تصميم أيمن يوسف- المنصة

رحلتي مع ذاكرة الألم

منشور الخميس 11 أغسطس 2022 - آخر تحديث الخميس 11 أغسطس 2022

منذ نحو 30 عامًا بدأت علاقتي بطبيب اﻷسنان، عندما فاجأني ألمٌ في ضرسي فاصطحبتني أُمي للعيادة، لم تكن التقنياتُ تطورت كحالها الآن. كان الجهازُ أقربَ لشنيور، بمجرد الاقتراب مني ركضتُ على الدرج، قبل أن يعيدوني لكرسي الكشف، ويبدأ الطبيب النخر في ضرسي دون مخدر، وبلا أدنى تعاطف مع طفلة تتألم تحت وطأة جهازه المرعب.

ذهبَ الألمُ وبقيت ذكراه، كنتُ أظنُّ أنّ ذاكرةَ الألم مفهومٌ يخصُّني وحدي بسبب صعوبة التجربة الأولى عند طبيب الأسنان، أشعر بآلامها كاملة كلما تذكرتها، كأن أدوات الطبيب تنخر في ضرسي اﻵن، تلفحني برودتها المعدنية ويشكني طرفُها المدبب.

هل يمكننا تدريب مرضى الألم المزمن على نسيان آلامهم؟ عندما نلمس إناءً ساخنًا تدرك المستشعرات أن درجة الحرارة تتجاوز الحد الأدنى من الأمان، وتنشط الأعصاب الحسية في مكان لمس الإناء لنشعر بالألم، بعد تمرير المعلومات اللازمة عبر راحتي اليد والذراع ثم الحبل الشوكي ومنها إلى الدماغ، ليفسر اﻷخيرُ المعلوماتِ على أنّها ألمٌ، ويدرك أن راحةَ اليد تشعرُ بخطرِ الحرق فيأمرها العقلُ بالتراجع.

هذا ما يحدث ببساطة عندما نخشى الألم بأنواعه المختلفة. التراجع عن مصدره كآلية يتبعها  الجسمُ للدفاع عن نفسه.

وبسبب محاولة جسد الإنسان التكيف، طوّر جهازُنا العصبيّ القدرةَ على الشعور بالألم كنظامٍ وقائي لتحذيرنا من الأخطار الوشيكة، لكنّ على الرغم من حساسية الجهاز العصبي فإنّه عرضة للأخطاء في بعض الأوقات، بسبب أن الأعصابَ المصابة يمكن أن تنمو مرةً أخرى وتطلق مشاعرَ الألم بصورة متقطعة وتنتج إحساسًا متكررًا بالوجع، ومع تكرار هذه المشاعر تبدأ ذاكرة الألم في التكون والنمو.

ذاكرة اﻷلم

تختلف مقولة ذاكرة الألم pain memory عن مقولة أخرى phantom pain التي تُعرف في العربية بالآلام الشبحية أو الوهمية، التي تظهر في النهايات العصبية للأطراف المبتورة بعد الجراحة، وكأنها اﻷطراف لا تزال موجودة.

لكن ذاكرة اﻷلم يعني تَذكُر الجهاز العصبي المركزي التجارب المؤلمة مع كل تجربة وجع جديدة على مستوى الخلايا العصبية في كل مكان في الجسم، وعادةً ما تستهدف المسكنات الألم عن طريق تنشيط نظام التسكين في الدماغ لتقليل الشعور به، بيّد أنّ التجارب الجديدة تحاول تتبع مسار ذاكرة الألم للحد من الشعور به.

وتختلف العواطفُ والقدرة على إدراك المشاعر من شخص للآخر؛ لذلك يختلف البشر في استجاباتهم للألم، تبعًا للخلفية الثقافية والمعتقدات والحالة النفسية والجنس، فما يمكن أن تكون تجربة ما مصدر إزعاجٍ بسيطٍ لشخص، يمكن أن تكون التجربةُ ذاتها ألمًا مروعًا لا يحتمل بالنسبة لآخر.

كيف نشعر باﻷلم؟

علميًا ينتقل الشعور بالوجع من خلال مستقبلات الألم، عن طريق تمزق أو أو كسر أو جرح، ثم تتحول هذه الأحاسيس إلى نبضات كهربائية تنتقل إلى الدماغ فيشعر بالألم، في تلك المنطقة التي تشبه الطريق السريع، الذي ينقل الألم من الأجزاء السفلية في الحبل الشوكي إلى الدماغ، وهنا ينطلق الوجع ويتحكم في السلوك الجسدي وطرق التعبير عنه.

وتعلمنا الذكريات المؤلمة أن نكون حذرين من النار أو حد السكين أو من السقوط، نتجنب مسببات الأوجاع. لكن في حالتي كانت آلات الطبيب هي المصدر، فكنتُ أستعيد ذاكرة الألم كلما جلستُ على كرسي طبيب الأسنان.

أوجاعنا ليست شعورًا مجردًا، وتجربتها ليست جسدية فقط، لكنها تصطحب تأثيرًا نفسيًا ومعنويًا وعاطفيًا، وقد تدوم ذكراها لتتحول إلى شعور مزمن، كما أن المسارات التي تستخدمها نبضات الألم لا تثير فقط مناطق الدماغ التي تعاني الألم الجسدي، إنّما تثير أيضًا المناطق المرتبطة بالعاطفة والإدراك؛ لتجبرنا على تكوين ذكريات دقيقة حول كل تجربة مؤلمة.

ويمكن أن تستمر ذاكرة الألم حتى بعد إزالة الأنسجة التالفة، حيث لا مصدر للإحساس سوى ذاكرة تحتفظ بصورة الوجع ما يحوله من شعور عابر إلى آخر مزمن ومستمر.

أطباء نظريون

في زيارتي قبل الأخيرة لطبيبة الأسنان لإزالة أعصاب الضرس و"حشو العصب"، كنتً أتألم، على الرغم من أن إزالة اﻷعصاب تمنع الشعور بأي وجع، لكن الألم كان غير محتمل، ولم تقتنع الطبيبة بشعوري نهائيًا، ورأتْ في بكائي "دلعًا زائدًا وأوهامًا"، بيّد أنني كنتُ أتألم حقًا.

أظهرت بحوث ودراسات أن أفضل طريقة لتجنب الألم غير المنطقي، هي منع تكوين ذكريات مؤلمة أثناء أي إصابة أو عملية جراحية. ربما يلعب التخدير ذلك الدور، لكن ماذا لو كانت ذاكرة اﻷلم تكونت بالفعل، إلى الدرجة التي أحتاج فيها من أربع إلى خمس جرعات مخدر؟

أسوأ ما في الأمر أن الأطباء الذين زرتهم لا يتعاطفون مع المرضى ولا يتعاملون سوى بالنظريات العلمية، لذلك لم تدرك الطبيبة ما يدور في عقلي أثناء دقها ونخرها داخل ضرسي. كانت تتأفف وتعمل بلا رغبة وتكرر باستمرار بنفاد صبر "أنتِ خايفة كده ليه؟ أنا مش عارفة اشتغل"!

طبيبة أم صديقة؟

زاد ألم ضرسي وتورّم وجهي من جانبه اﻷيسر، فذهبت لطبيبة أخرى، نصحني بها صديق. لم أتذكر من النصيحة سوى جملة "أمي بتخاف جدًا واستريحت على الآخر مع دكتورة سارة". أيقنت أن الشعور بالاطمئنان هو ما أحتاجه، ولا أجده عند كل الأطباء، فلكل طبيب طريقة، هناك الطبيب العملي والأب والصديق، وأغلب المرضى يفضلون اﻷخير، لأنه يشبع حاجتهم بالتعاطف.

استمعت الطبيبة الجديدة إلى شكواي، وعرفت قصتي مع اﻷلم، ونادت على مساعدتها لتربت على يدي وتحتضنها أثناء العمل في أسناني وقبيل أن تحقنني بالبنج، التجربة اﻷكثر رعبًأ ﻷغلب مرضى اﻷسنان، هنا بدأ الخوف يتلاشى، وكلمة السر التواصل الإنساني.

لكن التواصل لم يكن وحده سبب تراجع الشعور بالألم، هو أشبه بمحفز أوصلني إلى الإطمئنان، فتمكنتُ من التنفس بعمق وطرد الخوف، وفكرتُ على نحو إيجابيي بعيدًا عن مشاعر الكآبة حتى وصلت لمرحلة مقبولة من الراحة عززتها الطبيبة بطريقتها الودودة، لتصبح "استعارات اﻷلم" بتعبير اﻷمريكية سوزان سونتاج في كتابها المرض كاستعارة، داخل ذاكرتي أقل حدّة، مثل حافة خشبية مدببة هذبتها يد حرفي ماهر؛ لتصبح أكثر استدارة ومرونة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.