برخصة المشاع الإبداعي: ويكيبيديا
جرافيتي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في مدينة دانية الإسبانية، صورة ملتقطة في 4 أكتوبر 2019

من أمريكا إلى العالم.. آفة الاضطراب السياسي التي قد تتسع

منشور السبت 14 يونيو 2025

ينظر كثيرون الآن بعين الدهشة إلى الاحتجاجات التي تشهدها مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، وهناك من يتوقعون امتدادها أفقيًا إلى مدن أخرى، ومن لا يستبعدون تعمقها رأسيًا لتتحول إلى حرب أهلية قد تطول.

وما يجري للمجتمع الأمريكي وغيره ليس بعيدًا عن تصور علماء الاجتماع في الغرب نفسه، وقد أفاضوا في هذا كثيرًا. لكن بينما كانت أغلب دراساتهم منصبة على مجتمعات من دول العالم الثالث، ها هم يجدون أنفسهم اليوم أمام حالة قد يستغربونها، كونها تحدث في عقر دار الإمبراطورية التي تتسيد العالم.

أجد نفسي في هذا المقام، ومن زاوية علم الاجتماع السياسي، في حاجة إلى الغوص في مسألة "الاضطراب السياسي" هذه من حيث صورها وأشكالها والأسباب التي تؤدي إليها، غير مقتصر على ما يجري في أمريكا، خاصة أن مجتمعات عربية عدة متورطة في هذا الاضطراب أو تقف على حافته.

في العموم، فإن المجتمع الإنساني يهتز لأسباب عديدة فيفقد لُحمته، أو بعضها. وهذا يؤدي أيًا كانت درجته، إلى تصدع التماسك الاجتماعي، ما يشكل خطرًا على الدولة، أقله حرمانها من مزايا التماسك، منها وجود مجتمع قادر على تحقيق مستويات أعلى من الإنتاج، والوصول إلى نمط اقتصادي أفضل على المدى البعيد.

وإذا كان التماسك الاجتماعي مسألة جوازية، لأنها تنطبق بالأساس على الجماعات الصغيرة، لا المجتمع كله بالضرورة، فإن النقيض؛ أي التفكك، لا يقتصر على التجمعات المحدودة، إنما قد يصيب المجتمع بأسره، إذا طرأ توتر أو تصدع أو ضعف على العلاقات الاجتماعية أو مكونات النسق الاجتماعي، نتيجة نقص تأثير القواعد العامة للسلوك على أفراد الجماعة، أو انحراف القيم والمعايير المتفق عليها والمتبعة.

هذا التفكك يمكن أن يكون راجعًا إلى عصرنة وتحديث مفرط، واستغراق في الفردية، حيث وجدت المجتمعات الحديثة نفسها بلا روابط دموية أو جغرافية، ولا روابط ثقافية واجتماعية. بل وهناك مجتمعات تعاد خلخلتها بالكامل؛ في المدينة الواحدة، والحي الواحد، والمؤسسة الواحدة، والبناية الواحدة، ثم تشكيل كل منها مرة كل يوم، أو كل أسبوع.

أسباب التحديث والعصرنة لم تمنع وقوع الولايات المتحدة في فخ الاضطراب

وعندما تغيب سيادة القانون، تبدأ مرحلة "التفسخ الاجتماعي"، حيث تتضارب مدونات السلوك الشخصي مع المعايير والمقاييس العامة المتوافق عليها، ويعطي أغلب الناس ظهورهم لغيرهم، وتتسع الفراغات المفعمة بالصمت والمكر والريبة والضغينة واللامبالاة حيال حياة الآخرين ومصالحهم، وإدراك كل فرد لنفسه وكأنه عابر سبيل، فعندها يتآكل المجتمع من داخله ويتحلل.

التحولات العنيفة التي تغيِّر أمرًا اعتاد الناس عليه وألفوه، وإن كان بسيطًا، تخلق حالة من الاضطراب الاجتماعي. قد تأتي هذه التحولات على شكل كوارث طبيعية أو أوبئة، لكنها قد تكون ناجمة أيضًا عن توحش آليات السوق، وعجز الاقتصاد عن تحقيق الكفاية والرفاه.

بعيدًا عن النموذج الأمريكي، تظل مجتمعات دول جوار البلدان التي تعاني من نزاعات، أكثر عُرضة من غيرها للاضطرابات الاجتماعية وفقدان التماسك، خاصة لو كان بعض سكانها مربوطين بانتماءات قومية أو دينية أو مذهبية أو عرقية أو ثقافية مع السكان المتحاربين، مثلما تأثرت مجتمعات الأردن ولبنان وسوريا بالصراع الضاري في الأرض المحتلة.

فهؤلاء السكان قد يتحركون لنصرة من لهم بهم رابطة، أو يضغطون على حكومتهم المحلية لتفعل شيئًا في هذا الاتجاه. علاوة على هذا فإن الدول التي تكابد الحرب ستكون طاردةً لجزء من سكانها داخليًا ليصيروا متشردين، وخارجيًا إلى الدول المجاورة ليكونوا لاجئين ونازحين.

السياقات الإسلامية استعملت مصطلحًا آخر وهو "الفتنة" وفصلت فيه مستعينة بنصوص وآراء دينية عديدة، حتى صار مبحثًا غليظًا في الفكر السياسي الإسلامي، مغموسًا في الصراع على السلطة وما نجم عنه، أو نشأ على حوافه، من تصورات ورؤى سياسية. وهنا نجد أن الانحرافات الفكرية والمذهبية خرجت من رحم الفتن السياسية، ثم واكبتها وعمَّقتها لتصل إلى الجذور، ولم تكتفِ بهذا بل دافعت عنها، وأعطتها صبغة مقدسة أو شرعية ما.

ورغم قيام الدول الحديثة التي تأسست على شرعية شعبية لا دينية أو تقليدية وفق دساتير مدنية، حتى لو نص بعضها على استلهام مبادئ الشريعة الإسلامية والاستفادة منها، فإن الخطاب الديني السياسي لم يخلُ من استدعاء "فقه الفتنة" حين تدعو الضرورة، متكئة بالأساس على الشق الذي يرسخ الطاعة السياسية، ويحذر من فراغ السلطة، مهما كانت الأسباب والذرائع.

مثل هذه الدولة وإن كانت حديثة من حيث الزمان المجرد، فإنها ليست كذلك في سياق التطور التاريخي العالمي، حيث إن نظم حكمها ليست ملائمة للعصر. فمثلًا "تأخر العرب في تجديد ثقافتهم السياسية، وبناء اجتماعهم السياسي على عقد مشترك بين الحاكم والمحكوم، مارسوا السياسة بمنطق العصبية والقوة والغلبة، فإن تفككت هذه المنظومة، فلن ينقذها أحد إلا شرعية عقد وطني يقوم على التراضي لا الإكراه"، كما يقول سليمان تقي الدين في كتابه العرب في مخاض التغيير.

وسواء كنا بصدد حديث عصري عن الاضطراب الاجتماعي، أو قديم عن الفتنة السياسية، فإن بين الحالتين تشابهًا كبيرًا في مساحات الفراغ أو الخلخلة التي تصيب المجتمعات الإنسانية، كما رأينا في نماذج عديدة من دول العالم الثالث، منذ ظهور الدولة القومية وإلى الآن.

عطفًا على ما سبق، فالولايات المتحدة الأمريكية، ورغم أنها تقوم على مجتمع توافرت له كل أسباب التحديث والعصرنة، فإن هذا كله لا يمنع من وقوعها في فخ الاضطراب السياسي والاجتماعي، جراء قيام إدارة دونالد ترامب بكسر القواعد والتقاليد، بل والقيم العامة، التي عاش عليها المجتمع الأمريكي طويلًا، متمتعًا بمرونة قوية تعطيه قدرًا كبيرًا من التماسك، وعبور المشكلات.

هذه الإدارة في تحطيمها القيم الاجتماعية والإنسانية، وإضعاف المؤسسات الراسخة ومنها مؤسسة القضاء والبيروقراطية والاقتصاد، وإنشاء مجموعات للضبط خارج القانون، وتبنيها نوعًا من "المكارثية الجديدة" ضد المهاجرين، وتهميشها الإجراءات المتبعة في صناعة القرار واتخاذه، تمهد، من حيث لا تريد، لشيوع نوع من الاضطراب في رحاب المجتمع الأمريكي، وهي نار قد تجد من يصب عليها الزيت في قابل الأيام، بفعل النزعات اليمينية المتوحشة التي وجد لها جمهورًا يزيد بين أنصار ترامب نفسه.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.