من وقفة احتجاجية سابقة لصحفيي الجريدة احتجاجًا على منع صدورها

تصدر بس: كيف تتحايل صحافة السودان على الحجب والمنع؟

منشور السبت 16 فبراير 2019

ينتظر رئيس تحرير صحيفة الجريدة المستقلة في السودان، أشرف عبد العزيز، حتى الساعات الأولى من صباح كل يوم، تنفيذ رجل الأمن المرابض في مطبعة الصحيفة مهمة الرقيب على محتوى الجريدة المعد للطباعة، ومن ثم يأمر بطباعتها أو حجبها.

ظل حجب الجريدة هو الراجح منذ اندلاع مظاهرات السودان ضد حكم الرئيس عمر البشير المستمر منذ ثلاثين عامًا، خلال شهرين منذ بدأ الاحتجاجات، منع الأمن السوداني صحيفة الجريدة المستقلة عن الصدور، لـ 30 مرة، وصادرها بعد الطباعة مرتين.

ومع تصاعد موجة الاحتجاجات الشعبية في البلاد والمستمرة منذ نحو شهرين؛ أخضع جهاز الأمن السوداني الصحف لرقابة أمنية مشددة سيما المستقلة منها، وعلى قدر أخف الموالية للحكومة والأخرى التي تخضع لتوجيهاتها، ويعاقب جهاز الأمن الصحف التي تتجاوز الخطوط الحمراء التي يضعها بنفسه والمتجددة مع الأحداث بالمصادرة بعد الطبع أو المنع من الطباعة.

 

أشرف عبد العزيز رئيس تحرير الجريدة مع مجموعة من زملائه داخل مقر الصحيفة

الاجتماع الصباحي

في كل صباح؛ يجتمع عبد العزيز مع طاقم التحرير لتحديد خطة العمل اليومية التي يأتي بين أجندتها العمل على تغطية المظاهرات المناوئة للحكومة. 

بالنسبة لرئيس التحرير وطاقمه لا يمكن تجاوز أحداث مسيطرة بشكل كبير وموجودة في كل المواقع وعمت كل مدن السودان وفرضت نفسها على الساحة السياسية، بجانب عمليات القمع الحكومية التي أسقطت قتلى وجرحى، بخلاف المعتقلين.

 

عدد صحيفة الجريدة الممنوع من الطباعة بتاريخ 8 فبراير 2019

كيف تجري الرقابة على الصحف في السودان؟

" نُمنع من صميم عملنا بواسطة جهاز الأمن والمخابرات الوطني الذي يوفد يوميًا أحد ضباطه لمتابعة الصحيفة قبل طباعتها، ويمنع صدورها ما لم تتخل عن تغطيتها المظاهرات" يقول أشرف عبد العزيز في مقابلة مع المنصة عن حياة صحيفته وصحفييه تحت المصادرة، والضابط المقيم في المطبعة. ويزيد "نضع في اعتبارنا قارئنا، عبر نقلنا المستقل للأحداث، لكن هذا حلم وضرب من الخيال".

يصف عبد العزيز الرقابة الأمنية المفروضة على الصحف منذ بداية الاحتجاجات بأنها "الأكثر تعسفًا"، ويعود للتاريخ "في السابق كان الرقيب الأمني يحضر إلى مقر الصحيفة في وقت مبكر من المساء، ويبدأ في مراجعة الموضوعات المعدة للنشر مع رئيس التحرير أو من ينوب عنه. لكن الآن الرقابة تتم من المطبعة بعد اكتمال العملية التحريرية".

يشرح عبد العزيز صعوبة الوضع الحالي مقارنة بسابقه "الآن يتعامل الرقيب مع مندوب الصحيفة في المطبعة، وهذا الشخص في الغالب يكون مشرفًا على عملية الطباعة وليست لديه أي علاقة بالعمل التحريري"، فكيف يتعامل مشرف الطبع مع الرقيب الأمني وينقل هذه المعلومات إلى رئيس التحرير" يتساءل عبد العزيز.

.. والضحية أرقام التوزيع

أفاد تقرير سنوي يصدر عن المجلس القومي للصحافة والمطبوعات حكومي للعام 2017 بتراجع كبير في توزيع الصحف بالبلاد، والبالغ عددها 45 صحيفة عاملة بصورة منتظمة. حيث يبلغ متوسط التوزيع يوميًا لكل الصحف 202 ألف و83 نسخة بمعدل قراءة يومية تقريبًا 7 نسخ لكل ألف شخص من سكان البلاد.

عدد صحيفة الجريدة الممنوع من الطباعة بتاريخ 6 فبراير 2019

الجريدة ليست وحدها

صحيفة الجريدة "ليست هي المؤسسة الصحفية الوحيدة التي تواجه هذا النوع من الانتهاكات، لكن هناك اعتقاد لدى الحكومة بأن الجريدة تعمل على تضخيم الأحداث وبهذا تعلل لانتهاكاتها ضدنا"، بحسب ما يقول عبد العزيز الذي يؤكد بأن هذا الاعتقاد ليس صحيحًا، فصحيفته تعمل بشكل مستقل وتتفاعل مع الشارع السوداني وتنقل نبضه بمهنية وتجرد تام.

يطلب جهاز الأمن من الصحف التعامل مع الأحداث الجارية في البلاد وفقا للرواية الرسمية الصادرة من الشرطة، و"هذه الأخيرة قد لا تصدر بيانًا واحدًا لعدة أيام عن أحداث ومظاهرات تهز الواقع الذي أمامنا، فكيف لصحيفة يومية أن تنتظر أيام لتنقل حدثًا يشاهده الملايين" يقول عبد العزيز.

المفارقة بالنسبة له كرئيس لتحرير الصحيفة، أنه حتى الإجراءات الإستثنائية تُفرض على الصحف "المستقلة أو المعارضة" وليس الصحف المقربة من الدولة "صحيفة الجريدة تُمنع من نشر أحداثا نجدها تتصدر الصفحات الأولى وعناوين الصحف الأخرى بما فيها الموالية للحكومة". 

يضيف "الواقع أن أخبار المظاهرات تنشر وتبث في كل وسائل الإعلام الأخرى ويعلق عليها قادة في حزب المؤتمر الوطني الحاكم، وبذلك ليس هناك مبررًا لعدم نشرها في الصحيفة".

وتخلو يوميًا نحو 40 صحيفة سياسية تصدر في السودان من تغطية موسعة لأخبار الاحتجاجات التي تشهدها البلاد، فيما تجرى مصادرة صحيفة الجريدة المستقلة بجانب صحيفة الميدان لسان حال الحزب الشيوعي السوداني، وأخبار الوطن الناطقة باسم حزب المؤتمر السوداني المعارض، والبعث المتحدثة باسم حزب البعث السوداني، والتيار المستقلة.

ومنعت السلطات الأمنية صحيفة الجريدة من الطباعة 30 مرة، فيما مُنعت الميدان من الطباعة 8 مرات، والبعث 6 مرات، وأخبار الوطن 5 مرات، بحسب رؤساء تحرير تلك الصحف سألتهم المنصة بعد رصدها تكرار حالات الحجب والمصادرة. 

يضيف عبد العزيز "إذا قبلنا شروط الرقيب سيسألنا القراء لماذا لم تنقل الصحيفة الأحداث التي تجري في الشارع السوداني وتمتلئ بها نشرات أخبار العديد من القنوات الأجنبية، عندها لن تكون لدينا إجابة. لكن عندما نحتجب عن الصدور بأمر الأمن نعرف الإجابة ونقولها".

عدد صحيفة الجريدة الممنوع من الطباعة بتاريخ 9 فبراير 2019

احتجاز رئيس التحرير والصحفيين

تأتي هذه الإجراءات في أعقاب توقيع ميثاق شرف صحفي جرى التوقيع عليه أواخر نوفمبر من العام الماضي، والتزم رئيس جهاز الأمن والمخابرات الوطني، في حضور رئيس الوزراء ورئيس البرلمان، برفع كل الإجراءات الاستثنائية التي تخضع لها الصحافة سواء كانت المصادرات أو عودة الرقابة المسبقة على المادة الصحفية. لكن كانت المفآجاة بعد اندلاع المظاهرات أن عادت الرقابة بشكل مكثف.

لذلك، دعت شبكة الصحفيين السودانيين وهي تكتل نقابي غير حكومي، لإضراب عن العمل في 27 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إلا أن قوة تتبع جهاز الأمن داهمت في نهار ذات اليوم مجموعة من الصحفيين والصحفيات أمام مقر صحيفة التيار وسط العاصمة، واعتقلت 10 أفرج عنهم لاحقًا.

فيما دونت نيابة أمن الدولة بلاغات ضد الصحافيتين شمائل النور ورشان أوشي بسبب منشورات تنتقد الحكومة وتدعم المظاهرات على صفحتيهما الشخصيتين بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك.

إزاء هذه الإجراءات طالبت صحيفة الجريدة جهات مسؤولة عن تنظيم عمل الصحافة بالبلاد وطالبت عبر مذكرات أصدرتها برفع الحصار المفروض عليها.

"آخر عمل تصعيدي كان إعلان محرري الصحيفة ومتضامنين تنفيذ وقفة احتجاجية صامتة أمام مقر إدارة الإعلام بجهاز الأمن والمخابرات الوطني وسط العاصمة في 14 يناير/ كانون الثاني الماضي، لكن سيارات صغيرة عليها رجال أمن مسلحون اعترضت طريق الصحفيين وجرى اعتقال عدد منهم لأبع ساعات" حسبما يقولأشرف عبد العزيز الذي كان أحد هؤلاء المحتجزين.

أفرج الأمن السوداني قبل نحو أسبوعين عن  14 صحفيًا أبرزهم رئيسة تحرير صحيفة الميدان الناطقة بلسان الحزب الشيوعي السوداني المعارض، بعد اعتقال دام نحو شهر.

 

مجموعة من صحفيات الجريدة يتابعن أخبار المظاهرات قبل النشر على الموقع الإلكتروني

وأصدرت محكمة بولاية جنوب دارفور حكمًا بالسجن ثلاثة أشهر بموجب قانون الطوارئ المحلي ضد الصحفي آدم مهدي بعد اعتقال لأيام في مقر أمني بالمدينة وفق ما أفادت جماعات حقوقية.

تصدر بس

رفع صحفيو الجريدة هاشتاج "تصدر بس" تماشيًا مع الهاشتاج الأشهر للمظاهرات السودانية "تسقط بس" رغم العقبات التي تعترض صدور صحيفتهم.

يقول رئيس التحرير، أشرف عبد العزيز "بادر صحفيو الجريدة بالتخلي عن مقابل إجازاتهم السنوية، إزاء الأوضاع التي تمر بها ومنعها من الصدور وبالتالي التأثير على اقتصاديتها".

يضيف "هناك حملة أخرى ابتدرها قراء الصحيفة في ظروف مشابهة من قبل مثل "حملة القارئ المعلم" وهي أن يدفع القراء مقابل النسخ التي يصادرها جهاز الأمن السوداني. ربما نلجأ لإعادة تفعيل هذه الحملة وبدلًا من أن يشترى القارئ نسخته الورقية يدفع مساهة لقراء المحتوى الممنوع من النشر عبر موقع الصحيفة على الإنترنت".

الواضح بالنسبة لعبد العزيز، بأن هناك إصرارًا  من قبل الحكومة يرهن صدور الصحيفة بتخليها عن نقل ورصد أخبار المظاهرات المنددة بالرئيس البشير. يضيف "يقيني أن الحكومة لم تتفهم حتى الآن بأننا صحيفة مستقلة ومهنية وحريصون على ذلك.. وفي مثل هذه الظروف تعمل الحكومة على تركيعنا ونحن نرفض ذلك".

يقول "النقاش المفتوح والجماعي داخل المؤسسة، وعدم صدور الأفكار والأوامر بشكل هرمي؛ يقودنا إلى أنه يجب ألا نُحبط في هذه المرحلة. ولابد أن نعمل يوميًا على أساس أننا سنطبع كالمعتاد وإذا لم يتم ذلك فالمحتوى موجود على موقع الصحيفة بالإنترنت".

المواقع الإلكترونية بديلًا

مع تزايد التضيق على حرية الصحافة في البلاد لجأ صحفيون في السودان لتأسيس مواقع إلكترونية لتجاوز الرقابة المفروضة على الصحف الورقية ولا يضع معظم ناشروها أسماءً لرؤساء تحريرها أو المحررين العاملين فيها.

ومنذ إندلاع الإحتجاجات في 19 ديسمبر الماضي، يستهدف جهاز الأمن والمخابرات الصحفيين في البلاد. وحجبت الهيئة القومية للاتصالات الحكومية مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، وتويتر، وواتساب. وإلى جانب التلفزيون والإذاعة الرسميتين تعمل أكثر من عشرين إذاعة وفضائية معظمها حكومية أو مملوكة لرجال أعمال ينتمون إلى حزب المؤتمر الوطني الحاكم.

وفي 21 يناير الماضي، أوقفت السلطات السودانية عددًا من المراسلين الذين يعملون لصالح قنوات فضائية ووكالات عالمية، وجرى سحب ترخيص مراسل قناة العربية في السودان، وأوقفت إدارة الإعلام الخارجية في وزارة الإعلام السودانية مراسلي وكالة الأناضول، وقناة الجزيرة الإنجليزية والعربية، وآخر يعمل لدى قناة الجزيرة مباشر. دون توضيح سبب للإيقاف.

يقول أشرف عبد العزيز  "ينؤمن بأن صدور الصحيفة في هذه الظروف والتضييق والتعتيم الإعلامي هو ثمن يجب أن تقابله تضحيات جسام لأجل ترسيخه".


اقرأ أيضًا من السودان: كيف هددت المظاهرات حكم ثلاثين عاما للبشير؟