قبل نحو سنة، أطلق معهد التخطيط القومي تقريرًا عامًا عن تعميق التصنيع المحلي في مصر. المعهد هو الذراع البحثية لوزارة التخطيط، التي أنشئت عام 1958 عندما كانت الدولة تلعب دورًا محوريًا في عملية التنمية، من خلال ملكية العديد من أدوات الإنتاج والسيطرة على التجارة الخارجية والداخلية وحركة رؤوس الأموال.
كان الدافعُ الرئيسي للتخطيط المركزي وتوسيع القطاع العام بالتأميم أو الاستثمارات الحكومية تحقيقَ التحول الصناعي في مصر، وهذه قصة يطول الحديث فيها، وإن كان سهلًا استخلاص أن هذا التحول لم يحدث حتى الآن، حتى بعد أن أصبحنا نموذجًا أقرب إلى السوق الحرة التي يسيطر فيها القطاع الخاص على أغلب النشاط الاقتصادي.
ومع سيطرة القطاع الخاص على الاقتصاد في الوقت الراهن، يبدو تجدد الحديث عن "دور الدولة" في تعميق الصناعة أمرًا يحمل دلالات مهمة، خاصة وأنه يصدر عن مؤسسات في الدولة نفسها.
هناك من الأسباب ما يدفع نحو استعادة الدولة للاقتصاد، فقد تبين أن تعميق الصناعة أمر لا مفر منه لعلاج معضلات التمويل الخارجي، المتمثلة في كثافة الاعتماد على الواردات وضعف أداء الصادرات، في ظل محدودية مساهمة قطاع الصناعات التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي.
ينطوي تقرير معهد التخطيط على العديد من البيانات التي تدلل على حال الصناعة اليوم، إذ يفيد مثلًا بأن نصيب الصناعات التحويلية انخفض من 16% في 2006، وهي نسبة متواضعة، إلى 14.8% في 2021، وإذا استُبعد تكرير البترول، تنخفض النسبة إلى 10.7%.
كل هذا يستدعي تدخلًا ما للدولة، لا بصفتها مالكًا لأدوات الإنتاج كما كان الوضع في ظل عبد الناصر، بل كمنظم ومستثمر وجهة صاحبة رؤية استراتيجية، تدير بها العلاقة مع المجتمع، بما في ذلك أصحاب رؤوس الأموال.
في هذا السياق تحديدًا، اضطلع معهد التخطيط بكتابة تقريره الوافي، الذي جاء في أكثر من 500 صفحة بعنوان "تعميق التصنيع المحلي في مصر"، وهو تقرير يستحق القراءة والتعليق والاشتباك، باعتباره اقتراحًا مفصلًا للمضي قدمًا فيما تقول الحكومة الحالية إنه بات أولوية.
قضايا قديمة لكنها متجددة
يستند التقرير إلى ورقة مفاهيمية من إعداد الاقتصادي العتيد الدكتور إبراهيم العيسوي الأستاذ بالمعهد، وصاحب سجل المؤلفات الطويل عن قضايا الاقتصاد والتنمية في مصر. لكن محتواه أتى كذلك من مجهود بحثي ميداني امتد لنحو ثلاث سنوات (2020-2023)، اشتمل على 29 ورقة بحثية أعدها 46 باحثًا من داخل وخارج المعهد، بالإضافة إلى عشرات اللقاءات وورش العمل مع ذوي الصلة في مؤسسات الدولة والقطاعين الخاص والعام.
أتى التقرير في ثلاثة أجزاء كان أولها تأطيرًا نظريًا ثريًا ومعمقًا لدور الدولة وفلسفة التنمية في المرحلة الحالية، بما حمل اشتباكًا نظريًا مع أدبيات الدولة التنموية التي تناولت حالات تاريخية للتنمية قادتها الدولة في سياقات رأسمالية، أي بالشراكة مع القطاع الخاص، مثل كوريا الجنوبية وتايوان وكذلك الصين. ولا شك أن الهم الفكري الرئيسي لهذا الجزء كان تتبع أي دور يمكن للدولة أن تلعبه في سياق العولمة الاقتصادية، من تحرير للتجارة وحركة رؤوس الأموال وتراجع دور الدولة لصالح قوى السوق.
ينتقد التقرير تضارب أدوار الدولة كمنظم ومخطط ومستثمر في الوقت نفسه
خرج الاستخلاص الأساسي بأن ثمة دورًا ينبغي للدولة أن تلعبه، خاصة في بلد مثل مصر يعاني من قضايا تنمية "قديمة ولكن متجددة" حسب التعبير المستخدم في التقرير، على رأسها معضلة التنمية الصناعية، ويقصد بها توسيع قاعدة الصناعة من جهة، ومن جهة أخرى تعميقها بمعنى إحلال صناعات محلية محل المستوردة.
ويقدم التقرير في الجزء الثاني منه معلومات غاية في الثراء والدقة حول قطاعات الصناعة التحويلية في مصر، ويستعرض الخبرات السابقة في تعميق الصناعة ويتناولها بالتحليل والنقد للوقوف على بعض قصص النجاح، وأخرى للفشل. ويُختتم الجزء الثالث بالغوص في عشر صناعات محددة مرشحة للتعميق، وهو تحليل قطاعي مستند إلى بيانات ومعلومات نادرة نسبيًا، إذ يصعب توافرها بشدة للباحثين في الحالة المصرية، وهو أمر يدعو للأسف.
نقد سياسات الدولة
يحرص مؤلفو التقرير على تأكيد أنه ليس خطة مفصَّلة لتعميق التصنيع المحلي في مصر، لأن عملًا كهذا يتطلب فريقًا أكبر وأكثر تنوعًا في خلفياته وخبراته العملية، سواء داخل جهاز الدولة وهيئاتها وشركاتها أو في القطاع الخاص.
وحسنًا فعلوا، لأن دور الخبراء من الاقتصاديين أو المهندسين لا يتجاوز كونه مكونًا واحدًا فحسب في مجهود ينبغي أن تقوده جهات الدولة التنفيذية، ممثلة في حالتنا بوزارات الصناعة والمالية والتخطيط، كنواة صلبة للتخطيط والتنفيذ، بالتنسيق مع فاعلين كثر في القطاع الخاص، ومع العمال بالطبع حال وجود تنظيمات نقابية يُعتد بها.
أرى أن التقرير يمهد لنقاش، لا داخل أجهزة الدولة ودوائر القطاع الخاص فحسب، بل قد يتَّسع ليشمل المهتمين بالشأن الاقتصادي والتنموي العام في البلاد، لأنه يتطرق إلى العديد من المشكلات، ويتحدث عن الكثير من الفرص، كما لا يتوانى عن توجيه النقد لممارسات وسياسات انتهجتها الدولة في العقد الماضي بما لا يخدم التنمية الصناعية، على رأسها غياب استراتيجية متكاملة للتصنيع، رغم كثرة الحديث عن استراتيجيات من هذا النوع.
انصبت انتقادات التقرير بالأساس على تضارب الأدوار خلال السنوات الأخيرة بين الدولة كمنظم ومخطط ومستثمر في الوقت نفسه، ومزاحمة مؤسساتها القطاع الخاص في الأنشطة الإنتاجية.
ورغم تقديري للجهد والمحتوى، فإني أعتقد أن التقرير أغفل مسألة جوهرية تتعلق بالأبعاد المؤسسية لتطوير استراتيجية لتعميق التصنيع، إذ اكتفى بالحديث عن ضرورة اضطلاع الدولة بدور تنموي مستندًا في ذلك إلى تجارب الدول التنموية في شرق آسيا، فيما تفتقد مؤسسات الدولة في مصر الظرف المؤسسي الذي يتيح لها ذلك. فالدولة التنموية ليست خيارًا يتم اتخاذه بقدر ما هي مجموعة من القدرات على الفعل على المدى البعيد، تغيب بشكل عام عن هيكل وأداء الدولة، وإن وجدت في بعض القطاعات كجزر منعزلة هنا وهناك.
ومن هنا أعتقد أن ما نحتاجه فعليًا هو متابعة النقاش وتوسيعه، لينتقل من محتوى أي سياسة مستقبلية لتعميق التصنيع إلى توفير الظرف المؤسسي الضروري لذلك، واتخاذ ما يلزم لتحقيق ذلك، وإلا انتهينا إلى وضع قد نكون فيه قادرين على إصدار وثائق وتقارير بل وخطط واستراتيجيات متسقة ومتماسكة على الورق، ولكن في فراغ مؤسسي يحول دون تحقيقها على الأرض.