
عادل إمام.. من الكوميديا إلى الكوميكس ومن الشاشة إلى الدولة
لم يجد عادل إمام صعوبة في القفز إلى ذهني وأنا أتابع القرارات الأخيرة لوزير الثقافة بإغلاق 123 بيتًا ومكتبة ثقافية وإعادة توزيع العاملين الموجودين بها، لأنها بحسب الوزير تضم نحو 1200 موظف لا يؤدون أعمالًا فعلية، في مواقع 86% منها بلا رواد أو مستفيدين، و"كثير منها تحوّل إلى مخازن وتفتقر إلى خدمات أساسية".
كالعادة، لحقت بتلك التصريحات تكذيبات من الوزارة، وحديث عن خطط كبرى لافتتاح المزيد من قصور الثقافة، وحقائق متضاربة؛ بيانات مُوقَّعة من مثقفين وموظفي بيوت ثقافية مهدّدة، ومعلومات عن قصور ثقافة متوقفة عن العمل بعد تجديدها وإنفاق مبالغ طائلة لتطوير إمكاناتها، ومكتبات داخل قرى أغلقت بالفعل.
كالعادة أيضًا، تناقض التصريحات بعضها، ولا نعلم أيها نصدّق، والعاملون بالمجال والوزارة على هذا القدر من الخلاف والاختلاف، والمعلومات المتدفقة والمضاربة تتحول في معظم الحالات لغابة كثيفة من "ترندات" تزيد من عتامة الصورة، وتُصعِّب فهم حقيقة توجهات السلطة التنفيذية في هذا الشأن.
في معظم ترندات مصر وأخبار حوادثها، التي تجمع الكوميدي والمأساوي والفانتازي في خلطة فريدة، يحضر عادل إمام، بتعبيرات وجهه وانفعالاته المحفورين في ذاكرة أجيالٍ عاشت معه. وفي كوميكس اعتمدته ميم لورد تخلقه في حياة إنترنتية ثانية أجيالٌ أصغر. وفي مشهد من أحد أعماله الأيقونية نستحضره نبوءةً واستشرافًا، أو نتخيّل أبطال الترند شخصية خرجت للواقع بعدما جسَّدها الزعيم.
"سيبونا.. سيبوا الفن"
جدل البيوت الثقافية استدعى إلى ذهني وجهين لعادل إمام؛ حقيقي وتمثيلي. تذكرت حديثه للمرشح الرئاسي عبد الفتاح السيسي في 2014، خلال لقاء الأخير بالفنانين، بعدما وقف الفنان حسن يوسف في كلمته يهيب بالمشير أن أنقذونا من الضياع والانهيار الأخلاقي. ليقف عادل إمام بعدما تحدَّث زميله، مُذكِّرًا الرئيس القادم بأصالة الرابطة بين الشعب المصري والتعبير الفني، مستنكرًا اللغة والخطاب المكرور المعتاد في هذه التجمعات، الذي يأتي على هوى رموز السلطة، من تصويرهم مصلحين أخلاقيين يستعينون بالفنون الوعظية ذراعًا في مهام "وطنية".
https://www.youtube.com/watch?v=txEmypkpOGoكان عادل إمام أكبر من أن يعزف نفس النغمة مُنشدًا ضمن هذه الجوقة، وكان يرى، من شواهد سبقت الميل البازغ لتأميم طابع الفنون، قبل أن تؤمم أدوات إنتاجها. فحكى عن تجربة قصور الثقافة ودعا لاستعادتها بعد أن أصبحت "خرابات"، ولاستعادة الفنون داخل المدارس والجامعات، وذكَّر بأن الموهوبين يأتون من كل أنحاء مصر ولا بد من فتح القنوات لإبداعهم. وأخيرًا استدعى حريات سارتر الثلاثة: حرية الفنان، حرية المتلقي، وحرية الناقد؛ "مش عايزين بقى كل حد ييجي يقعد يفتي لنا، ويقعد يقول لنا مش عارف إيه، سيبونا، سيبوا الفن يا اخواننا، سيبوا الفن هو اللي يعبر عن نفسه، إحنا بلد عظيمة ومبدعة طول عمرنا".
"سيبونا" تعبير سمعه أيضًا رئيس الوزراء إبراهيم محلب عام 2014، بينما كان يلقي خطبة عصماء عن احتياج الحكومة لـ"اصطفاف" الفنانين ودورهم، ليباغته عادل إمام، كأنه يلقي إيفيهًا في إحدى مسرحياته؛ "إحنا عايزينكم تبعدوا عننا".
حمل الظهوران العلنيان الأخيران للزعيم، وقد تزامنا مع لحظة انتقالية حرجة، ما يشبه وصيةً وَدَاعيةً، وأقوالًا حدسيةً بليغةً، تحمل خلاصة الحكمة التي رسَّبتها الخبرة العميقة بالعلاقة الشائكة بين السلطة والثقافة.
أما الوجه الآخر الذي استعدته لعادل إمام بمناسبة بيوت الثقافة ومصيرها، فكان مشهدًا من فيلم التجربة الدنماركية (2003)، عندما باغت وزير الشباب والرياضة قدري المنياوي مركز شباب أبو المزامير بزيارة مفاجئة، متجولًا بين المواشي والدواجن التي يربيها الموظفون داخل المركز، وغرزة المعسِّل التي دعا إليها مدير المركز أصحابه وأقاربه، تحت لافتة "حلّاق ومطاهر" التي اعتبرها "نشاط اقتصادي" حين سأله الوزير.
سطوع عادل إمام بدأ من التقاط خيط كوميدي ذهني، وجد ترجمته في نموذج عضلي حركي تلبَّسه جسدًا وملامح، والاثنان يحيطان بروح نقدية لم تفارق مشواره. ذهنيًّا، انصبَّت كوميديا عادل إمام حول فراغ المعنى، افتقاده للاتساق وتشبعه بالتناقض.
في النص الأصلي لمسرحية مدرسة المشاغبين، يبدأ المؤلف علي سالم الفصل الثاني بالزعيم بهجت الأباصيري مخاطبًا زملاءه "إخواني.. الحكاية مش حكاية خمسة منحرفين، حكاية المجتمع اللي وراء الخمسة المنحرفين"، على ميزان نداء عبد الحليم حافظ، مستدعيًا جمال عبد الناصر، في أغنية حكاية شعب.
وفي اللحظة التي قُدِّمت فيها مدرسة المشاغبين على المسرح (1971)، ليعرف عادل إمام طريقه نحو أدوار البطولة، كانت فكرة التناقض بين جيل أدمن ترويج الكذب تحت لافتات باهية، وآخر يقطع مع تقاليد النفاق، تبدو مغرية للكاتب والممثلين.
وزير شباب أو طالب ثانوي يتجسد عادل إمام بروحه النقدية وملامحه التي تعرف التناقض وتندهش منه
النزعة الإصلاحية أكثر وضوحًا في نص علي سالم مما شهدناه في المسرحية التي نحفظها عن ظهر قلب، وإن كنا نتوقف فيها عند مشاهد التهكم وتحطيم هيبة الأبوية. يوحي النص بمساحات من التفاؤل بالمستقبل، الذي يعوِّل فيه المؤلف على مصارحة الذات واتساقها القيمي، ورأب صدع التناقض الذي يُنقِّلها جبرًا بين كذبة وأخرى.
دعوته للتحرر من سطوة الآباء، خصوصًا سلطة الناظر التي تتجسد في أكثر من مشهد لتعترض أحلام الطلاب، تقابلها على الناحية الأخرى دعوة للانضباط والجدية، على لسان المُعلِّمة التي توسطت المسافة بين الكبار والصغار؛ "التهريج والمرح شيء ظريف، بس اللي أظرف من كدا، نعرف امتى نهرّج وفين. امتى نكون مرحين، وامتى نكون جادين".
وفي محاولتها نقل موقع القيادة من الشخص/الناظر إلى الفكرة، ومن التقليد للاقتناع، تبرز رمزية "مدرسة المشاغبين" في تأثرها بخطابات عالم نهاية الستينيات والسبعينيات، في القرن العشرين، المُبشِّرة بالفرد وحرية الضمير والحقوق المدنية. يمكن ترجمة ذلك في السياق المصري لتفاؤل بالحراكات الطلابية، واكتساب القدرة على التظاهر والهجوم على الرئيس، والهامش الديمقراطي الذي أتاحه السادات في الإعلام وهَدْمِه المعتقلات السياسية، ثم السماح بتشكيل الأحزاب بعد حرب أكتوبر 1973.
مطاردة ذهنية للجميع
إلا أن مشوار البطولة الجدي لعادل إمام خلال الثمانينيات وحتى العقد الأول من القرن الحالي، كان بمنزلة تبديد مَرِح لتفاؤل علي سالم، وتهريج متعمَّد يضيء على منظومة إفراغ المعنى في عالميها الفردي والجماعي.
وزير شباب أو طالب ثانوي، كان عادل إمام يتجسد بروحه النقدية وملامحه التي تعرف بالتناقض لكنها تندهش منه في الوقت ذاته. من مواقع الحكَّام والمحكومين، البيروقراطيين والبيزنس، المتسولين والفلاحين، يبعث برسالة لهم وعنهم، معهم وضدهم. تتفكك عبرها الألغاز الخطابية وتناقضات إدراك الذات؛ بين تضخّمها وقزميتها، امتلائها الذكوري والشعاراتي وفراغها من الحيلة، لهوها بالمعاني المضخمة وإفلاس مضمونها.
ويبدو تبديل المواقع المقصود من عادل إمام، بعكس فؤاد المهندس أو نجيب الريحاني، مطاردة ذهنية تشخيصية لهذه الطُرُز الثقافية الأولية للتكوينة الاجتماعية المصرية/cultural archetypes، لا تُركّز على طبقة بعينها مثل الأفندية المهمشين في حالة الريحاني والبيروقراطيين القوميين في حالة المهندس. ولا تنحبس في نمط تحدده شريحة مهنية أو صفات بدنية/شكلية. كما تتنوع مدارس السيناريو والإخراج التي تعامل معها إلى حد شمل مجمل منتجي الدراما المصريين وتنوعاتهم، باستثناءات قليلة.
فالعمر والألق المهني امتدا بعادل إمام حتى نجح في بناء معجم لمفردات الوعي الحسي والذهني، الذي يكوّن أخلاق التناقض، ويجيزها ويشرعنها دستور حياة، في خطابات وكاركترات الزعماء ووزرائهم وشيوخهم ومعارضيهم، وكذلك في أنماط البسطاء والإسلاميين والفهلوية والمجرمين والمظلومين.
يبرز في معجم إمام وطرزه الثقافية رفض دؤوب لواقع مفروض، يشبه المُركَّب الضدِّي؛ التشكك الشعبي المتأصل في ما تقوله أو تفعله الحكومة، وشعور مقابل لدى الحكومة بأن "الوعي خسارة في الشعوب الغدَّارة". ويماثل شعور الطرفين بأن واقعًا جبريًّا هبط عليهما معًا، وعليهما أن ينتجا لغة مشتركة للتحايل عليه، فيما كل طرف منهما يحتاط من الآخر ونيّاته. وتتحول لغتهما المشتركة إلى شبكة عنكبوتية من الأكواد الرمزية لنفاق الذات والمجموع، شريطة أن تُنتج الحيل المناسبة للهروب فوق الواقع، وتحدي مشكلاته بإعادة إنتاج التناقضات القديمة في حُلّة جديدة.
يجيد عادل إمام في اختياراته التقاط تلك اللحظة التي يواجه فيها بطله أزمته، ثم تسوقه المواقف الدرامية للإقدام على أكثر السلوكيات فانتازيةً من أجل أن يقفز عليها. مثل رجل أعمال يقرر استكمال تعليمه في عمر يجاوز الستين، فيتحول خجله من الجهل لتبجُّح في الحصول على الشهادة عبر الرشوة، أو مهندس يبدأ بطموح جذب فتاة تعجبه، وينتهي معارضًا كذوبًا يخوض معركة ضد سفارة إسرائيل.
من يسمع هذا الكلام يفترض أن يرى فيه تهريجًا لكن المشكلة أن قائليه مسؤولون في أعلى المناصب
وحين تظهر شخصيات عادل إمام في جانب أكثر اتساقًا، يكون الهدف أن تحمل شخصيات أخرى في العمل راية التناقض، أن تكون هي الكائن الغرائبي، الذي تستفحل قسوته مع غبائه، وعجرفته مع فشله، مثل وزير الداخلية في الإرهاب والكباب (1992) أو رجل الأعمال في المنسي (1993) أو الشخصيات التي يلتقيها العميد مجدي نور في النوم في العسل (1996).
هذه المباراة الكوميدية التي يصطحبنا عادل إمام لنخوضها معه، تُعرَّي في كل مرة، وأحيانًا بمجرد نظرة ورفعة حاجب، هذه الشبكة من الأكواد الثقافية وأخلاق التناقض، وتكشف عن هشاشتها المفرطة حتى لو صاغت جبلًا من الحجج لنفسها أو للغير. وهي سبَّاقة في رؤيتها لنا، ونحن نختلق عالمنا الرافض للواقع، والهارب من حقيقته، قبل أن يداهمنا عالمٌ يمكن فيه اصطناع الحقيقة والخبر والمعلومة، بل واصطناعنا نحن وردود فعلنا ومشاعرنا، على مقياس هذه الحقيقة أو تلك، ولو لمدة محدودة يستغرقها الترند.
مثال بيوت وقصور الثقافة، والعتمة التي تشيعها وفرة الشهادات والتصريحات، دون أن يبددها خطاب مسؤول مرجعي موثوق، ينقل غابة الأكواد المتناقضة من أفلام عادل إمام، إلى واقعنا اليومي الذي نرى أخباره على السوشيال ميديا. ينقلها من عالمها الرمزي الذي تتكثَّف فيه قصص الدراما وروحها النقدية، إلى ممارسة تتواطأ على الحقيقة والبداهة.
مثلها الكتاتيب، وحديث رئيس الوزراء عن الكُتَّاب الذي سيؤدي دورًا في بناء "الشخصية المصرية" و"الوعي". هذا الخطاب هو تفصيلة في أخبار وتصريحات متناثرة نسمعها منذ عدة أشهر عن إضافة مادة التربية الدينية للمجموع في جميع الصفوف الدراسية، أو مبادرة لعودة الكتاتيب تقودها وزارة الأوقاف، أو استعمال المساجد في أدوار المدارس. ومؤخرًا أضاف رئيس الوزراء أن قصور الثقافة ومراكز الشباب يمكن أن تُسَّخر هي الأخرى لاستيعاب طلاب المدارس ورياض الأطفال.
من يسمع هذا الكلام يفترض أن يرى فيه تهريجًا، أو استحالة. لكن المشكلة أن قائليه مسؤولون في أعلى المناصب، يتجاسرون على تصور المؤسسات في غير أدوارها، والطلاب في غير مدارسهم، و"الشخصية المصرية" و"وعيها" كلمات لُعب فاقدة للمعنى. فالمعنى لا يصبح مفهومًا إلا إذا وُظِّف ضمن شبكة من المعاني تجمعها علاقات مفهومة.
أما أن يُراد للإنسان أن يتخيل الكُتَّاب رياض أطفال، والمسجد مدرسة، والديناصور طيارة، وأن يتخيل مسؤولون أن فرط الإبداع يكمن في تحويل الأدوار الحيوية لمؤسسات التنشئة الاجتماعية؛ التعليم والثقافة والرياضة والفنون، إلى أفران خَبز الشخصية المصرية الغامضة إياها، أو استيعاب الأعداد الزائدة عن قدرة المؤسسات، فهو بالتأكيد أرفع وسام يمكن أن يناله عادل إمام، رغم كل الحب الجارف والشعبية الخالدة والتكريمات التي حازها. فقد هربت شخصياته من أفلامها، وانتزعت حياتها في الواقع.
الأفلام التي احتاجت في السابق لخيال الكُتَّاب والمخرجين والممثلين، صارت منتَجًا يوميًّا يصنعه أصحاب المناصب العليا، ويُفَنتزوه، ويقفزون بإحالات اللغة وشبكات تناقضاتها لمستويات لم تعد رمزية، ولا تحتاج لممثلين ومتقمصين، إذ إن لغتهم أصبحت بذاتها كوميكس، دون أن نتبارى في الإضافة لها أو تحويل معانيها.