صورة موّلدة بواسطة نموذج الذكاء الإصطناعي DALL-E
الحرب السبرانية بين الكيان الصهيوني وإيران.

جبهة طهران-تل أبيب الرقمية.. حرب السايبر لا تبقي ولا تذر

منشور الخميس 19 يونيو 2025

بينما انشغلت كاميرات العالم بتوثيق الانفجارات والهجمات الصاروخية المتبادلة بين إسرائيل وإيران، كانت هناك حرب أخرى تدور في صمت على جبهة غير مرئية؛ الفضاء السيبراني. هذه الجبهة الرقمية أثبتت أنها لا تقل ضراوة عن ساحة المعركة المادية، حيث تبادل الطرفان الهجمات الإلكترونية تمامًا كما تبادلا الضربات الجوية.

منذ اللحظات الأولى للهجوم الإسرائيلي على طهران، لُوحظ تصاعدٌ هائلٌ في الأنشطة السيبرانية. رصدت شركة Radware للأمن السيبراني ارتفاعًا بنسبة 700% في حجم الهجمات الرقمية على إسرائيل خلال يومين فقط من بدء العمليات، مقارنة بما قبل 12 يونيو/حزيران الحالي.

وأظهرت التحليلات أن هذه الموجة العنيفة من الهجمات جاءت ردًّا انتقاميًا من جهات إيرانية رسمية أو محسوبة على طهران، وتنوعت بين هجمات تعطيل الخدمة/DDoS واختراقات البنى التحتية الحيوية وسرقة بيانات ونشر برمجيات خبيثة.

هجمات متبادلة 

كذلك رصدت شركة جوجل محاولات إيرانية لاختراق أنظمة حكومية وعسكرية أمريكية، وسط مخاوف من امتداد البرمجيات الخبيثة إلى مؤسسات خاصة حول العالم. فبنية الفضاء السيبراني مترابطة، وأي هجوم على منشآت رقمية في منطقة نزاع قد يخلق تأثيرات عالمية، خاصة عندما تكون الشبكات المالية والتكنولوجية متداخلة.

توسّعت رقعة الحرب السيبرانية أيضًا عبر دخول جهات فاعلة على خط الصراع، إذ أعلنت مجموعة Predatory Sparrow التي تعني "العصفور المفترس"، والمعروفة بدعمها لإسرائيل، مسؤوليتها عن هجوم إلكتروني استهدف بنك "سبه" الإيراني، ما أدى إلى تعطيل موقعه الإلكتروني وأجهزة الصراف الآلي.

وصفت المجموعة المهاجمة البنك بأنه يموّل برنامجي إيران الصاروخي والنووي، وتحدثت عن تنفيذ العملية بمساعدة من وصفتهم بأنهم "إيرانيون شجعان".

في المقابل، دخلت مجموعات سيبرانية موالية لإيران مثل Mysterious Team Bangladesh وArabian Ghost ساحة المواجهة، موجهة تهديدات إلى الأردن والسعودية بسبب ما اعتبرته دعمًا لإسرائيل. هذه المجموعات زعمت أيضًا نجاحها في تعطيل محطات إذاعية إسرائيلية ضمن هجماتها.

تعتمد إيران على استراتيجية رقمية تُركّز على تنفيذ الهجمات الإلكترونية كردّ مباشر على أي اعتداء محسوس. ومع استهداف مراكز حساسة في طهران خلال القصف الإسرائيلي، اتجهت طهران نحو توسيع رقعة المواجهة الرقمية لتشمل حلفاء إسرائيل ومصالحها في الخارج، دون تجاوز الخطوط الحمراء التي قد تستفز ردود فعل من قوى كبرى.

من جانبها، أعلنت إسرائيل حالة طوارئ رقمية وفعّلت وحدات احتياط متخصصة في الدفاع السيبراني لتأمين البنى التحتية المعلوماتية. غير أن هذا الاستنفار الرقمي حمل تداعيات عكسية؛ إذ حذر خبراء من أن نقل عدد كبير من الكفاءات التقنية إلى الجبهة العسكرية قد يترك قطاعات مدنية، خصوصًا في شركات التكنولوجيا، عرضة لهجمات مفاجئة.

مراكز إنتاج السيطرة

في تطور نوعي ضمن المواجهة بين إسرائيل وإيران، لم تكتف الأخيرة بالرد العسكري عبر استهداف منشآت تقليدية، بل وجّهت ضربة استراتيجية مباشرة إلى أحد أعمدة المشروع الصهيوني، معهد وايزمان للعلوم.

ضربت صواريخ إيرانية بعيدة المدى مدينة رحوفوت، مستهدفة المعهد الذي يُعد العقل العلمي للمشروع الاستيطاني الإسرائيلي. هذا الهجوم لم يكن عشوائيًا، بل جسّد نقلة في فهم أهداف الحرب، حيث أصبحت المؤسسات المعرفية والعلمية جزءًا لا يتجزأ من ساحة القتال.

في حرب غزة استخدمت إسرائيل الذكاء الاصطناعي والسوشيال ميديا في تحديد أماكن الأفراد واستهدافهم

لا يعد معهد وايزمان مؤسسة أكاديمية بالمعنى التقليدي، هو بنك معرفة مركزي يدعم البنية التحتية العلمية والتكنولوجية التي تقوم عليها هيمنة الكيان الصهيوني الأمنية. فيه تتلاقى أبحاث الذكاء الاصطناعي والكيمياء الحيوية وعلوم الحوسبة والكم، لتنتج معرفة تُوظّف لاحقًا في تطوير أدوات المراقبة والتجسس والسيطرة.

تربط المعهد علاقة غير رسمية بوحدة 8200 الذراع السيبرانية الأقوى للجيش الإسرائيلي، وتجعله أحد الروافد الرئيسية للنخب التقنية والأمنية. هذه الوحدة خرج منها مطورو أدوات تجسس تنتجها شركات مثل NSO وباراجون، مما يجعل ضرب وايزمان رسالة رمزية وعملية بأن الحرب تجاوزت الجغرافيا إلى بنية إنتاج السيطرة.

هذا الاستهداف لمؤسسة معرفية يكشف عن وعي إيراني جديد بطبيعة الصراع، حيث لم تعد الحربُ تُخاض فقط بالصواريخ والطائرات، بل بالرموز والمؤسسات التي تنتج التفوق ذاته. إنها ضربة للعقل المُنتج للهيمنة، لا فقط لذراعها العسكرية.

في الوقت نفسه، أطلقت السلطات الإيرانية تحذيرات مباشرة ضد استخدام تطبيقات التواصل الشائعة، خصوصًا واتساب وإنستجرام، وطالبت مواطنيها بحذفها فورًا. هذا التحذير جاء متزامنًا مع الضربات الإسرائيلية التي طالت منشآت نووية ومراكز أبحاث إيرانية، وأسفرت عن مقتل علماء وقادة بارزين.

السبب، كما تشير التقديرات، يرتبط بمخاوف عميقة من استغلال هذه التطبيقات قنوات غير مباشرة لتسريب بيانات المستخدمين إلى الكيان الصهيوني. هذه المخاوف لا تأتي من فراغ، بل من تجربة قاسية في حرب غزة عام 2023، حين كُشف عن برنامج إسرائيلي سري يُدعى لافندر، يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحديد واستهداف الأفراد بناءً على بيانات اتصالات ومواقع ونشاطات على تطبيقات مثل واتساب وتليجرام.

برنامج لافندر شكّل سابقة لأتمتة القتل الجماعي، حيث تم تنفيذ آلاف الضربات الجوية عبر طائرات دون طيار اعتمادًا على معطيات رقمية غالبًا ما تكون هشة. من هذه الزاوية، يبدو أن السلطات الإيرانية تأخذ احتمالية تكرار السيناريو بجدية، وتفترض وجود نسخة محدثة من لافندر قد تُستخدم لاستهداف شخصيات علمية أو عسكرية داخل البلاد.

نتيجة لذلك، فُرضت قيود صارمة على استخدام الإنترنت، بما في ذلك تعطيل أدوات تجاوز الحجب/VPNs، وحظر استخدام الأجهزة الذكية بين المسؤولين.

تحوّلت الهواتف الذكية ذاتها إلى جبهات حرب. فلم يعد السؤال عند استخدام أي من التطبيقات "هل التطبيق آمن؟"، بل "هل يمكن أن يتحول هاتفي إلى سلاح ضدي؟". الحرب لم تعد فقط بين جيوش، بل بين نظم تشغيل، وموجات بث، وخوارزميات تُقرر من يعيش ومن يُستهدف.

المعلومة قذيفة

لم تقتصر معركة إسرائيل وإيران على البر والجو والفضاء الإلكتروني، بل امتدت إلى ميدان جديد بالغ التأثير؛ الفضاء المعلوماتي. فمنذ بداية العدوان الصهيوني على إيران، أصبح التحكم بالمعلومات، من صور ومقاطع فيديو وأخبار، سلاحًا استراتيجيًا يتصارع فيه الطرفان للتأثير في المعنويات وتشكيل الروايات حول ما يحدث على الأرض.

منذ اللحظات الأولى، غرقت السوشيال ميديا في طوفان من المحتوى، كثير منه مفبرك أو خارج السياق. أحد الأمثلة كان مقطعًا مزيفًا انتشر على تيك توك زُعم أنه يُظهر قصفًا إسرائيليًا لمواقع إيرانية. فحص الفيديو أظهر أنه من إنتاج الذكاء الاصطناعي. تضاعفت حالات التزييف بسرعة خلال ساعات من اندلاع الحرب حيث رُصد أكثر من 30 صورة وفيديو مزيفًا أو قديمًا، حصدت مجتمعةً أكثر من 37 مليون مشاهدة.

إحدى أكثر تقنيات التضليل شيوعًا تمثلت في إعادة تدوير لقطات من حروب أو حوادث سابقة. جرى تداول صور وفيديوهات على أنها لحظات راهنة من القتال، لكن تحريات التحقق أثبتت أنها تعود لأحداث سابقة، كقصف مناورات 2021 أو انفجارات عام 2020. هذا الإغراق بالمحتوى الزائف أربك المتابعين وأثّر حتى على وسائل إعلام محترفة.

صار التلاعب بالمعلومات وبسرعة نشرها أحد وجوه الحسم في الحروب الحديثة

في هذا المشهد الفوضوي، لعبت خوارزميات السوشيال ميديا دورًا تضخيميًا للمحتوى المضلل، خصوصًا بعد تغييرات سياسة التوثيق على منصة X، حيث باتت الحسابات القادرة على الدفع تحصل على علامات توثيق زرقاء، بغض النظر عن مصداقيتها.

وبينما تبادلت الأطراف الرسائل الدعائية، دخلت الحرب النفسية المعلوماتية طورًا جديدًا؛ خرج رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو يخاطب الإيرانيين مباشرة عبر الإنترنت داعيًا إياهم للوقوف ضد نظامهم. وبالمثل، دعا رضا بهلوي، نجل شاه إيران السابق، الجنود الإيرانيين إلى التمرد.

ولمنع هذه الروايات من الانتشار، فرضت السلطات الإيرانية حظرًا واسعًا على الإنترنت. لكن المفاجأة جاءت من إيلون ماسك، الذي أعلن تفعيل خدمة "ستارلينك" داخل إيران، مما مكّن الآلاف من تجاوز الرقابة الرقمية والعودة إلى الإنترنت، وكشف حجم تأثير الشركات العابرة للحدود في مسارات الحروب المعاصرة.

هذه الحرب المعلوماتية أكدت أن المعلومة قد توازي الصاروخ في قوتها. فالصور الكاذبة توهم العدو بأنه انتصر أو تهوّل هزيمته، والمعلومة الدقيقة قد تغير قرارًا عسكريًا في اللحظة الحاسمة. في النهاية، صار التلاعب بالمعلومات، وبسرعة نشرها، هو أحد وجوه الحسم في الحروب الحديثة.

حصان طروادة الطائر

كان دخول الطائرات بدون طيار/المسيّرات إلى ساحة المعركة بقوة نوعًا من الدهاء التكتيكي غير المسبوق. فلم تعد المسيّرات مجرد أدوات للاستطلاع، بل تحولت إلى أسلحة هجومية وتكتيكية قادرة على تغيير قواعد الاشتباك. اعتمدت إسرائيل وإيران على أساطيل من المسيّرات لأغراض متعددة، بدءًا من الضربات الدقيقة وصولًا إلى الحرب النفسية.

فاجأ جيش الاحتلال العالم، في الساعات الأولى لهجومه على إيران، عبر سرب من المسيّرات الانتحارية الصغيرة التي تسللت إلى العمق وضربت أهدافًا استراتيجيةً قبل وصول الطائرات الحربية الأكبر إلى ساحة المعركة.

تشير التقارير إلى أن قوات خاصة إسرائيلية هرّبت هذه المسيّرات المفخخة مسبقًا إلى داخل الأراضي الإيرانية، حيث وُضعت قرب أنظمة رادار ومراكز اتصالات حيوية. وعند ساعة الصفر، فُعّلت هذه المسيّرات عن بُعد، ما أحدث شللًا مؤقتًا في شبكة الدفاع الجوي الإيرانية وفتح الطريق للضربة الجوية من اتجاه مختلف.

أصاب التكتيك الإسرائيلي المبتكر أنظمة الدفاع الجوي الإيراني بالشلل، إذ خرجت رادرات من الخدمة وانقطع التنسيق بين الوحدات العسكرية، وشكَّل الجمع بين مسيّرات رخيصة تُحدث فوضى أولية وصواريخ دقيقة تضرب لاحقًا عملية هجومية مركبة غيّرت مفهوم الضربة الجوية التقليدية.

بات من الممكن أن تبدأ الحروب ليس بصاروخ بل بمسيّرة صغيرة تُفعّل عن بُعد

على الجانب الإيراني، جاءت الاستجابة بإطلاق أكثر من 100 طائرة مسيّرة باتجاه مواقع إسرائيلية. ورغم أن أغلبها تم اعتراضه، فإن بعضها أصاب أهدافه، مسببًا أضرارًا ورسائل واضحة بأن العمق الإسرائيلي ليس بمنأى عن الرد. المسيّرات الإيرانية أظهرت أن الكم أحيانًا يغلب النوع، خاصة عندما تُستخدم في موجات متتالية تربك الدفاعات وتكسر احتكار التفوق الجوي الإسرائيلي.

في هذه الحرب لم تعد المسيّرات مجرد أداة مساندة، بل تحولت إلى عنصر حاسم في استراتيجيات الضربة الأولى. فإسرائيل أثبتت قدرة على التخطيط بعيد المدى لاستخدامها حصان طروادة تقنيًا، وإيران أبرزت قدرة على الإشباع العددي وتوظيف المسيّرات سلاح ردع غير تقليدي. ويبدو أن مفهوم السرب المسيّر لتوصيف استخدام أعداد كبيرة من المسيّرات لاختراق الدفاعات سيكون سمة أساسية في الحروب المقبلة.

بالتالي، من المرجح أن تعيد الجيوش حول العالم النظر في تسليحها وتكتيكاتها، مستلهمة مما يحدث في هذه الحرب. فقد بات من الممكن أن تبدأ الحروب بمسيّرة صغيرة تُفعّل عن بُعد.

من يملك الغد؟

الحرب الدائرة بين إسرائيل وإيران ليست مجرد فصل في صراع إقليمي مألوف، بل علامة على انتقال البشرية إلى طور جديد من النزاعات، حيث تختلط الحدود بين الدولة والشركة، بين الجندي والخوارزمية، وبين السلاح والمعلومة. في هذا الطور، لا تُقاس القوة فقط بما تملكه من صواريخ أو طائرات، بل بقدرتك على التحكم في البيانات، في السرديات، في البنى التحتية الرقمية.

وإذا كانت هذه الحرب قد كشفت شيئًا، فهو أن التفوق لم يعد حكرًا على من يملك الأكثر، بل على من يفهم أولًا، من يستطيع قراءة اللحظة وصياغة المعادلة بأدوات غير مرئية. لقد دخلنا عصرًا تقود فيه التكنولوجيا ليس فقط وتيرة الحرب، بل شروط السلام أيضًا. والسؤال المطروح لم يعد كيف نمنع الحروب المقبلة، بل كيف نمنع أدواتها من اختطاف العالم كله دون أن ننتبه.