Thomas Hackl- فليكر برخصة المشاع الإبداعي
سيدة في حجر منزلي.

الكابوس الذي صنعناه بأيدينا: عن الوباء وعالم الجيتوهات

منشور السبت 25 أبريل 2020

الكابوس.. والوباء.. والطاعون

يرى ابن القيم أن كل طاعون هو وباء، وليس كل وباء طاعون، أما الخليل بن أحمد واضع علم العروض، فعرّف الوباء الطاعون بأنه كل مرض عام، أما لسان العرب، فعرّف الطاعون بأنه المرض العام، والوباء الذي يفسد له الهواء فتفسد الأمزجة والأبدان.

ما نعيشه هذه الأيام من كابوس.. ينطبق عليه ببساطة لفظة الطاعون إلا أن الجميع يتحاشى استخدام تلك اللفظة المُقبضة للقلوب، المثيرة المرعبة.. لأنها ببساطة كابوس..

فمن أين أتى هذا الكابوس؟ وما مداه الزمني؟

مزية الكوابيس الكبرى، أنها تنتهي وقتما ننهض من النوم.

لكن منذ أن شاع الحديث عن هذا المرض القادم من بلدة ووهان الصينية، لم يتحدث أحد عن فرضية واحدة عن لحظة انتهائه، حتى مع الأخبار التي تتحدث عن انتهائه فعلًا في الصين.

فالعالم لم يزل مغلقًا..حركة طيران معلّقة، لا مسافرين يذهبون أو يجيئون ..فأين هي الحياة التي عادت إلى طبيعتها في الصين؟

حديقة المباهج الأرضية: لوحة للفنان الهولندي هيرونيموس بوس. صورة برخصة المشاع الإبداعي- ويكيبيديا

الحياة لا تعود إلى طبيعتها في بلد..بينما العالم كله في خمود وإغلاق..

تقول الحكايات الشعبية؛ إنه كانت هناك مدينة تغزوها الرمال من كل جانب.. أوصى حكماؤها ملكها أن يأمر بحض أهلها على زرع الأشجار، لإيقاف زحف الرمال على المدينة، لكن لأن معظم أهلها كانوا يعملون بالنجارة، فقد بدا لهم مطلب زرع الأشجار وليس قطعها مطلبا عبثيًا وغير منطقي، وعليه لم يستجب أهل البلد لنصيحة الحكماء، استيقظ أهل المدينة بعد أيام وقد طمرت الرمال مدينتهم، غطت قباب مساجدهم ومعابدهم، وطمرت شوارعهم، وردمت ترعهم وأراضيهم الزراعية، ودمرت محاصيلهم، وسدت آبارهم، فتقطعت بهم السبل إلى قطرة ماء، وماتوا من العطش.

كانت هناك مدينة..ثم لم تعد هناك مدينة.

 إلى أي مدى سنستطيع أن نواجه أنفسنا بعد انتهاء هذا كله؟

إلى أي مدى سنعود للمصافحة.. سنعود للعناق؟ هل سنتغلب على خوفنا من بعضنا تمامًا.. أم ستترسب أشياء عديدة في نفوسنا؟

هل سنشحذ حواسنا لاستطلاع لحظة عطس من الجالسين على مقربة منا؟ هل سُتفتح المقاهي؟ هل ستٌفتح المطاعم؟ هل سنعود إلى لحظات السمر المعتادة في الكافيهات؟ هل سنجلس مرتاحين في الباص؟ هل سنزاحم الناس في المترو ببساطة؟ وهل سنقف طوابير دون خوف من الأنفاس؟ هل سنعود إلى لحظات الغضب والشجار؟ وهل سندخل مرة أخرى إلى دور السينما؟ هل سنعود إلى زيارة الأهل؟ هل سنجتمع في الحدائق؟ هل سنذهب بالأطفال إلى الملاهي؟ هل سنعقد اجتماعات العمل بصورة تقليدية كما كنا نعقدها من قبل؟

ومتى سنكف عن هذا العدد اللانهائي من غسل الأيدي؟ متى سنعود مرة أخرى لملامسة الغبار؟

علماء باتوا يرجّحون أن حالة الإغلاق ستستمر حتى 2022.. السعودية تغلق مطارها حتى نهاية العام.. فوفق وكالة أنباء رويترز، كشفت رسالة بريد إلكتروني داخلية اطلعت عليها الوكالة، أن شركة الخطوط الجوية السعودية المملوكة للدولة لا تتوقع عودة حركة الطيران لطبيعتها حتى نهاية العام الجاري وأنها طلبت من بعض الطواقم تعليق عقودهم حتى ذلك التاريخ... ببساطة هذا يعني أنه لا حج هذا العام.

ابن خلدون: حاجتنا للاجتماع الإنساني.. الكابوس الذي جاء ليقضي عليها

تحدث ابن خلدون في تاريخه كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر  عن حاجة الناس إلى الاجتماع قائلًا إن "الاجتماع الإنساني ضروري، ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم: الإنسان مدني بالطبع، أي لابد له من الاجتماع، الذي هو المدينة في اصطلاحهم، وهو معنى العمران، وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصحح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء، وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركب فيه من القدرة على تحصيله".

الكابوس الذي نعيشه الآن.. جاء ليقضي على ما يتحدث عنه ابن خلدون.

كابوس من صنع أيدينا.. هل كل الطواعين نصنعها نحن؟

يذكر محمد بن إياس الحنفي في كتابه بدائع الزهور في وقائع الدهور، قصة الطاعون الذي ضرب مصر وقت سلطنة الملك الناصر أبي المحاسن حسن ابن الملك الناصر محمد ابن الملك المنصور قلاون، وهو التاسع عشر من ملوك الترك وأولادهم بالديار المصرية، وهو السابع ممن ولى السلطنة من أولاد الملك الناصر محمد بن الملك المنصور قلاون، وكان توليه السلطنة وهو في الثالثة عشر من عمره، وحينما دخلت سنة 749 هجرية، وقع الطاعون بالديار، وعم سائر البلاد، وكان الفناء عظيمًا جدًا، وتزامن الطاعون مع خِسة النيل، أي قلّته، وقاسى الناس شدائد عظيمة، وتوفى جماعة كثيرة من الأعيان.

ويذكر ابن إياس أن عدد الجنازات التي كانت تخرج من القاهرة في كل يوم نحو عشرين ألفًا، وبلغ عدد الموتى نحو تسعمائة ألف إنسان، من رجال ونساء، وكبار وصغار، وجوار وعبيد، ولم يسمع بمثل هذا الطاعون فيما تقدم من الطواعين المشهورة في صدر الإسلام.

هذا الطاعون الذي وقع في دولة السلطان حسن، سنة تسع وأربعين وسبعمائة، لم يسمع بمثله فيما تقدم من الطواعين المشهورة في تاريخ الإسلام، وهي الطاعون الجارف، وطاعون عمواس، وطاعون الكوفة، أو طاعون الأشراف، وطاعون البصرة،  وخرج عن الحد، وعم بلاد كثيرة ليس مصر فقط، فضرب مكة والمدينة، فدعا العلماء أهل مصر للخروج إلى الصحراء، فيما سار أحد الشيوخ إلى الجامع الأزهر وألقى خطبة، طلب فيها من الناس أن يبتهلوا إلى الله بالدعاء، فلما رجعوا من الجامع، تفشى الوباء في القاهرة، حتى جاوز الحد.

التاريخ يقول إن كل الكوابيس التي شهدها العالم، كان تأثيرها أشد في مصر.. فهل نعيش الآن لحظة كهذه اللحظة؟ وكابوسًا كهذا الكابوس الذي شهدته دولة المماليك منذ مئات السنين؟

وأين تبدأ وتنتهي مسؤوليتنا عن صناعة هذا الكابوس؟

حينما تحول العالم إلى "كومباوند" بدأ الكابوس

لحظة ما قبل الكابوس، شهد العالم صعود الأفكار اليمينية لمقاعد السلطة، المعتنقة ببساطة التوجهات النيوليبرالية الجديدة، الداعية للتخلي عن كافة أشكال التضامن العالمي، وبالتأكيد من ورائها أشكال التضامن الاجتماعي في كل إقليم من أقاليم هذا العالم، أو ما يتعارف عليه بتسمية "كل دولة من دوله" فتحول العالم بعد عقود من التضامن والترابط وظهور كيانات متحدة فيه لمنع تكرار كوابيس الحروب العالمية التي قضت على ملايين البشر، تحول مرة أخرى ليصبح جزرًا منعزلة، بريطانيون يصوتون على الخروج من الاتحاد الأوروبي، أمريكيون ينتخبون رجلًا يرغب في تشييد سور أشبه بسور الصين العظيم حول حدود بلده، ويمنع مواطني دول بعينها من دخول مطاراته، على الرغم من وصولهم بالفعل وقت صدور قراراته.

بلاد البحر المتوسط تكافح مراكب اللجوء وتغرقها، أحلام التحرر من الديكتاتوريات المتسلطة في الشرق الأوسط تتحول لكوابيس، وقطاع طرق العالم الجديد يأتون بقراصنتهم لتقطيع جنوب الأناضول والشمال السوري، فتنفجر منطقة البحر المتوسط أكثر وأكثر بقوارب اللجوء، وبشر يبتلعهم البحر بعدما تخلى عنهم حراس الشواطئ. عالم لا يتحرك له جفن، بينما طفل مضجع صريع على جبهته لفظه البحر كبصقة في جبين البشرية القميئة التي ساهمت في انفجار البركان، ثم.. بلاد تفرض قيودًا أكثر وأكثر على نفسها.

الإنسان أصبح مغرمًا بتحويل البلاد إلى جيتوهات مغلقة، لا تستقبل إلا صفوة البشر، وتنبذ الباقين، الأولوية لمن لديه نقاطًا أعلى في برامج الهجرة، أو لديه أكثر من رسالة ماجستير أو دكتوراه، الدول تحولت إلى كومباوندات، لا يعيش فيها إلا صفوة الصفوة، وأفضل البشر، وباقي البلاد تحولت إلى مزابل.

الإنسان هو الذي صنع كابوس كورونا.. هو الذي حضَّر الطاعون بنفسه.. بينما يغلق على نفسه البلاد أكثر فأكثر.. أصبح اليوم مجبرًا على أن يصنع من بيته ومن منزله جيتو، يعتزل فيه غيره، يعتزل فيه أقرب الأقربين.

هي نفسها الدول التي باتت الآن تغلق مطاراتها في وجه الأثرياء القادرين على التنقل، باتت تغلق مطاراتها في وجه أبنائها بل وتطلب منهم حتى أن يتسولوا الإعانات من الشعوب الأخرى، الذين يعتبرونهم أقل منهم في المكانة الدولية والاجتماعية والثقافة.

عالم صنع كابوسه بنفسه، ولم يكف عن المواصلة، بات الآن يتسول الأطباء والعاملين في القطاعات الطبية من الشعوب الأخرى، يسرق شحنات الكمامات.. يسطو على سفن المستلزمات الطبية الرخيصة.. التي باتت الآن من أغلى الأشياء.. كل المصنوعات البشرية والمنتجات التي لطالما روّجت لها ماكينات التسويق العملاقة.. الأجهزة الإليكترونية فائقة الجودة؛ الآيفون، الآيباد.. باتت في مؤخرة قوائم التسوق.. أرخص الأشياء باتت عزيزة؛ أسعار المطهرات تقفز قفزًا كأرانب برية.. كمامات تستخدم مرة واحدة، بات الأطباء يوصون الناس بغسلها ونقعها.

تمثال سيدتين من الفولاذ، الذي يرمز للثورة الصناعية، في مدينة شيفيلد البريطانية. صورة برخصة المشاع الإبداعي: تيم دينيل- فليكر    

 العالم الذي كان يضع نظام النقاط في استمارات الهجرة بات الآن يفتح سفاراته بلا أي شروط من أجل سرقة الأطقم الطبية من الشعوب التي لم تواجه الوباء، تلك الخسة التي تمارسها هذه المجتمعات والدول التي لطالما مارست القهر والفرز العنصري ضد البلاد الأخرى لعقود، باتت تواجه الآن أشد المحن، العالم الذي عرفناه وعشناه بات مختلفًا، ولن تعود هذه النظم السياسية إلى سابق عهدها، توازن القوى سيختلف، والبلاد التي لطالما أغلقت أبوابها في أوجه اللاجئين، ستفتح مطاراتها وحدودها لإعادة بناء مجتمعاتها التي ضرب الوباء قاعدتها السكانية وأصابها بالخلل، والمجتمعات والدول التي مارست الصلف الدولي لعقود، ستتخلى عن غرورها مجبرة، وستتحول، رغم أنفها، وستقبل بتفاهمات جديدة وبإنسانية جديدة.


اقرأ أيضًا: هل ينقذ المهزومون العالم؟


العالم سيختلف من المؤكد، وستكون هناك سياسات جديدة، أتمسك حتى هذه اللحظة بأمل أن الحياة لن تفنى، وأتمسك كذلك بأمل أن يتغير العالم القديم رأسًا على عقب، أن يكف من يحكمون هذا العالم ويقررون له عن ممارسة الجشع وبيع السلاح، وأن يرفعوا القيود على التنقل والسفر، وأن يمنحوا الشعوب أسبابا للتطور والتقدم، وأن تنتهي الصراعات الدموية في بؤر الموارد، وأن تكف حكومات الشمال عن دعم الديكتاتوريات ..كل مخاوفي تنحصر الآن فقط في أن يصرعنا الوباء وأن يستمر الكابوس، من باب لباب، وأن يغلقوا علينا أبواب البيوت، كي لا تدهمها الوحوش فتأكل الجثث التي لا تجد من يدفنها.

لا أخاف من نفاد الطعام في السوبرماركت، بل أخاف نفاد الإنسانية.. كلما سارعنا الآن في شحن الطاقة الإنسانية.. التضامن.. الوقوف جنبًا إلى جانب بعضنا البعض عبر الكرة الأرضية.. متلاصقي الأكتاف، ممسكين أيدينا، لنأخذ العالم من قذارته، وانحطاطه، الوباء سينتهي، حينما تكف الإنسانية عن قمع بعضها، حينما تكف الإنسانية عن حشو جيوبها بعائدات صناعة السلاح، حينما تنتهي الأطماع، كوابيسي لا تنحصر في انفجار الموت أكثر من ذلك.. فنحن أحياء فقط وفقا لمصادفة.. مصادفة سعيدة.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.