تصميم: يوسف أيمن- المنصة

يومياتي مع كورونا| عن الذين غدر بهم كورونا دون أن يصيبهم

منشور الخميس 18 يونيو 2020

الاسم: أحمد ممدوح.* المهنة: صحفي.

حتى الآن لم يختر فيروس كورونا أحدًا من دائرتي الاجتماعية على اتساعها بين العائلة والعمل والأصدقاء، لكنه أحكم الخناق على  أصحاب الأمراض المزمنة المنتشرة بين المصريين.

هذا الوضع المأسوي لمسته بنفسي من خلال تجربة شخصية فقدت فيها خالتي حياتها، بعد أن داهمتها يوم 21مايو/ أيار غيبوبة سكر حادة تعرضت لها للمرة الأولى في تاريخها المرضي مع السكري، فور دخولها في الغيبوبة كان الحل البديهي أمام ابنتها صاحبة ال19 سنة التي تقيم معها بمفردها الاتصال برقم الطواريء، وطلب سيارة إسعاف للتعامل مع حالة والدتها.

وصلت سيارة الإسعاف بعد 15 دقيقة من تسجيل البلاغ، لكن المُسعف وصل وهو لا يمتلك جهازًا لقياس السكر، بل وزاد الأمر بقوله "أنا لا أملك أي حل لإنقاذها ولا يمكنني نقلها إلى أي مستشفى لتلقي إجراءات الطوارئ اللازمة، لأن مهمتنا الآن هي نقل المصابين فقط بفيروس كورونا إلى مستشفيات العزل".

انصرف المسعف وسيارة الإسعاف بعد أن أعلن عجزه عن تقديم أي معونة وطلبت ابنة خالتي الدعم من الأقارب والجيران وأحضروا شخصًا من صيدلية قريبة لقياس السكر، وبالطبع سجل معدل السكر في الدم  مستوى مرتفعًا جدًا، وبدا من الأمر أن لا حل إلا نقل خالتي إلى قسم طوارئ في أي مستشفى بشكل عاجل، وخلال تلك الفترة مرت ساعة من الوقت دون أي حلول أو تدخل حقيقي لإنقاذ خالتي.

عملية النقل لن تكون سهلة على الموجودين حول خالتي، ومعدل الخطورة مرتفع لأنها كانت تعاني إلى جانب السكري من آثار سكتة دماغية تعرضت لها منذ عشر سنوات، إلى جانب اضطرابات في ضغط الدم وصعوبة في السير سبَّبت لها زيادة في الوزن.

عاوزين إيه بالظبط؟ 

مر الوقت والارتباك يزيد، وفي ظل ذلك حاولت بيأس أن أتواصل مع الإسعاف مرة أخرى، رغم بعد المسافة بيني وبين منزل خالتي بـ35 كيلو مترًا، على أمل أن أفعل شيئًا على الأقل يخلّصني من إحساس تأنيب الضمير، ومحاولة لإيجاد حل عملي لإنقاذها، هاتفت رقم الطواريء وجاء الرد سريعًا وسجلت بلاغي في أقل من دقيقتين لدى غرفة البلاغات المركزية، وبعد خمس دقائق تلقيت اتصالًا من وحدة الإسعاف التابعة للحيز الجغرافي للبلاغ المحدد بمنطقة بولاق أبو العلا بوسط القاهرة، وجرت المحادثة التالية:

= ألو .. أستاذ أحمد

  • أيوه

= إسعاف القاهرة معاك.. حضرتك سيارة الإسعاف وصلت عندك قبل كده ومش عارفين إيه المطلوب

  • المطلوب نقل الحالة للطواريء لإنها بتعاني من غيبوبة سكر من ساعتين وممكن تتوفى ولازم ننقلها

يقتحم المكالمة صوت المسعف الذي وصل من قبل إلى منزل خالتي وتركها دون حلول، ويقول "أنا روحت مرة قبل كده ومش عارف حضراتكم عاوزين إيه بالظبط".

  • عاوزك تنقلها لأقرب مستشفى حوالينا، المستشفيات كتير وممكن تموت في أي لحظة

= حضرتك مستشفى الهلال مقفولة والساحل مقفولة ومعهد ناصر والقصر العيني معرفش موقفم إيه

  • طب أي مستشفى خاص

= معرفش هيقبلها ولا لا

  • طب بعد إذنك روح أعمل اللى عليك وانقلها

= حاضر

بعد انتهاء المكالمة شعرت بارتياح مغلّف بالقلق بأن الموقف قد يكون تحسّن، وأن عملية نقل خالتي لأي قسم طواريء لعمل اللازم وشيكة، وهو قدر من التفائل سببه بُعدي عن مكان الحالة وعدم درايتي الكاملة بما وصلت إليه، بعد عشر دقائق فقط وصلت الإسعاف إلى منزل خالتي التي كانت فارقت الحياة وقتها، وأكد المسعفون وفاتها، بعد أن فشلنا في توفير فرصة طبيعية لها في العلاج، لأن المنظومة الصحية في مصر أصبحت مُسخَّرة بالكامل للتعامل مع  مرضى كورونا، وليذهب أصحاب الأمراض المزمنة إلى الجحيم.

 التصريحات الرسمية لمسؤولين في الحكومة المصرية تؤكد أن أغلب أسرّة الرعاية المركزة في المستشفيات شاغرة، وأن عدد شاغليها من المصابين بكورونا قرابة 250 حالة فقط، وفقًا للمتحدث باسم مجلس الوزراء، السفير نادر سعد، في مداخة هاتفية مع الإعلامي شريف عامر في برنامج يحدث في مصر، ولكن الواقع يشير إلى أن لا مكان في الرعاية المركزة لأصحاب الأمراض المزمنة، وهو أمر أكدته واقعة أخرى اختارني الله لأوثقها أيضًا بعد وفاة خالتي بيومين فقط.

عاوزين رعاية مركّزة حالًا

بعد يومين من وفاة خالتي، في صباح اليوم الأخير من شهر رمضان الماضي، رن هاتفي. استيقظت لأجد المتصل صديقي مبارك، الذي بدا صوته عبر الهاتف  منفعلًا ومتوترًا "أحمد احنا عاوزين رعاية مركّزة حالًا والدة عمرو صاحبي معايا في العربية، وبنلف بيها من الصبح في المعادي وحلوان محدش عاوز يستقبلها، مريضة ربو وعندها أزمة تنفسية حادة جدًا ولازم تتحجز دلوقتي".

 طلبت من مبارك الهدوء وأن يستمر في البحث عن مكان لاستقبال الحالة، ونصحته بالتوجه إلى قصر العيني، وأنا سأحاول من جهتي البحث عن حل أو اللجوء لشخص له علاقات في وزارة الصحة لإيجاد حل سريع.

أغلقت الهاتف مع مبارك وتواصلت مع زملاء صحفيين لهم علاقات وطيدة داخل وزارة الصحة، ونلجأ لهم كل فترة في حالة وجود حالة مَرضية تحتاج لتدخل عاجل، جميعهم طلبوا بيانات الحالة والأعراض التي تعاني منها، لكن فشلت مساعيهم في إيجاد المساعدة اللازمة، وهو ما يترجم حالة الانهيار في المنظومة الصحية ربما بشكل  غير مسبوق.

الست ماتت يا أحمد

لم يهاتفني مبارك مرة اخرى خلال اليوم ولم أهاتفه أيضًا، لكن بعد  24 ساعة فقط من آخر مكالمة بيننا، أرسل لي رسالة على المسنجر نصها " الست ماتت يا أحمد".

بين خيبة الأمل من عدم القدرة على توفير أي مساعدة لكل من لجأ لي ومحاولتي معرفة وتوثيق وقائع الوفاة، هاتفت عمرو نجل السيدة المتوفاه، بعد التعزية سرد لي معاناته في إيجاد سرير عناية مركزة لإنقاذ والدته، حيث لجأ لـقرابة 25 منشأة صحية في القاهرة الكبرى بين مناطق حلوان والمعادي والمهندسين والعجوزة لعرض حالة والدته التي تعاني من أزمة تنفسية حادة، ترجع إلى تاريخ مرضي طويل مع الربو ولا تعاني من أي اعراض مرتبطة بفيروس كورونا، مثل التهاب الحلق أو ارتفاع درجة الحرارة أو وهن، لكنه لم يجد من يتفهم حالة والدته ويقبل علاجها لأن رهاب كورونا مسيطر على المنظومة الصحية في مصر، ويمنع تقديم الخدمات الطبية لأصحاب الأمراض المزمنة.

أين أسرّة الرعاية؟

تصريحات المسؤولين في مصر لا تعكس الأزمة بشكل كامل، فرئيس قطاع الرعاية العلاجية بوزارة الصحة، الدكتور مصطفى غنيمة، قال إن هناك 600 سرير شاغر في مستشفيات العزل لمرضى كورونا منهم 300 سرير رعاية مركزة، ورغم ذلك لا يجد مرضى كورونا أو غيرهم أماكن متاحة بشكل فوري لتلقى الرعاية الطبية الفورية اللازمة، وحتى تلك الأعداد المخصصة لعزل المصابين بكورونا لا تبرر ترك أصحاب الأمراض المزمنة بلا فرصة إنقاذ عند التعرض لانتكاسات صحية تستلزم تقديم الدعم السريع لهم.

بالنظر إلى التصريحات الحكومية بشكل شامل فإن عدد أسرّة الرعاية المخصصة لمرضى كورونا تبلغ 550 سريرًا فقط ( 250 سريرًا مشغولين وفق تصريحات المتحدث باسم مجلس الوزراء + 300 سرير شاغرين وفقًا للدكتور غنيمة = 550 سريرًا فقط) من إجمالي 10 آلاف سرير رعاية على الأقل موجودين في مصر، فإذًا لا أزمة في أسرّة الرعاية في الوقت الحالي وفقا لتصريحات المسؤولين في الدولة.

مخاوف ووصية

على كل حال فمن مات في أسرع وقت في هذا الزمن ارتاح، كما قال لي صديقي محمد. ش المصاب بمرض في القلب وهو حبيس منزله منذ أربعة أشهر، بعد ظهور أول حالة مصابة بكورونا في مصر، بعدما سمعه عن حصد كورونا لأرواح أصحاب الأمراض المزمنة.

يقول محمد "أنا بتابع  أخبار العلاجات التي يتم تجربتها في العالم والبروتكولات العلاجية التي تستخدمها الدول في مواجهة كورونا وأصبحت خبيرًا في كل أنواع الأدوية المستخدمة لعلاج كورونا،  بل خصصت مبلغ من ميزانية البيت الشهرية لشراء بعض تلك العلاجات وتخزينها خوفًا من تعرضي أو أي من أفراد الأسرة للإصابة بالفيروس".

الحياة اختلفت بالنسبة لمحمد الآن، فهو يخشى الموت ولكن ينتظره في أي وقت، خاصة بعد أن ظهر عدد من الإصابات بفيروس كورونا في بلدته الواقعة على بعد 50 كيلو مترًا تقريبًا من القاهرة، وهمه الأول مستقبل أولاده الثلاثة من بعده، فهو يعلم أن حال تعرضه لأي ازمة صحية متعلقة بحالته المرضية بقصور في القلب، فلن يجد مكانًا لرعايته أو قسم طواريء يتسقبل حالته وسيُترك للموت.

لجأ محمد إلى ترك وصية شفهية لزوجته "اجتمعت مع زوجتي وعرفتها كل ممتلكاتي وحسابات  أعمالي التجارية البسيطة، وكيف تديرها لصالحها ولصالح أولادي الثلاثة إذا ما أصابني مكروه لا قدر الله".

ويضيف "أنا سأُترك للموت في الحالتين إذا تعرض لأزمة قلبية أو للإصابة بكورونا، في الحالة الأولى لن أجد مكانًا في أقسام الطوارئ مثل حالات كثيرة من أصحاب الأمراض المزمنة، وإذا أصبت بكورونا فربما يتركني الأطباء للموت لأن نسبه وفاتي ستكون أعلى من بذل الجهد وتبديد الإمكانات لعلاجي كما حدث في عدد من دول العالم مؤخرًا".


* هذه شهادة لزميلنا الصحفي أحمد ممدوح الذي حاول توفير سيارة إسعاف لإنقاذ خالته مريضة السكر وسرير عناية مركزة لوالدة صديقه، وهما غير مصابتين بفيروس كورونا. تنشرها المنصة مع الحفاظ على خصوصية المرضى، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة.