
زياد الرحباني يغنّي خلف نعشه
زياد الرحباني، هذا الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في حياته، أراد لمماته أن يكون استمرارًا للثورة التي أطلقها على الاستسلام للواقع، بحروبه وسُلطَته وطبقيته وظلمه. الزاحفون خلفه، من الحمرا في بيروت إلى قرية المحيدثة في جبل لبنان، كانوا صورة عنه. كأنهم هو. لسانهم لسانه. عباراته التي حفظوها عن ظهر قلب كانت هي التي تسير خلف ذلك النعش العادي.
هكذا كان التشييع؛ زيادٌ يشيّع زيادَ. أتراها مزحة جديدة؟ لماذا لا يعرف هذا الرجل حدودًا للسخرية؟
في الحمرا منذ السادسة والنصف صباحًا، تداعى أصدقاء ومحبو ومريدو زياد. لأنهم في البدء مفجوعون برحيله ويريدون وداعه، ولأنهم أيضًا حانقون على استئثار العائلة بزيادهم في وداعه وبطريقة لا تشبهه. وهذا أمر ليس بجديد في مجتمع يصادر الموتى لحسابه مهما تمردوا عليه في حياتهم. هكذا أراد آل الرحباني: ورقةُ نعيٍ فيها الكثير الكثير من أسماءٍ وأقوالٍ لا تعني زياد الذي رحل "مزودًا بالأسرار المقدسّة" على قول تلك الورقة، وجنازةٌ تراعي التقليد الديني والاجتماعي الذي قضى حياته يتمرد عليه.
هكذا، وبشكل شبه عفوي، تساءل الناس على السوشيال ميديا؛ كيف لجنازة زيادة الرحباني أن تقتصر على العائلة؟ من أخذ هذا القرار الأناني والقاسي بحقنا؟ هل زياد مِلك الرحابنة؟ كرّت سبحة التمرّد التي صنعها زياد، وتبلورت فكرة ملاقاته أمام المستشفى حيث يرقد الجثمان. فصار الوداع وداعين؛ واحد شعبي وآخر رسمي.
بالفعل، بالكثير من الدموع وبأغاني زياد وبالصدمة والتعازي المتبادلة بين الأصدقاء، أخذ الجمعُ يكبر ويكبر، حتى تحولت الوقفة إلى مهرجان سياسي فني شارك فيه ما يقارب ألفي شخص، اخترقه زياد متهكمًا على الموت الذي لم يَسْعَ لتأخيره، هو الذي قيل إنه رفض تلقي العلاج في الأشهر الأخيرة. فغنى مع الأصدقاء.
"جايي مع الشعب المسكين.. جايي لأعرف أرضي لمين"، و"ياللي بيصلي الجمعة وياللي بيصلي الأحد.. قاعد يفلح فينا على طول الجمعة"، و"شو هالأيام اللي وصلنالا قال إنو غني عم يعطي فقير"، إلى الكثير من الأغاني التي رافقت الجمع، ورافقت أفرادًا كانوا يرددون: أنا صار لازم ودّعكم، وهم يسيرون خلف بوصلتهم في الحمرا حيث عاش في البيوت وعزف في الحانات، وأشهرها "بارومتر" و"بلو نوت" و"شي اندريه".
الموكب مرّ أيضًا بمنزله الذي سكنه في أيامه الأخيرة، ويُحكى أن فيروز كانت تتسلل إليه في عتمة كل ليلة سبت لتطمئن إلى ولدها.
لكنَّ المفاجأة أن من ظنوا أنهم اكتفوا بوداع حبيبهم في الحمرا، عادوا وأبوا إلا أن يوافوه إلى المحيدثة - بكفيا، حيث قرّرت العائلة أن تصلّي على الجثمان وتتقبل التعازي في كنيستها، بعيدًا عن بيروت بنحو 30 كيلومترًا، بداعي قُربها من مكان إقامة السيدة فيروز كما قيل.
وإذا كان زياد هو الحدث المزلزل برحيله، فإن فيروز كانت هي الحكاية بحضورها.
كثير من الأقاويل ترددت قبل التشييع، حتى انتهت، من دون مصدر، إلى أن فيروز ستدخل إلى الكنيسة من بابٍ خلفيٍّ لتلقي نظرة الوداع الأخير على ابنها، ثم تغادر. وقد تعامل الجمع مع هذه "المعلومة" بكثيرٍ من العادية.
فهذه فيروز التي لا تُرى. وهذه فيروز التي لا يصح عليها ما يصح على غيرها. كل ذلك، تكسّر عند الساعة الحادية عشرة، موعد بدء تقبّل التعازي في صالون الكنيسة.
كان لزياد الرحباني رأي آخر. زياد الذي أنزل فيروز من عرشها في بداية التسعينيات مع ألبوم "كيفك انت"، مقدّمًا إياها لجمهور جديد، تخاطبه بكلامه ومصطلحاته؛ "كيفك قال عم بيقولوا صار عندك ولاد"، ولاحقًا تحدثت إليه بكلام أقل من عادي؛ "كان غير شكل الزيتون كان.. غير شكل الصابون"، جاعلًا الفيروزيين حينها يغضبون من أنسنة فيروزهم الملائكية، عاد هو نفسه بعد 34 عامًا ليكرّر المحاولة.
وهذه المرة أيضًا أنزلها من عليائها، لكن ليس بدافع فني، بل لأن رحيله أعادها أمًّا. نزلت فيروز من السيارة إنسانةً، ومشت بين الجموع بخشوع متجهة إلى الكنيسة لوداع حبيبها. لم تكترث بكل الهالة التي تحيطها ولا بالايقونة التي تكونها ولا بعمرها الذي تخطى التسعين. هذا يوم جلل بالنسبة للبنانيين، فكيف بها؟
كانت أمس هي الأم الثكلى بابنها، الأم العادية المكسورة برحيله، فحضرت بين الجموع وتلقت التعازي طوال سبع ساعات. كما شاركت بقداس الجنازة بدموعها التي تسرسبت من تحت نظارتها مرارًا، لتؤكد أن فيروز ليست حلمًا، بل واقع يمكن أن نلمسه. وهذا أمر ليس تفصيلًا ولا مبالغة في حياة الفيروزيين الكثر، الذين لم يتمكنوا من الاقتراب منها، ليس لشيء إلا لأن قواهم كانت تخور كلما تيقّنوا أنهم قادرون على الوصول إليها.
إلى المشهد المهيب لامتزاج رحيل زياد بحضور فيروز، حضر لبنان بكل تناقضاته وتنوّعه واختلافاته لوداع زياد والنظر إلى فيروز، التي لم يَرَها الجمهور منذ ظهورها الأخير على المسرح عام 2011. مزيج من اليسار واليمين وما بينهما؛ الفقير والغني، المثقف ومن لا يغريه الكتاب، المؤمن والكافر، الصادق والمتملّق، الهارب من الكاميرا والساعي وراءها. كل الذين وجدوا في زياد ضالتهم يومًا، فلجأوا إلى نصوصه وموسيقاه بحثًا عن ذواتهم.
ولأن لبنان كان كل هؤلاء في حياته، فقد أبى في مماته أن يرحل من دون شكره على ما قدّمه لهم، إن كان وعيًا سياسيًا أم ثقافيًا أم اجتماعيًا، أو حتى عداءً. وما لم يتمكنوا من القيام به في الحمرا، فعلوه في المحيدثة؛ فحملوا النعش عاليًا فوق أكفّهم ورقصوا به وسط تصفيق وتأثّر كل الحاضرين وكأنهم يُحيُّون عازفٍ أنهى مقطوعته للتو، قبل أن يُنقل إلى مثواه الأخير.
زياد، ذلك النبع من المعرفة التي لم تنضب حتى مماته، ثمة ثقة بأن نتاجه الموسيقي الذي راكمه ولم ينشره سيكون زاد محبيه بعد رحيله، إلى جانب إرث كبير ومتنوع يصعب على شخص واحد أن يجمعه في حياة واحدة، إلا زياد الرحباني، العبقري، كما يصفه محبوه. هو الذي قال في كتابه صديقي الله، الذي كتبه في الرابعة عشرة من عمره "الأيام أبواب، على كل منها حارس، وقد كُتب علينا أن نخلُق كل يوم وعلى كل باب قصيدة جديدة نُلهي بها الحارس ليفتح لنا الباب إلى باب آخر".