Pixapay- برخصة المشاع الإبداعي
جمهور لعرض موسيقي

الموسيقى التي تسع.. العروبة التي تُقصي

منشور الاثنين 7 نوفمبر 2022

الخميس الماضي، انتهت فعاليات الدورة 31 من مهرجان الموسيقى العربية، وكذلك مؤتمر الموسيقى، اللذان جرت العادة إقامتهما معًا، وكان أبرز ما أثاره انعقادهما سؤالًا لافتًا عن ماهية ما نسمعه من موسيقى بالأساس.

في بداية أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، وقبل نحو أسبوعين من الفعاليتين، أثار استبعاد السودان من المشاركة في المهرجان جدلًا واسعًا، وهو ما برره حلمي بكر، عضو اللجنة التحضيرية للمهرجان، بأن الموسيقى السودانية تخالف "هوية مهرجان الموسيقى العربية ومقاماته والسلم الخاص به".

يطرح تصريح بكر سؤالًا، لا يندرج تحت ما اعتدناه من الملحن الذي ألفَ الظهور في هيئة المدافع عن قيم الموسيقى الرفيعة: هل للموسيقى العربية هوية تنفصل عن قوميتها، قد تنبذ فرادتها موسيقات عربية أخرى؟

ربما نحتاج إلى تتبع قصة الموسيقى العربية نفسها منذ بدايتها للإجابة.

حكاية الموسيقى العربية

في عام 1932 دشن الفنان محمد أحمد الحفني مؤتمرًا للموسيقى العربية، التي لم تكن مدونة رغم إنشاء معهد الموسيقى العربية قبل ذلك بعشر سنوات. كان هدفه آنذاك "تلاقي الموسيقيين العرب بعلماء الغرب المنشغلين بالموسيقى العربية لبحث كل ما يتعلق برقيها، تعليمها، ووضعها على قواعد علمية ثابتة معترف بها"، حسب كتاب مؤتمر الموسيقى العربية عام 1932. وبناء على ذلك التصور كان للجلسات النقاشية والعلمية الصدارة من حيث اهتمام المؤتمر، وأقيمت على هامشه عددًا من العروض الموسيقية.

وبعد ستين سنة لاحقة، أسست ابنته رتيبة الحفني، مهرجان الموسيقى العربية في عام 1992، بهدف الحفاظ على التراث العربي الموسيقي القديم، إضافة إلى اكتشاف الأصوات الجيدة وتدريبها على ذلك التراث الضخم. ولازم المؤتمر المهرجان، وعقدت الجلسات النقاشية على هامش الحفلات.


كان الهدف إذن من وراء الفعاليتين، أولًا، البحث عن سمات مشتركة يجتمع حولها التراث الموسيقى العربي والتقعيد لها، وهي مهمة المؤتمر، وثانيًا، الحفاظ على ذلك التراث من الاندثار، وهي مهمة المهرجان.

ولكن كيف كان ذلك التراث قبل "جمعه"، والخشية عليه من الاندثار؟

تعود أصول الموسيقى العربية بسلمها السباعي إلى الشرارة التي انطلقت من شبه الجزيرة العربية، وامتزجت مع ما يشبهها في السلم من موسيقات البلاد التي دخلها الإسلام. ومع ازدياد الرقعة الإسلامية وتجذر علومها ولغتها وفنونها كونت الموسيقى السباعية القائمة على المزج ما سمي بالموسيقى الإسلامية، التي طورت وسادت لاحقًا في قصور الخلفاء حسب موقفهم من الموسيقى.

لكن هذا المصطلح لم يشمل كل موسيقى تعزف في الأراضي الإسلامية، لأنه أغفل كثيرًا من الموسيقات المحلية التي كانت سائدة في البلاد قبل دخول الإسلام إليها.

دفعت الموسيقى المحلية، الباحث والمطرب النوبي حمزة علاء الدين إلى وصفها بالموسيقى السلالية، ورصد علاقتها واختلافها مع الموسيقى الإسلامية، معتبرًا إياها "ثمرة اندماج ملحوظ بين ثقافات مختلفة نتجت عنها موسيقى جديدة بنوعيّة معيّنة بها كل مدركات هذا الاختلاف، وجوهر العربيّ يمثّل فيها الوسيط الكيميائيّ كحافظ. واشتقت من أربع قوميّات واضحة المعالم والمصادر، أوّلها الشرق الأوسط مهد التقاليد، ثانيًا فارس وتمتد شرقًا لآسيا، ثالثًا المغرب العربي وتمتد لإسبانيا والبرتغال وجنوب كل من فرنسا وإيطاليا، ورابعًا التركي وتمتد لآسيا الصغرى. هذا الاندماج أخذ مركزه على مستوى الموسيقى الفن، أمّا الموسيقى السلاليّة في جميع البلاد الإسلاميّة، تُركت كما هي من دون لمس أو تغيير، وإن كان استمرارها تحت ظل الموسيقى الفن، تارةً تتأثّر بها وتارةً تؤثّر عليها".

ويفسر ما ذهب إليه علاء الدين، التهميش الذي نال من الموسيقى الخماسية في مصر. فبعدما كانت هي السائدة، انحسرت مع توالي الحضارات المحتلة إلى الهامش النوبي. وربما يمكننا وفقه أيضًا فهم انتقال التسمية أو تطور الموسيقى الإسلامية للعربية نتيجة للضعف الذي أصاب دول الخلافة، وصعود التيارات العلمانية وسيطرتها على البلاد العربية.

ويفسر كذلك سبب تسمية أول مكان لدراسة الموسيقى، الذي أنشأه الملك فؤاد عام 1922، بـ "المعهد الملكي للموسيقى العربية"، وكانت تدرس فيه الموسيقى العربية التي أصّل لها محمد أحمد حفني وأرجعها للجذر الإسلامي في مقدمة كتابه عن مؤتمر الموسيقى.

جغرافيا ثابتة وقومية مزدوجة

إذا نظرنا الآن للموسيقى السودانية وفق المعطيات السابقة، سنجد أن السلم الخماسي هو الخط الواصل بين معظم الأنواع الموسيقية التي تنتجها البقاع السودانية المختلفة. فعلى مستوى الغناء السائد، نجد أن أغنية الحقيبة (مصطلح يصف مرحلة مبكرة في الغناء السوداني كان الفنان يحمل معداته كلها في حقيبة) التي كانت جذرًا خرج منه الغناء السوداني الحديث هي أغنية خماسية بالأساس.

وحتى مع خروج الأشكال الحديثة التي اعتمدت على الإنتاج الذاتي من الشباب كالريجى والزنق والراب، حافظ الشباب فيها على المزج بين الميلودي الغربي وبين الإيقاعات السودانية المحلية.

أما على مستوى الغناء الشعبي، فتؤكد المطربة السودانية آسيا مدني، التي تستلهم مشروعها الغنائي من التراث الفلكلوري، أن أغلب ما أنتجته القبائل في كل أقاليم السودان الزراعية والصحراوية محاك لموسيقات الدول الإفريقية المجاورة، ومعتمد على السلم الخماسي. فقط بعض القبائل العربية التي هاجرت من شبه الجزيرة واستوطنت شرق السودان اصطحبت معها الأغاني العربية ذات السلم السباعي.

ترى مدني أن بكر محقًا فيما قاله، وأنه من الطبيعي أن تتخصص المهرجانات في أنواع موسيقية بحد ذاتها كالجاز والريجي وغيرها، وأن السودان بلد إفريقي لغته العربية، ولا تضاد في ذلك.

تناقضات في تحديد الهوية

ثمة فروق واضحة إذن بين الموسيقى السودانية وما استقر إليه مصطلح الموسيقى العربية من نوع فني، لكن ذلك لا يرجّح اعتراض بكر على إدراج الموسيقى السودانية ضمن جدول المهرجان، التزامًا بهدفه الأساس بالحفاظ على تراث مفترض.

فالمهرجان الذي استبعد نوع خالف التراث، استضاف في الوقت نفسه فنانين تعتمد أغنياتهم اللغة العربية في كلماتها صحيح، لكن ألحانها ليست تراثية، بل تعتمد أحيانًا على إيقاعات غربية. وبالنظر إلى جدول المهرجان، فإنه ليس ثمة معيار لاختيار مطربين ومطربات كراغب علامة ورامي عياش وجنات لإحياء حفلات المهرجان، سوى جماهيريتهم الواسعة، بغض النظر عن عدم التزامهم بالتراث العربي.

كما يبدو التناقض جليًا في اختيار الفنان محمد منير، الذي يستلهم معظم أعماله من الموسيقى النوبية خماسية السلم. وكرم المهرجان في دورته عام 2021 المطرب السوداني محمد الأمين،  فضلًا عن استضافة مؤتمر الموسيقى العربية في دورته هذا العام الدكتور الفاتح حسين، عميد كلية الموسيقى والدراما بالسودان، الذي أكد للمنصة أنه يشارك في فعالياته منذ عام 2006.


عن تلك التناقضات يرى عازف الإيقاع هاني بدير في حديثه للمنصة، "حلها هو مراجعة القائمين على المهرجان والمؤتمر لأهدافهما، وتحديد موقف واضح. إذا كان الانحياز للأهداف الفنية المرتبطة بالحفاظ على التراث وإعادة إحياؤه وربط الجمهور بجذوره الموسيقية، فعلينا الالتزام بذلك وعليه يتم منح الفرصة للفنانين والباحثين اللذين اختاروا التراث العربي كأساس لمشروعاتهم سواء الموسيقية أو البحثية".

ويضيف "أما إذا كان الهدف قومي جغرافي ثقافي مرتبط بدور القاهرة كعاصمة ثقافية تقيم مهرجانًا لتلاقي الموسيقيين من العواصم العربية، فعلينا إعلان ذلك، واختيار الفنانين بناء على اتساع القاعدة الجماهيرية بغض النظر عن جنسياتهم أو تصنيف مشروعهم الفني. ولتكن التسمية الأقرب هنا مهرجان القاهرة الموسيقي، كمهرجان قرطاج مثلًا، الذي هو من أكبر الأحداث الموسيقية في الوطن العربي، ويتشرف الفنانين بالمشاركة فيه، وله جماهيرية داخل تونس وخارجها تدعم أهدافه الموسيقية والفنية بل والسياحية أيضًا، ويعرف نفسه باعتباره مهرجان عربي أفريقي عالمي، مُرحبًا بكل الهويات".

وينبه بدير إلى أن الهوية الثقافية والفنية، إنّما هي شيء متشابك ومعقد، فمصر دولة عربية ولكن لا يلغي ذلك  إفريقيتها، ولا يتعارض مع إقدام فنانيها على إبداع مشاريع موسيقية قائمة على مزج الموسيقات المختلفة في العالم. فالموسيقى عمل إبداعي والإبداع أساسه الحرية وهدفه الاختلاف، مثلما يقول أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة "إن هويتي هي التي تعني أنني لا أشبه أي شخص آخر".

اليوم، بينما ينفتح العالم على بعضه بضغطة زر، ويتحول إنتاج ونشر وتوزيع الموسيقى إلى الرقمية، تظهر الحاجة الملحة لتنظيم فعاليات تستعيد الجماهير للحفلات الحية. ولكن على هذه الفعاليات أن تتخلص من المحدودية والإقصاء وتنفتح على التنوع والسعة. كما قال معلوف أيضًا "نظرتنا هي التي غالبًا ما تسجن الآخرين داخل انتماءاتهم الضيقة، ونظرتنا كذلك هي التي تحررهم".