
زياد العادي بالبيجامة.. كاسك يا رفيق
نبحث عن الاعتراف مقابل ما نفعله، أيًا كان مجال هذا الفعل. لكنَّ الرغبة في نيل الاعتراف تتعاظم حين يكون الفعل مرتبطًا بالإبداع. لا يبحث الجميع عن الشهرة، أو الجوائز، أو المال، وكل ما تحققه من حضور ونفوذ. في العمق نبحث ونحلم بأن يعترف الآخرون بقدراتنا، بأن ما نفعله متفرد وجديد. لكن هذا الاعتراف مشروط، بالذات إن كان مَن ينتظره مِن الأكثر موهبةً وتميزًا إبداعيًا، ولمعانًا، بأن يأتي ممن يرونه أفضل منهم، أو ممن يرونهم كفئًا لمنحهم الاعتراف.
لا أعرف هل تحدث زياد الرحباني، بصراحته المعهودة عن هذه المسألة فيما يخصه أم لا. لكنها في حالته ربما كانت مؤرقة. لا زيادة على هذا التعبير؛ "مؤرقة"، لأننا لا نعرف، وليس من اللائق تخمين ما كان يعتمل في نفوس الراحلين ما لم يصرحوا هم به. لكن صورة زياد، ابن فيروز والرحابنة، اقترنت في أذهان ووجدان الكثيرين من "الزياديين" بحالة من الزهق، أو الاكتئاب، أو الإسراف في الشراب لتمرير الوقت. دون أن تقترن بها تفسيرات واضحة ونهائية. إنها مجرد تخمينات مِنْ أَحِبَّتِه، اختلطت أحيانًا بقدر من النميمة.
إن كانت مسألة نيل الاعتراف معقدةً أو مؤرقةً في حالة زياد، فلأنه نال الاعتراف مبكرًا، مع أغانيه وأعماله الفنية الأولى، بالذات الموسيقية. اعتراف العمالقة؛ أمه وأبيه وعمه، بالموسيقى المبكرة لهذا المراهق. لكنهم، ولأنهم عائلته، ولأننا نعرف عن زياد روحه النقدية والمشككة، المبتعدة عن اليقينية والارتكان لما هو مريح، ربما لم يكن يكفيه هذا الاعتراف، وربما تعلقت به بعض الشوائب كونه آتيًا من الأقرب إليه، من عائلته نفسها، عائلة الموسيقيين والمسرحيين الكبار تلك.
الثوري العادي جدًا
من ضمن الصور الكثيرة لزياد، واحدةٌ نُشرت قبل سنوات عديدة بالبيجامة في بيته، وليس في عمل مسرحي. مجرد صورة، عنصر بسيط من بين عناصر كثيرة، تجعل الآخرين، عشرات وربما مئات الآلاف، يشعرون بقربه منهم، بدرجة استثنائية من العادية. بأنه من الممكن أن نطرق باب بيته في بيروت، ويفتح لنا، وبعادية بالغة يدعونا للجلوس، ويبدأ في الحديث والاستماع، وربما الشجار، من دون أن يفكر في تغيير البيجامة.
إنه الأب الذي نراه بالبيجامة، حتى بعد مماته، نتذكره جالسًا في صالة البيت بحميمية ودون تكلف، بعادية مطلقة. أو الأخ الأكبر، أو الصديق الأقرب، الرفيق الحقيقي، الذي سينزوي بك للحديث دون أن يفكر في تحسين مظهره بتغيير البيجامة. وكأننا جميعًا دخلنا لبيت زياد، وجلسنا معه، ولا بد أنه كان واعيًا بأن عاديته، وبساطته، وانحيازه لنا، هي بعض المفاتيح التي تُفسّر تحوله لأيقونة فنية وإنسانية وثورية عند الكثيرين، مضافة لقيمة أعماله الفنية.
من أصعب الأشياء أن يتمرد الفرد على عائلته. وأتصور أن الصعوبة تتضاعف مرات لا تُحصى إذا كان هذا التمرد على عائلة حققت النجاح وامتلكت المكانة والشهرة والاعتراف والنفوذ في المجال نفسه الذي اختاره الشخص للعمل والإبداع وخلق الجديد. ليست مسألة تمرد على قالب وتقاليد فنية، بل إنه تمرد يصل للتخلي عن رأسمالها، أن يسير الفرد وحيدًا، ألَّا يرتكن لميراثها وما حققته من نجاحات، وأن يغامر بعيدًا عنها مع كل يوم جديد. بل وأن ينتقدها، ويسخر منها ومن ذاته أحيانًا، نازعًا الأسطورية عنها، محاولًا تقريبها من العادية، من الأرض، من التراب، من التلوث.
https://youtu.be/uShVKzqF02c?si=BO6iUNR0FC_GEqq7إنها نماذج شديدة الندرة، بالذات في المجال الفني المعتمد على تراكم رأسمال النجاحات الفنية الباهرة، والمترجمة لرأسمال مادي ضخم. هذه النماذج القليلة كان أحد أيقوناتها زياد. ولأنها شديدة الندرة فهي تعبر عن درجة بالغة من الشجاعة والفرادة والطموح في الحرية والتمسك بها. ولمجرد وجود هذه القلة نمنحها، نحن المتطلعين إليها، بعدًا أيقونيًا، لا ينفصل عن طهارة التجرد مما هو مريح وحققته العائلة. ورغم هذه التعبيرات؛ "أيقونية"، و"طهارة"، وما تحمله من غيبيات وقداسة رَفَضهما زياد؛ فمجرد وجود أمثاله القليلين يمنح أملًا في عالم مغاير، أكثر حرية وعدلًا، لا يعتمد على الإرث ورأس المال، لا يعتمد على التراكم.
هناك قطاع من جمهور ومحبي زياد يحصرون حبهم له في عمله الموسيقي مع فيروز. لكن "الزياديين" أوسع بكثير من هذا القطاع. أغلب جمهور زياد ومحبيه من اليساريين والتقدميين، الطامحين إلى كسر التابوهات كلها. إنهم محبو زياد الموسيقي والكاتب والمسرحي والإذاعي والمؤدي، وصاحب الحس النقدي الساخر، والسياسي الثوري. طبيعي أن ينتسب أغلبهم لكل أطياف اليساريين والتقدميين والأحرار العرب، فأعماله أشهَرَت دون أي لبس انحيازه لقيم وأفكار التحرر والثورة، ومن المستحيل تناولها بمعزل عن مضامينها، ستكون ساعتها قوالب فنية ميتة، أو محلقة في الفراغ.
تمرد زياد على عائلة العمالقة الموسيقيين والمسرحيين، وأن يختار بوعي تعميق انحيازه السياسي والفكري للضعفاء والفقراء، و"الكفار" كما تقول إحدى أشهر أغانيه، وللمتمردين، هو في جوهره جزء من أيقونة زياد، تعبير عن درجة من الشجاعة والقدرة على التمرد والثورة قلما نقابلها في حياتنا.
إنه الخيار الواعي الذي ربما قاده بطبيعية لأن يكون نموذجًا لهذا الفنان الثوري الرومانسي، المصر على رومانسيته، ورومانسية حلمه، أيًا كان الثمن المحتمل دفعه. متجاوزًا، وبعد أفول زمن الثورات، ليس فقط الجدران التي تحيط بالعائلة، بل أيضًا الجدران التي تحيط بالطبقة، وبالطائفة، وبالوطن المحصور في حدود لبنانية، والجدران المحيطة بالعادات والتقاليد وأنماط السلوك القديمة المستقرة، بل والجدران التي تحيط بقدسية المشروع اليساري نفسه الذي انتمى إليه زياد، ولم يتردد في أن ينزع عنه القدسية، وأن يصيبه بالنقد اللاذع. وأن يكون منحازًا لمفهوم الحرية المطلقة قبل أي شيء آخر.
ليست الحرية الأنانية والفردية، وليست حرية التحليق الفني وكسر القوالب المستقرة، بل حرية من يستحقون الحرية ولم ينالوها يومًا. حقهم وحريتهم في أن يخلقوا عالمًا جديدًا، مُشكلًا من أفراد أحرار، انحاز له وغنّى من أجله زياد، وحاول أن يقدم بعضًا من ضوئه فوق خشبة المسرح. بل واضطر أحيانًا لأن يشهر ملامح من هذا الحلم بكلمات مباشرة في مونولوجاته الإذاعية، في عز الحرب الأهلية اللبنانية، في إذاعة صوت الشعب.
https://youtu.be/s9QNgdTZuQs?si=jx9ShHs-qKPuilMoالبيجامة في صالون البيت
مسألة الاعتراف المؤرقة للجميع، بالذات في حالة زياد، تجعلني أتخيله مبدعًا لألحان جديدة، ومسرحيات جديدة، ومونولوجات جديدة، بعد أن ثبَّت مكانته ونال اعتراف عائلته واعتراف أهم القامات الموسيقية والفنية التي عاصرها في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، لكنها رحلت واحدًا بعد آخر.
أتخيله خالقًا للجديد منتظرًا الاعتراف ممن لن يمنحه إيّاه أبدًا لأنه سبق الجميع في الرحيل؛ سيد درويش. وكأن زياد لا يزال يخاطبه أو يناديه، منبهًا لتأثره الشديد به. ليس فقط في الموسيقى، بل أيضًا في الانتماء للناس، للشعب، للثورة وللتمرد. لكن، ولأنني لست موسيقيًا أو خبيرًا في شؤون المسرح أو الكتابة، أتوقف هنا، مع الاعتراف بحقيقة بائسة، أن لا أحد يوازي قامة زياد الرحباني الموسيقية والإبداعية حاليًا في العالم العربي ليمنحه الاعتراف، وليفككه أمامنا لنتعلم منه فنيًا.
الاعتراف الوحيد الذي ناله ويناله زياد مع كل يوم جديد، خلال العقود الأخيرة الماضية، وخلال سنوات كثيرة قادمة، هو اعتراف أحِبَّته، الملايين من هذه القبيلة الواسعة من المنتمين للشعب على امتداد العالم العربي، به. اعتراف بأنه رفيقهم، صديقهم، وبأنه يمنحهم ليس فقط المثال، بل أيضًا، وقبل المثال يمنحهم الونس، الرفقة، والطاقة من أجل التمرد والثورة.
ودع كثيرون زياد يوم 26 يوليو/تموز بكلمة رفيق. ليس لأنهم شيوعيون يودعون شيوعيًا آخر. بل لأنهم يودعون ذلك الفنان الاستثنائي، مرتدي البيجامة، المصر على أن يكون واحدًا منهم، وعلى أن يقدم لهم الفن وكأنه يرفع كأسه أمام رفيق في صالة البيت، في الصالون، ليقول له: كاسك يا رفيقي، محطمًا كل هالات التقديس المحيطة بالموسيقى، جاعلًا كلًا منا ينظر إليه ليرى ذاته، أو جزءًا من ذاته، جزءًا حاضرًا حقيقة في الذات، أو كنا نتمنى وجوده في ذواتنا، منعكسًا في صورة زياد.
من هذه المنطقة نشعر بالحسرة لموت زياد، هذا الذي نناديه باسمه المجرد كأي رفيق حقيقي، لا نحتاج لإضافة اللقب، وبالذات الآن، في الزمن الصعب، وخلال إبادة الشعب الذي انتمى إليه زياد سياسيًا ونضاليًا. فحين يموت رفيقنا المتمرد، الشجاع، الرومانسي، القادر على الكلام والبوح والتفكير والمبادرة، والمغامر في كسر التابوهات، هذا الذي يُشعرنا وجوده بالاطمئنان؛ فإننا سنشعر بالوحدة والحسرة. بأننا أصبحنا أكثر ضعفًا، على امتداد كل مدن وأغلب قرى العالم العربي، حيث يوجد من خاطبهم زياد، وكان رفيقهم دون أن يقابلوه أبدًا. لكنهم لا يملكون سوى أن يقولوا له "كاسك يا رفيق زياد".