلاقة بين صاحب السلطة وصاحب المال.
وفي غياب السيطرة المركزية التي ميّزت عهد بن علي، استغلت شبكات الأعمال المختلفة المتحالفة مع فصائل سياسية البيئة السياسية الجديدة لتحقيق تراكم هائل. وقد حدث هذا في كثير من الأحيان من خلال الشبكات غير الرسمية وأنظمة المحسوبية، التي لا تزال تشكّل الطبيعة الأساسية في الاقتصاد السياسي التونسي. كما أدّت اللامركزية في السلطة إلى تفتيت دور الدولة في تنظيم الاقتصاد، ما يجعل من السهل على بعض المجموعات استغلال الثغرات وتحقيق مكاسب.
كلّ النقد الموجّه للنظام القائم مدخله الأساسي غياب التنافسية وتركّز النشاط في أوليغارشية ريعية
تحت هذه الآليّة الرئيسية، هناك آليّات فرعية لتحقيق التراكم أهمها:
الاستحواذ على الأصول المصادرة: في 2011، صادرت الحكومة أصول وأملاك العائلات المرتبطة بالنظام السابق. وشملت قائمة الأصول غالبية القطاعات الاقتصادية الرئيسية. ومن الناحية الإجرائية القانونية، يحتاج التعامل مع الأصول المصادرة أمرًا قضائيًا لتحديد طريقة إدارتها أو مصيرها النهائي.
نجحت حكومات ما بعد الثورة من خلال سيطرتها على جهاز الدولة في تحديد مصير هذه الأصول ذات القيمة العالية من خلال عطاءات لخصخصتها، وأبرزها: أسهم في شركة أوريدو (شركة اتصالات أجنبية صودرت 30% من أسهمها)، وشركتي النقل ألفا فورد وسيتي كارز (توزيع السيارات)، وشركة حلق الوادي للشحن (إدارة محطة الرحلات البحرية)، وشركة AVS - Airport VIP Services (إدارة صالة رجال الأعمال)، وبنك تونس وبنك الزيتونة (خدمات مصرفية).
والشكل الثاني من التلاعب بالأصول المصادرة، هو إعادتها لأصحابها، بعد أن أعادوا تموضعهم في خريطة المصالح. ولعل أفضل نموذجٍ لهذا الشكل هو قضية مروان مبروك، صهر الرئيس الأسبق بن علي، الذي كان هو وعائلته من رموز نظام الاحتكار العائلي الذي كرّسه نظام بن علي. وتتشكّل محفظتهم الاستثمارية من مساهمات كبيرة في مصارف محلية وشركات صناعات غذائية وقطاع التأمين والاتصالات من خلال وكالة المشغل العالمي أورانج.
خضعت كل أصول مبروك وأمواله في الداخل والخارج لقرار المصادرة بعد الثورة، ولكن بفضل إعادة انتشار سياسي قام بها، نجح في تخطّي المصادرة واسترداد كل أصوله. وذلك بفضل دعمه السخي لنظام التوافق السياسي الذي ساد بعد 2014. في العام نفسه، عاد إلى رئاسة مجلس إدارة شركة أورانج تونس وشركة جات للتأمين.
وفي 2015، تم إبطال عمليات المصادرة لعدد من شركات مروان مبروك الأخرى. وأخيرًا في 2019 نجح بطلب رسمي من رئيس الحكومة يوسف الشاهد في حذف اسمه من قائمة 48 تونسيًا جُمدت أموالهم في الخارج منذ 2011، مستغلًا علاقته بالسلطة السياسية ورأس المال الفرنسي لإنهاء الحظر على أكثر من 7 ملايين يورو في دول الاتحاد الأوروبي.
ولا بد من الإشارة هنا إلى عاملٍ ثانٍ رئيسٍ من العوامل المساهمة في تشكيل تراكم الثروة في تونس ما بعد الثورة، وهو تأثير المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد والبنك الدوليان.
في أعقاب الثورة، واجهت البلاد تحديات اقتصادية كبيرة، مثل ارتفاع الدين العام واختلال التوازنات المالية لجهاز الدولة. ولمعالجة هذه القضايا، أبرمت الحكومة التونسية اتفاقيات عدة مع صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى، التي قدمت قروضًا في مقابل "إصلاحات اقتصادية" تقوم على تدابير التقشف وخفض الإنفاق العام وخصخصة الشركات المملوكة للدولة، ما سمح للنخب ذات العلاقات الوطيدة بالسلطة بالاستحواذ على أصول قيمة بأسعار أقل من أسعار السوق.
هذا بجانب فتح القطاعات الأساسي (الصحة، التعليم، النقل) للقطاع الخاص بشكل واسع. ويشكل القطاع الصحي مثالًا واضحًا على اختلال توازن الخدمات العامة بفعل الخصخصة. لقد ساهمت سيطرة الفاعلين الاقتصاديين على السلطة بعد الثورة في توسيع منح تراخيص المستشفيات الخاصة، التي ارتفع عددها بنسبة 90% منذ عام 2011، بطاقة إشغال إجمالية تبلغ 6676 سريرًا حتى فبراير/شباط 2020، وهو ما يمثل 24% من طاقة الإشغال الوطنية.
وبلغ عدد المراكز الخاصة لتصفية الدم حتى فبراير 2020، التي تستقطب حوالي 75% من مرضى القصور الكلوي الحادّ نحو 117 مركزًا في مقابل 49 مركزًا عموميًا لتصفية الدم. ووفقًا لتقارير محكمة المحاسبات لم تتولّ السلطات المختصة القيام بأي مهمات رقابة دورية على المستشفيات الخاصة للتثبت من شفافية المعاملات ومراقبة أسعار الخدمات الصحية والفوترة المعتمدة من قبلها، كما لم تراقب شروط السلامة الصحية وطرق التصرف في النفايات الخطيرة.
التحكّم في التشريعات: تظهر هذه السيطرة بشكل معلن بدايةً من قانون المصالحة الذي صدر عام 2017، ومنح عفوًا للمسؤولين الحكوميين ورجال الأعمال الذين تورّطوا سابقًا في الاستيلاء على أصول الدولة أو الحصول على تسهيلات إدارية ومالية. وفي 2018، اقترح نواب المعارضة أن يتم تخصيص 1% من أرباح المصارف كمساهمة استثنائية وقتية في الصناديق الاجتماعية التي تعاني عجزًا كبيرًا. وبعد المصادقة على المقترح في الجلسة طلب وزير المالية إعادة التصويت على المقترح بضغط من المصارف والعائلات التسع الكبيرة المساهمة فيها، وخلال إعادة التصويت سقط المقترح.
تنتفع القلة المسيطرة أيضًا من تجاوز التشريعات التي تسنّها السلطة ولوائح تنظيم النشاط
وفي ظل أزمة كورونا والأزمة العامة التي تعانيها تونس، اقتصاديًا واجتماعيًا، حققت المصارف أرباحًا كبيرة في تعارض تامٍ مع منطق الأشياء، إذ سجلت نموًا في أرباحها بنسبة 13% في 2022 بالمقارنة مع الفترة نفسها من عام 2021، وذلك بسبب المساهمة في قروض السندات التي صارت تصدرها الدولة سنويًا لتمويل الموازنة ودفع أجور الموظفين.
الاحتكار: بفضل السيطرة على أدوات التشريع، والسيطرة على السلطة السياسية، نجحت القلة المسيطرة في إغلاق مجال المنافسة وتقاسم القطاعات الأساسية في الاقتصاد ضمن نموذج احتكاري يحقّق تراكمًا هائلًا وآمنًا وخاليًا من المنافسة ووصولًا سهلًا إلى الائتمان المالي. وهو ما صار يعرف بــ الريع السياسي، ويقوم هذا النظام على محسوبية قرابية (عائلية) أو أيديولوجية (حزبية) أو زبائنية (مصالح متبادلة بين الفاعل الاقتصادي والبيروقراطي في الدولة).
الجريمة الاقتصادية: تنتفع القلة المسيطرة أيضًا من تجاوز التشريعات التي تسنّها السلطة، ولوائح تنظيم النشاط، لا سيما في ثلاثة مستويات أساسية، وهي التهرب الضريبي والتهرّب الجمركي وخرق لوائح تنظيم النشاط الاقتصادي، وهو ما يحقق لها فوائض مالية كبيرة.
تخسر تونس نحو 1.2 مليار دولار أمريكي سنويًا بسبب التدفقات المالية غير المشروعة، أي ما يعادل نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد. وتتضمّن هذه التدفقات التحويل غير القانوني للأموال أو رؤوس الأموال المكتسبة بشكل غير قانوني من بلد إلى آخر، فضلًا عن خسارة سنوية بمليار دولار بسبب التهرب من دفع المساهمات في الصناديق الاجتماعية (التأمين الصحي والتقاعد)، لا سيما في الاقتصاد الموازي.
التداعيات
ساهم التحوّل من نمط تراكم قائم على مركزية السلطة السياسة وحولها حزام من العوائل الاحتكارية قبل الثورة نحو نمط مركزية الفاعلين الاقتصاديين من خلال السيطرة على السلطة بشكل مباشر في مزيدٍ من تدهور أوضاع الطبقات الوسطى والشعبية، ومزيدٍ من تدهور نوعية وحجم خدمات الدولة العمومية، وكذلك إلى إغلاق مجال النشاط الاقتصادي أمام فاعلين أصغر حجمًا وقدرة من خارج القلة المسيطرة، فضلًا عن تراجع الوضع السيادي للدولة محليًا وخارجيًا.
أدّى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس إلى موجات هجرة غير مسبوقة شكلًا وكمًا من البلاد نحو أوروبا وكندا والخليج العربي
اللامساواة: بسبب غياب دراسات مسحية عن تركز الثروة في تونس، سوف أعتمد على دراسة المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، التي جمعت معطيات متفرقة لتشكيل صورة تقريبية عن هذا التركز، وتشير إلى وجود ما لا يقلّ عن 6500 مليونير في البلاد، ما يجعل تونس في المرتبة الأولى في المغرب العربي، على الرغم من وجودها بين دولتين نفطيتين.
اللامساواة المناطقية: يظهر التركزّ المشوه للثروة في تونس في شكل تفاوتٍ بين المناطق. وتستمرّ الفجوات بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية في الاتساع، لا سيما في مجالات التعليم والصحة ونسب الفقر والبنية التحتية والحصول على فرص العمل. وتتركّز في السواحل والعاصمة غالبية النشاطات الاقتصادية، حيث يتم إنشاء 92% من الشركات الخاصة هناك. ومن ناحية أخرى، تعاني المناطق الداخلية من ضعف اقتصادي على الرغم من ثرائها بالموارد الطبيعية.
وترتفع معدلات الفقر في المناطق الريفية، خصوصًا في شمال غرب وجنوب غرب البلاد وتتجاوز في كثير من الأحيان 33%. وعلى النقيض من ذلك، تُظهر منطقة تونس الكبرى أدنى المعدلات، حيث يبلغ معدل الفقر في تونس 4.6%، وبن عروس 5.6%، وأريانة 7%.
هجرة القوى العاملة: أدّى تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في تونس إلى موجات هجرة غير مسبوقة شكلًا وكمًا من البلاد نحو أوروبا وكندا والخليج العربي، شملت العمالة المهارة المدرّبة والقوى العاملة العادية والنخب التقنية والطبية والعلمية. وضمن أشكالٍ مختلفة بين هجرة نظامية وهجرة غير نظامية، كانت عواقبها كارثية. وبحسب أرقام نشرها المرصد الوطني للهجرة فإن أكثر من 36 ألف تونسي يغادرون البلاد سنويًا لأسباب اقتصادية، فضلًا عن 65% من فئة الشباب يرغبون في الهجرة، ونحو 40% من الشباب يفكّرون في الهجرة حتى وإن كانت غير نظامية.
توسّع نفوذ الأجهزة القمعية: في مقابل مزيدٍ من تركز الثروة في يد القلة، ومزيد من تدهور أوضاع الطبقات الشعبية والمتوسطة، ومزيدٍ من تدهور الخدمات العمومية، نشهد ارتفاعًا في ميزانية الأجهزة القمعية للدولة، أجهزة الأمن والجيش، إذ ارتفعت موازنة الجيش بنسبة 100% بين عامي 2010 و2024، وفقًا لبيانات الإنفاق العسكري، التي يصدرها معهد ستوكهولم الدولي.
فيما زادت ميزانية وزارة الداخلية نحو 98% بين عامي 2012 و2020. وفي الوقت نفسه، توسّع نفوذ هذه الأجهزة في السلطة. وتبدو هذه الزيادة ضرورية لتغطية اللامساواة المتنامية بين الطبقات وبين المناطق وحراسة استئثار الأقلية بالسلطة والثروة بقوة السلاح.
لكن أبرز التداعيات وأعمقها لتركز الثروة وما خلفه من كوارث على الاقتصاد والمجتمع القفزة البونابرتية التي قام بها الرئيس قيس سعيد، في 25 يوليو/تموز 2021، عبر انقلاب قصر (دستوري - عسكري)، وإعادة إنتاج نظام شعبوي استبدادي، تحت شعارات العدالة والمساواة، لم يحقّق منها شيئًا بعد ثلاث سنواتٍ، سوى مزيد من تمكين القلة المسيطرة وتحويل بيروقراطية الدولة من مجرد خادمٍ إلى سيد، محاولًا إعادة إنتاج نموذج الدولة التراكمية بإعادة مركزية السلطة السياسية.
(*) هذه الورقة البحثية إنتاج مشترك بين مجلة "صفر" وموقع المنصة، وتنشر بالتزامن بموحب اتفاق خاص.
هذه القصة من ملف السؤال المنسي.. إلى أين انتهت أحلام الربيع العربي في العدالة الاجتماعية؟
وجوه اللامساواة وأسبابها
سيبيل رزق_ نسبة الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر في لبنان تضاعفت 3 مرّات بين عامي 2012 و2022 من 12% إلى 44%
إعادة التوزيع المعكوسة
محمد جاد_ أصبحت السياسات العامة موجّهة بدرجة كبيرة لتيسير عملية استخلاص فائض القيمة، من خلال توجيه النسبة الأكبر من النفقات العامة لخدمة الديون أو العمل على تدبير الموارد عبر خصخصة الأصول.
تونس.. القلّة المسيطرة بعد الثورة
أحمد حافظ_ شكل تراكم الثروة مدار صراعٍ داخل القلّة المسيطرة التي تتفرّق حينًا إلى أجنحةٍ وتتآلف أحيانًا ضد المدّ الشعبي. وتعيد في كل مرةٍ تشكيل نفسها على نحوٍ مختلف.
هذه القصة من ملف السؤال المنسي.. إلى أين انتهت أحلام الربيع العربي في العدالة الاجتماعية؟
وجوه اللامساواة وأسبابها
نسبة الأفراد الذين يعيشون تحت خط الفقر في لبنان تضاعفت 3 مرّات بين عامي 2012 و2022 من 12% إلى 44%
إعادة التوزيع المعكوسة
أصبحت السياسات العامة موجّهة بدرجة كبيرة لتيسير عملية استخلاص فائض القيمة، من خلال توجيه النسبة الأكبر من النفقات العامة لخدمة الديون أو العمل على تدبير الموارد عبر خصخصة الأصول.
تونس.. القلّة المسيطرة بعد الثورة
شكل تراكم الثروة مدار صراعٍ داخل القلّة المسيطرة التي تتفرّق حينًا إلى أجنحةٍ وتتآلف أحيانًا ضد المدّ الشعبي. وتعيد في كل مرةٍ تشكيل نفسها على نحوٍ مختلف.