
الفساد ليس مشكلتنا الأساسية.. والدليل فيتنام
في المقال السابق، تناولت العلاقة المعقدة بين الفساد والتنمية في الصين انطلاقًا من كتاب عن عصرها المذهَّب، وكيف أن انتشار الفساد على نطاق واسع خلال العقود الأربعة الماضية لم يمنع الاقتصاد من النمو وجذب الاستثمارات المحلية والدولية والتنافس بشكل مبهر في الأسواق الخارجية.
واليوم أنقل هذا النقاش إلى الحالة المصرية، للإجابة عن سؤال رئيسي؛ إلى أي مدى يمكننا اعتبار الفساد الإداري والمالي عائقًا أمام فرص النمو والتنمية في مصر، وهل هو حقًا، كما يرى البعض، من المشكلات الأساسية التي يجب التغلب عليها أولًا وقبل كل شيء، ليكون ممكنًا تحقيق التنمية؟
لا خلاف حول الفساد في مصر
يُعرِّف البنك الدولي الفساد بأنه سوء استخدام السلطة العامة لتوليد مكاسب خاصة، وهو المفهوم الأكثر شيوعًا الذي تندرج تحته ممارسات مثل اختلاس المال العام أو تلقي الرشوة، وتحت هذا المسمى تُصنَّف مصر ضمن الدول التي تعاني من الكثير من الفساد.
جمعت فيتنام بين النجاح الاقتصادي والفساد عبر الحفاظ على أداء مؤسسي يضمن الاستقرار
ولا يعكس مؤشر البنك الدولي للفساد رأي خبراء البنك في مصر، وإنما يقوم على استبيانات من أطراف تعاملت مع الواقع المصري يعبرون عن تقديراتهم في صورة رقمية تقيس السيطرة على الفساد على مقياس من مائة، وكلما زاد الرصيد كلما كانت السيطرة على الفساد أكبر.
وبالنظر إلى آخر الأرقام المتاحة في قاعدة البنك، وهي بيانات الفترة من 2011 إلى 2017، سنجد أن متوسط درجة الفساد في مصر كان 33.9 من 100، ويعني هذا أنه يتعين فعل المزيد للسيطرة على مثل هذه الظواهر، وتفاعلت الدولة في مصر مع هذه الانتقادات عبر إطلاق الرقابة الإدارية الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد.
بالتالي، لا خلاف على تفشي الفساد في مصر، لكن المثير للجدل فعلًا هو تقدير مدى تأثير هذا الفساد على النمو والتنمية، كما يفترض كثيرون؟
لماذا نجحت فيتنام فيما فشلنا فيه؟
لنُجيب عن هذا السؤال، علينا أن ننظر لأنفسنا في مرآة الآخرين، قد تكون المقارنة مع الصين ليست بالضرورة هي الأفضل بالنظر للعديد من الاختلافات بين البلدين، لكن ماذا عن فيتنام مثلًا؟
تشبه فيتنام مصر من حيث عدد السكان (98 مليونًا)، وفي نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، كما أنه يقارب مصر في مستويات الفساد طبقًا للبنك الدولي إذ سجلت فيتنام متوسط 35.3/100 في الفترة نفسه (2011-2017).
بالرغم من كل هذه التشابهات فقد كانت فيتنام ضمن أكثر بلدان الجنوب العالمي نموًا خلال العقدين الماضيين، بمتوسط نمو سنوي فاق 6.4% في السنوات بين 2000 و2024، بل ويُضاف إلى هذا تحقيق فيتنام معدلات استثمار مذهلة بمتوسط 30% من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات العشر الماضية، وهو أكثر من ضعف المعدل المسجل في مصر خلال الفترة نفسها بمتوسط 14% من الناتج.
جمعت التجربة الفيتنامية بين النجاح الاقتصادي والفساد من خلال الحفاظ على أداء مؤسسي يضمن درجة كبيرة من الاستقرار في توقعات المستثمرين من القطاع الخاص لما ستطلبه منهم الدولة، وكذلك استقرار السياسات الاقتصادية في المدى المتوسط أو الطويل، العبرة إذن أن يكون كل شيء قابلًا للتوقع لدى المستثمر، ولا يعني الأخير إن كان يتعامل مع مسؤول نزيه أم فاسد.
لا يعني هذا أن الفساد ليس مشكلة
ويتجلى هذا الاستقرار في تقديرات البنك الدولي لفيتنام خلال السنوات من 2011 إلى 2017، فبالرغم من ترتيبها المتأخر في المؤشر العام للفساد، كانت فيتنام متقدمة نسبيًا في مؤشرات أخرى يرصدها البنك الدولي مثل سيادة القانون والكفاءة الحكومية.
يقيس مؤشر سيادة القانون مدى الالتزام بإنفاذ التعاقدات وحماية حقوق الملكية من قبل أجهزة إنفاذ القانون، وفيه سجلت فيتنام متوسط 43.12/100 مقارنة بـ33.3/100 لمصر.
وأما الكفاءة الحكومية فهو مؤشر يرصد مدى جودة الخدمات العامة بما في ذلك خدمات الجهاز البيروقراطي وكفاءة صياغة وتطبيق السياسة العامة، وقدر المصداقية الذي تتمتع بها الحكومة في نظر القطاع الخاص، وفي هذا نجد الفارق بين فيتنام ومصر هو الأكبر إذ سجلت الأولى 50.2/100 مقارنة بـ31.5/100 فحسب.
هل يمكننا تهذيب الفساد؟
تثير البيانات السابقة التساؤل بالطبع عن كيفية احتواء فيتنام لممارسات الفساد بما يسمح بمثل هذا الأداء المؤسسي في مجالات مثل حكم القانون والكفاءة الحكومية، والذي رغم تواضعه يبدو أنه يؤدي الغرض، ولا شك أن هناك حاجة للمزيد من البحث في تفاصيل الحالة الفيتنامية للوقوف على النجاح الظاهر إما في تجنيب مجالاتٍ مؤسسيةٍ معينةٍ تأثيرَ الفساد أو ضمان تهذيب الفساد بما لا يجعله شديد الضرر بها.
لكن الأمر الذي يدعو للتفاؤل من القراءة المبدئية للتجربة الفيتنامية أننا يمكن أن نخلق هذا التعايش بين الاستثمار وانتشار الفساد بدون ثورة إصلاحية تشمل الدولة كلها، ولكن فقط من خلال رفع كفاءة الأجهزة والمؤسسات ذات الصلة المباشرة مع المستثمرين، وفرض رقابة عليها من المستويات الأعلى منها.
والدليل على عدم الاحتياج للانتقال بحالة الحد من الفساد إلى مستوى الدول المتقدمة حتى ننجح اقتصاديًا أن الرصيد المؤسسي في الحالة الفيتنامية يظل ضعيفًا للغاية مقارنة بدول أمريكا الشمالية والاتحاد الأوروبي، ويشير ذلك أيضًا إلى أن قدرة فيتنام على جذب الاستثمار وتحقيق النمو قد وقعت من خلال ترتيبات مؤسسية لا يرصدها مؤشر البنك الدولي ولا المؤشرات الأخرى التي يستند إليها.
ليس دفاعًا عن الفساد
لا يعني هذا أن الفساد ليس مشكلة، بل هو كذلك، سواء فيما يتعلق بإضعاف شرعية مؤسسات الدولة وسياساتها، أو فيما يتعلق بعدم العدالة وعدم المساواة الناتج عنه، لكنه لا يصل بالضرورة إلى درجة إعاقة النمو والاستثمار في اقتصاد ما.
وبالنظر للحالة المصرية يمكن لإجراءات محددة في مجالات بعينها أن تضمن درجة من الاستقرار لقرارات الاستثمار من قبل القطاع الخاص، على رأسها استقرار سعر الصرف والثبات النسبي للقوانين والقرارات والإجراءات الحاكمة لعمل القطاع الخاص.
هذا بجانب إعادة هيكلة البناء المؤسسي للأجهزة التي تتعامل مع القطاع الخاص، كالضرائب أو إصدار الرخص، وسط تفاهمات سياسية وإن كانت غير رسمية، على أن تصبح الإجراءات أكثر قابلية للتوقع ومشجعة للاستثمار والنمو.
وضمن الترتيبات المطلوبة أيضًا، إتاحة التمويل المصرفي وغير المصرفي للمستثمرين دون مزاحمة من الدولة لتمويل الديون المتراكمة عليها، وهي أمور تفوقت فيها فيتنام بشكل كاسح عندما سجّلت نسبة الائتمان المقدم للقطاع الخاص من الناتج المحلي الإجمالي 125% في 2023، مقابل 195% في الصين. أما في مصر، فلم تتجاوز النسبة 29%!
هذه كلها عوامل يبدو من التجارب الآسيوية أنها أكثر أهمية من الفساد، أو على الأقل قد يكفل حضورها تحقيق نمو وتنمية رغم انتشار الفساد.