فليكر برخصة المشاع الإبداعي
مشهد ليلي من أحد شوارع لندن.

الأخ الأكبر يساومك: التأديب أو البطالة

منشور الخميس 17 يونيو 2021

هذا هو الجزء الثاني من مقالين عن قوائم الإرهابيين وقانون فصل الموظفين العموميين دون محاكمة. لقراءة الجزء الأول الأخ الأكبر يساومك: الصمت مقابل العمل


القانون الثاني الذي يؤدي بنا إلى طريق الصين؛ هو مشروع القانون الذي يهدد الموظفين المصريين في وظائفهم.

المستقر في قوانين الوظيفة العامة المصرية أنها تسمح بفصل الموظف العام من وظيفته بطريقتين؛ الأولى بالطريق التأديبي، أي صدور حكم من المحكمة التأديبية بفصله من وظيفته، بعد تمكينه من الدفاع عن نفسه، والرد على كل ادعاءات النيابة الإدارية في هذا الشأن. الطريقة الثانية التي تتيح فصل الموظف هو إدانته في جنحة مخلة بالشرف أو الأمانة، أو في جناية أيًا كان نوعها.

فإذا كان القانون المصري يسمح بفصل الموظف العام إذا ارتكب مخالفات أو جنحة أو جناية تستوجب فصله، فما هي الحاجة لتشريع جديد يعطي جهة العمل الحق في الفصل دون حكم قضائي؟

الرغبة الحقيقية من تمرير هذا التشريع هو اتاحة الفصل من العمل اعتمادًا على محاضر التحريات التي وصفتها محكمة النقض بأنها "مجرد رأي يعبر عن صاحبه فقط، ولا ترقى لدرجة الدليل، وإنما هي تحتاج لدليل يعززها أو تعزز هي دليل آخر حتى يمكن الاعتماد عليها".

مشروع القانون الذى وافقت عليه اللجنة التشريعية والدستورية بمجلس النواب في مايو/ آيار ويونيو/ حزيران الجاري حدد ثلاث حالات يجوز فيها فصل الموظف بغير الطريق التأديبي. 

تمثلت الحالة الأولى في السماح "بفصل الموظف إذا أخل بواجباته الوظيفية بما من شأنه الإضرار الجسيم بمرفق عام بالدولة أو بمصالحها الاقتصادية".

والرد على هذه الحالة يدفعنا للتساؤل: وإذا ارتكب الموظف مثل هذا الإخلال، فلماذا لا يطبق عليه القانون بأن تقدمه النيابة الإدارية لمحاكمة تأديبية، ليتمكن من الدفاع عن نفسه وإذا ثبت ذلك الخطأ بحقه يفصل بحكم محكمة؟ ومن الذى يحدد كيف أخل الموظف بواجباته من عدمه؟ وكيف أضر ذلك بمرفق الدولة أو بمصالحها الاقتصادية؟

هذا المشروع يستهدف التعديل في مراكز أطراف الصراع ويهدر توازن العلاقة الوظيفية حيث يجرد الموظف من أبسط الحقوق التي يتمتع بها، ففي القواعد العامة عند تقديم موظف للمحاكمة يكون موقوفًا عن العمل فقط، ويتقاضى نصف راتبه على أن يتقاضى النصف المتأخر بعد انتهاء المحاكمة والحكم لصالحه، أما في المشروع المقترح فالسلطة الإدارية تصدر قرار الفصل وتنهي خدمة العامل، ولا يكون أمامه إلا الطعن على الحكم أمام المحكمة وينتظر حكمها إما أن يكون لصالحه أو ضده، ولا يتقاضى أى راتب إلا إذا حكمت المحكمة لصالحه بالغاء قرار الفصل والعودة للعمل.

الحالة  الثانية التى أضافها مشروع القانون هى السماح بـ "فصل الموظف إذا قامت بشأنه قرائن جدية على ما يمس الأمن القومي للبلاد وسلامتها، ويعد إدراج العامل على قائمة الإرهابيين وفقًا لأحكام القانون رقم 8 لسنة 2015 بشأن تنظيم قوائم الكيانات الارهابية والارهابيين قرينة جدية".

والرد على هذه الحالة يكون بتوضيح أن "القرائن ليست دليلًا"، وإنما مجرد استنباط قد يصادف الحقيقة أو لا يصادفها، ومن ثم يختلف الاستنباط والتحليل من شخص لآخر، ولكن التعديل اعتبر الإدراج على القوائم الإرهابية قرينة جدية على أن هذا الشخص ارتكب ما يمس الأمن القومي للبلاد، فضلًا على أن الادراج مجرد إجراء تحفظي مؤقت، ومحدد بمدة خمس سنوات، ومن ثم لا يجوز أن يترتب على إجراء مؤقت كهذا، تطبيق عقوبة دائمة بالفصل من العمل، بالإضافة للآثار الاجتماعية والاقتصادية التي ستمتد لأسرة المٌدرج ومن يعولهم، وكذا الحيلولة دون اندماجه في المجتمع.

الحالة الثالثة في مشروع القانون التي توجب الفصل "إذا فقد الموظف الثقة والاعتبار".

والرد على حجة الفصل هذه بأن نص المشروع يتجاهل الآثار القانونية التي تترتب حال رد الاعتبار والثقة سواء بحكم قضائي أو بقوة القانون، فكيف يستمر فصل الموظف من عمله رغم رد اعتباره.

نعرف أن الحكم في عقوبة جناية أو جنحة قد يؤدي إلى الانتقاص من شخص المحكوم عليه ويحول دون استعادة مكانته الاجتماعية اللائقة، ودون الوصول إلى مركز شريف إذا كان الحكم بالعقاب يستتبعه الحرمان من بعض الحقوق السياسية أو المدنية، ويسجل في صحيفة السوابق، وبالتالي يتعذر على المحكوم عليه الاندماج ثانية في الهيئة الاجتماعية، وليس من العدل أن يحرم شخص من رد اعتباره إذا بذل مجهودًا ليحسّن سيره وسلوكه، وأقام الدليل على ذلك بمرور فترة معينة دون أن يرتكب جرائم أخرى، لذلك قررت التشريعات رد الاعتبار إما قضائيًا أو قانونيًا.

ولهذا السبب نص قانون الإجراءات الجنائية على جواز رد اعتبار مَن صدر ضده حكم في جناية أو جنحة، وجاء النص عامًا مطلقًا وغير مقيد، ولكن لا يجوز رد الاعتبار إلا لمرة واحدة فقط، فلو ارتكب جريمة بعد ذلك لا يجوز رد الاعتبار فيها، ولا تقبل دعوى رد الاعتبار حال توافر ثلاث شروط: تنفيذ العقوبة المقضي بها، وسداد الالتزامات المالية المترتبة عليها، ومرور فترة من الزمن دون أن يحدث فيها ما يشين طالب الرد، وهذه الفترة في الجنايات ست سنوات، وفي حالة الجنح ثلاث سنوات.

هذا بشأن رد الاعتبار القضائي، أما رد الاعتبار القانوني فقد نص قانون الإجراءات الجنائية في المادتين 550 و551 على أن مجرد مرور اثني عشر عامًا على تنفيذ الأحكام الصادرة بعقوبة جناية أو بعقوبة جنحة، يؤدي إلى رد اعتبار المحكوم عليهم بحكم القانون، أما عقوبات الجنح الأخرى فيكفي مرور ست سنوات على تنفيذها ليرد اعتبار المحكوم عليه بقوة القانون.

ويترتب على رد الاعتبار سواء كان قضائيًا أو قانونيًا استرداد كامل الحقوق المدنية والسياسية. ولكن مشروع هذا التعديل تجاهل كافة الآثار القانونية لرد الاعتبار.

الحالات الثلاثة سالفة الذكر توضح أن مشروع التعديل يساوم على الحق في العمل، فالصمت التام مقابل استمرار علاقة العمل. نحن هنا أمام محاولة لفرض الصمت على المجتمع بقوة القانون، من خلال محاضر تحريات وإجراءات مناهضة لكافة المبادئ الدستورية تسهل إدراج أى مواطن على قوائم الارهابيين دون أن يتمكَّن من الدفاع عن نفسه.

وضع تشريعات مواجهة الإرهاب تحمل دومًا حزمتين من التحديات: الحزمة الأولى؛ هي تحديات تحقيق الأمن وحماية الأرواح والممتلكات العامة والخاصة، والحزمة الثانية؛ هي تحديات حماية الحريات الدستورية سواء العامة منها أو الشخصية، وضمان صيانة الدولة لحقوق الإنسان من العدوان عليها أو الانتقاص منها سواء جاء هذا العدوان أو الانتقاص من طرفها أو من الغير.

وإذا كانت هذه التحديات تثير مخاوف عدة عند صياغة تشريعات مكافحة الإرهاب في مراحل الاستقرار السياسي والاجتماعي في أي بلد حتى لو كان هذا التشريع صادرًا من برلمان منتخب، فإن هذه المخاوف تتعاظم في المراحل الانتقالية التي تعقب الثورات أو تعقب تغيير الأنظمة السياسية الحاكمة، وخاصة إذا صدرت تلك التشريعات في وقت تهيمن فيه سلطة تنفيذية على جوهر مهام السلطة التشريعية، فالقوانين ليست تعبير عن العدالة المفترضة والتي نتمناه في إطار من التوازن المرن بين السلطات، ولكنها في الحقيقة هي تعبير عن مصالح القوى المتحكمة في إصدار وصناعة التشريعات.

وبالتالي؛ فإن تطبيق العقاب الجنائي على مرتكب أي فعل بعد محاكمة عادلة ومنصفة له أمرًا يجب على الجميع التمسك به من أجل حماية المجتمع، لكن المساومة على الحق في العمل دون مقتضى خطرًا لا يمكن قبوله، فحقوق الإنسان الأساسية هي مجموعة الإحتياجات الأساسية التي تمكنه من أن يحيا بكرامة، وتحرره من الخوف والجوع. وكان من الواجبات الأساسية للدولة أن توفر الحد الأدنى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لمواطنيها حتى تمكنهم من أن يحيوا بكرامة البشر، ويأتي على رأس هذه الحقوق الحق في العمل الذي هو جوهر ووسام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والحق في العمل متربط وجودًا وعدمًا بالإنسان وليس منحة أو هبة من الدولة تمنحها وقتما تشاء وتسلبها متى أرادت.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.