أزمة سكان أم أزمة تنمية.. لماذا لا يشعر المواطنون بالإنجازات؟

منشور الثلاثاء 30 يناير 2018

الحديث عن الحد من الزيادة السكانية هي من أكثر العبارات التي ترددت على لسان رؤساء الجمهورية المتعاقبين في خطاباتهم ولقاءاتهم الجماهيرية، بدءًا من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي. تجسد هذا الاهتمام في شكل دعم الدولة لبرامج ووسائل تنظيم النسل وتدشين حملات إعلامية حول الموضوع، وأدى ذلك إلى انخفاض معدلات النمو السكاني والخصوبة نسبيًا.

ومن الملاحظ أن الخطاب السياسي حول هذه المسألة اتخذ منحى مختلفًا خلال عصر مبارك، فبالإضافة إلى الحملات الإعلامية والصحية الداعمة لتنظيم اﻷسرة، بدأت تظهر بالخطاب الرسمي لهجة تحميل الشعب مسؤولية غياب آثار النمو الاقتصادي لأنهم ينجبون كثيرًا، كما هو ملاحظ في أحد خطابات مبارك الأخيرة في المؤتمر العام للحزب الوطني عام 2010.

لاحظنا مؤخرًا أن هذا الشكل من التناول للمسألة السكانية قد تم استعادته في أحد الخطابات الأخيرة للرئيس عبد الفتاح السيسي. حيث أشار الرئيس إلى أن "النمو السكاني يمنع شعور المواطن بالتحسن الاقتصادي".

هذا التناول يشير إلى انتهاء مرحلة الآمال العريضة للمصريين والوعود الوردية والمطالبات بالصبر والتحمل (سنتين ثم ستة أشهر) من قبل السلطة، والانتقال إلى مرحلة تحميل المواطنين مسؤولية عدم الشعور بالتنمية المتحققة. هذا الانتقال في رأيي كان مدفوعًا بملل الكثيرين من المصريين، بمن فيهم بعض أتباع النظام ومريديه، من خطابات التسويف (اصبروا معي) مما أدى إلى انتقالنا إلى مرحلة (أنتم المشكلة). وبذلك تحولت مسألة الزيادة السكانية ليس فقط إلى أداة لتبرير عجز السلطة عن تحقيق التنمية وعدم قدرتها على تحسين سبل عيش المواطنين -والتي هي وظيفتها الأساسية بالمناسبة- إنما أيضًا إلى أداة لتحميل المواطنين المسؤولية والذنب معًا على عدم إحساسهم بالمجهودات التي تبذلها الدولة.

إن القول بأن المشكلة هي عدد السكان هو اعتراف ضمني بالفشل في تحقيق الوعود والالتزام بالعهود التي قطعها النظام الحالي على نفسه، فعدد السكان، أو تحديدًا معدل نمو السكان، ليس حدثًا فجائيًا كان غائبًا منذ أربعة سنوات وظهر فجأة، بل هو واقع مستمر، وهناك دراسات تتنبأ بعدد السكان في مصر حتى عام 2050، وبالتالي استعادة خطاب الأزمة السكانية لا يعدو أن يكون محاولة لإخفاء الإخفاق الذي يستشعره الكثير من المواطنين عبر انخفاض قدراتهم الشرائية، وتآكل مواردهم المعيشية وتقلص سبل عيشهم. هذا الخطاب يخفي فشل سياسات التنمية ويبرر انسحاب الدولة وتدهور الخدمات الاجتماعية والسكانية.

من ناحية أخري هناك العديد من الدراسات حول العلاقة بين النمو السكاني والفقر والتنمية وعلى عكس الذي يروجه الخطاب الرسمي فإن الدراسات تؤكد أن زيادة الإنجاب نتيجة للفقر وليست سببًا له، أي أن الفقراء ينجبون لأنهم فقراء ولم يتحولوا إلى فقراء نتيجة لإنجابهم أكثر. وهناك تفسيرات عديدة لذلك مثل غياب شبكات الضمان الاجتماعي وبالتالي يبحث الفقراء عن الأمان عبر إنجاب الأطفال حتى ينضمون لسوق العمل غير الرسمي غالبًا، وكذلك عمالة الأطفال، أيضًا ارتفاع نسبه وفيات الأطفال بين الفقراء، لذلك ينجبون أكثر لزيادة فرص البقاء على قيد الحياة. كل هذه الأسباب تؤكد أن الفقر سابق للإنجاب وليس لاحقًا له، كما أن دراسات عديدة تؤكد أن معدلات الإنجاب تنخفض بشكل عام مع تحسن سبل العيش وهذا ما يُعرف بنظرية التحول الديموجرافي. وفقًا لذلك فشل سياسات التنمية وزيادة معدلات الفقر هي أسباب لزيادة معدلات السكان وليست نتيجة لها.

لعبة الأرقام

يمارس المسؤولون في مصر انتقائية في اختيار الأرقام التي تجسد أفكارهم، وهي أرقام حقيقية بدون شك لكنها لا تظهر الصورة الكاملة للواقع. على سبيل المثال تحدث الرئيس الحالي عن أن نسبة 2.5 بالمئة هي نسبة عالية جدا للنمو السكاني، لكنه لا يتحدث عن حيوية التركيب العمري والنوعي للسكان في مصر وتميزه الإيجابي. يُعتَبَر التركيب النوعي العمري أحد المقاييس السكانية المهمة لمعرفة قوة السكان وقدرتهم الإنتاجية ومقدرتهم الحيوية مما يعطينا فهمًا أعمق للظاهرة السكانية دون الاقتصار فقط على معدل المواليد.

واذا نظرنا الي الهرم السكاني (كما بالشكل التالي) يتضح ان نسبة 34% من السكان أقل من 15 عامًا وأن نسبة 41% من السكان في سن العمل من 19 إلى 60 عامًا ويقدرون بـ 43 مليون شخص. وهذا يعني أن المجتمع المصري شاب وحيوي، وهنا أقتبس قول وزير التنمية المحلية الحالي، أبو بكر الجندي، حين كان رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حيث قال إن" الهرم السكاني في مصر مثالي، وبه قاعدة كبيرة من الشباب يحسدنا عليها العالم". إن عرض الجانب الإيجابي للخصائص السكانية قد يعطي صورة أكثر تكاملًا من الصورة التي تركز  فقط على معدل النمو.

 

المصدر: الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء، عرض نتائج التعداد العام للسكان 2017.

 

لماذا لا يشعر المواطنون بالتنمية المتحققة؟

لكي نعرف سبب عدم شعور المصريين بالتنمية يجب علينا أن نلقي نظرة إلى بعض الأرقام الأخرى التي لا تظهر عادة بوضوح في الخطابات الرسمية. وفقًا لتقارير الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، فقد بلغت نسبة من يعيشون تحت خط الفقر عام 2017 حوالي 27% من جملة المصريين، وهذا يعني أن حوالي 30 مليون مصري تحت خط الفقر وفق هذه الإحصائيات الرسمية. هذا لا ينفي مجهودات الدولة والتي أشارت إلى وصول عدد المستفيدين من برنامج تكافل وكرامة إلى مليون و500 ألف أسرة فقيرة أيّ ما يقارب 6 ملايين فرد، ومع ذلك فان ملايين الفقراء لا يزالون خارج شبكات الضمان الاجتماعي، وهذا ما أكده تقرير للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء حيث أوضح أن حوالي 80% من الفقراء غير مشمولين بأي شبكات ضمان اجتماعي.

يعاني ثلاثون مليون مصري من نقص وسوء التغذية وهذا يؤثر علي الأطفال بشكل أساسي، حيث يقل معدل نمو أجسادهم وتطور قدراتهم على التحصيل والإدراك. توضح الباحثة الاقتصادية سلمى حسين أن واحدًا من بين كل ثلاثة أطفال في مصر مصاب بالتقزم وهذا المعدل يشابه معدلات التقزم في دولة خارجة من حرب أهلية وليس دولة يتباهي نظامها بتحقيق طفرة تنموية.

وبالإضافة لذلك فان مصر شهدت زيادة مرتفعة للأسعار ومعدل التضخم عال جدًا، كما ارتفعت الأسعار بشكل كبير جدًا. ويوضح الشكل التالي لمؤشر أسعار المستهلكين، والذي يعبر عن أسعار سلة من السلع والخدمات في مصر، بشكل لا يدع مجالًا للشك، حجم الزيادة المتسارعة في الأسعار خلال الأربع سنوات الأخيرة. يكفي أن تتحدث مع أي من ربات البيوت لتعرف مدى تأثير زيادة أسعار الطماطم والخضروات الأساسية علي سبيل المثال لا الحصر خلال الأربع سنوات الماضية.

 

 

مؤشر أسعار المستهلك (بالإنجليزية: Consumer price index، اختصاراً CPI) ويعبر عن مقدار التغير الشهري للأسعار لسلة محددة من السلع الاستهلاكية تتضمن الغذاء والملبس والنقل. ويعتبر مؤشر سعر المستهلك (CPI)، هو المؤشر الرئيسي للتضخم ومعدل التغير في الأسعار في البلاد.

https://ar.tradingeconomics.com/egypt/consumer-price-index-cpi

ليست الزيادة السكانية، بل الفقر والجوع والبطالة، هي الأسباب الأساسية التي تجعل المصريين لا يشعرون بالتحسن الذي يتحدث عنه النظام. رغم أننا لا ننكر تنفيذ إنشاءات وحدوث تحسن في بعض المؤشرات الاقتصادية.

انحيازات السلطة

"التنمية هي عملية متكاملة ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية وبيئية، تهدف إلى تحقيق التحسن المتواصل من أجل رفاهية كل السكان، والتي يتم التوصل إليها عبر أعمال الحقوق الجماعية والحريات الفردية وصيانة الموارد الطبيعية. التنمية تشتمل علي توسيع الخيارات المتاحة أمام البشر، تتضمن هذه الخيارات حياة آمنة وصحية وخالية من الأمراض، الحصول على المعارف والتعليم، النفاذ للموارد لتحقيق مستوى حياتي لائق". (التنمية حرية، إمارتيا سين)

أزمة التنمية سببها طبيعة النظام الاقتصادي الذي تتبناه الدولة وهو مبني علي سياسات التقشف وتقليص الإنفاق الاجتماعي وعدم فرض ضرائب على الثروات الفائقة، وكذلك تعطيل الضرائب على أرباح البورصات والضرائب العقارية، وفي المقابل يتم تحميل الفقراء أعباءً إضافية مقابل الخدمات الحكومية (تم رفع رسوم الخدمات الحكومية في معظم الهيئات)، كذلك فرض ضرائب مبيعات يتحملها المستهلك مباشرة. هذه الانحيازات الاقتصادية والاجتماعية بسياسات التنمية تجعل الإنفاق على توصيل الخدمات للمنتجعات الجديدة المخصصة للأغنياء أولى من تحسين السكك الحديدية أو تحسين جودة مياه الشرب بالصعيد علي سبيل المثال.

لا يشعر الناس بالتنمية لأن السياسات المتبعة لا تستهدفهم بشكل مباشر، فالدولة تقيس التنمية بالمتر (حجم الطرق التي بُنيت وعدد المباني والمناطق العمرانية والوحدات السكنية) وهذا القياس يستبعد الإنسان رغم أنه محور أي عملية تنموية وأساسها. البشر في مفهوم الدولة للتنمية عبء ومعطل لجهود التنمية وليس غاية وجوهر التنمية.

حين ينتقل الناس واحتياجاتهم ورغباتهم إلى قلب مفهوم وممارسات التنمية التي تتبناها الدولة وقتها فقط سيشعر الناس بالتنمية، أما وأنها لا تحقق رغباتهم ولا تمس احتياجاتهم بل وتُفاقم معاناتهم فمن المنطقي جدًا أنهم لا يشعرون بها أو بالأحرى يشعرون فقط بآثارها السلبية عليهم.