تصميم: يوسف أيمن- المنصة

يومياتي مع كورونا| لم نهرب من المعركة وزميلي اللي مات كان ممكن يعيش

منشور السبت 30 مايو 2020

الاسم: أحمد عبد الحليم.* التخصص: أخصائي جراحة. مكان العمل: مستشفى المنيرة العام. السن: 35 سنة.


إحنا كدكاترة بنحارب وعيين ضايعين؛ وعي وزارة الصحة المتهالكة وعاوزة تبان إنها تمام ماعندهاش عجز، ووعي الناس اللي مش فارق معاها حاجة، وإحنا مطحونين في النص وضايعيين بين واجبنا وبين الإهمال والتقصير اللي بيقضي علينا.

أنا طبيب جراح من الطاقم الأساسي بمستشفى المنيرة، متخرج من أزيد من عشر سنين، شغال تبع المنظومة الرسمية للوزارة، عارف كل بلاويها، وبتعامل أنا وزمايلي مع العدوى كل دقيقة اللي بتدخل لنا كل يوم. حالات بتدخل بفيروس C وإيدز، وبنحط إيدينا في دمهم علشان نلحقهم وخلاص اتعودنا. فلما بدأت الكورونا تنتشر في مصر؛ كنا عارفين من اللحظة الأولى إننا أكيد بنتعامل مع مصابيين بين الحالات اللي جاية بأمراض تانية بس هنعمل إيه، بناخد احتياطاتنا على قد المتاح وخلاص.

من عشر أيام عرفنا من الأخبار إن الوزارة هاتضمّ 320 مستشفى لفرز مصابيين كورونا، وكان عندنا شكوك إن مستشفى المنيرة هاتدخل معاهم، بس اتفجأنا بعد انتشار الخبر بيومين إن مدير المستشفى بيبلغنا إننا من بكرة هانبقى مستشفى فرز.

هنا الفرز بيفرق عن العزل. الأخيرة بتبقى مخصصة ومجهزة للتعامل مع حالات كورونا، لكن مستشفيات الفرز بتتعامل مع حالات مشتبه بها، وبتحجز عندك الحالات المصابة اللي مش محتاجة لإمكانيات عالية زي العزل، وده علميًا صح، لأن مانقدرش ندّخل كل الناس عزل وهم مش محتاجين، ونيجي للي محتاج مانلاقيش مكان نعزله فيه برعاية عالية وإمكانيات كبيرة.

المفاجأة كانت إننا ما أخدناش أي تدريب للتعامل مع الحالات، فقط خبرتنا الشخصية وشوية تعليمات عادية من اللي بتتقال في العموم. بدأنا نسأل: طيب مش هايتعمل مسارات آمنة للمرضى العاديين يمشوا منها، والمصابيين يبقى لهم مسارات محددة، لإن المستشفى هاتبقى بتقدم خدمات علاجية عادية زي الكشف والطوارئ والولادة وفي نفس الوقت بنشتغل فرز كورونا. قالوا لنا لأ، كله مع بعضه مفيش مسارات آمنة للمرضى. وبعدين سألنا فين غرفة العزل للمصابين؟ طيب اللي عنده اشتباه يروح فين؟ مفيش أي حاجة اتنفذت.

اعترضنا وعملنا مشاكل في الأول، علشان مكنش فيه أي مكان مخصص لعزل حالات الاشتباه في الطوارئ. فأخدوا غرفة آخر المرر للطوارئ علشان نعزل فيها الحالات عن المرضى العاديين. بس ده مش هايمنع المصاب يتحرك ويروح ويجي في كل الممرات علشان يعمل أشعة وتحاليل وسط عمالة المستشفي والناس المرضى. بعد شوية ضغط كمان نقلوا أجهزة أشعة الصدر جنب غرفة العزل في الطوارئ. لكن كمان مفيش بدل واقية بأعداد كبيرة، والكمامات والجوانتيات مش متوفرين ولا الكحول، وبنضطر نشتري على حسابنا عشان نحافظ على نفسنا.

الحقيقة كل حاجة "المفروض" تبقى موجودة مابتحصلش غير بعد محاولات و ضغوط وزن مننا. بس فيه حاجات كانت أكبر من قدرات الوزارة نفسها زي عجز القوى البشرية مثلًا. مفيش دكاترة باطنة في الطوارئ، كلهم راحوا العزل، والتخصص دا بيعاني أصلًا من عجز في الأطباء، فإنت مش قادر تقول للوزارة ابعتوا لنا دكاترة أصلًا، وده بيحطنا تحت ضغط كبير قوي. وعلشان نغطي العجز بقينا نشتغل ساعات أطول في بيئة عمل مش آمنة، بس كنا مكملين.

تهريب مريضة في تاكسي

بمناسبة وعي الناس، فهو مش بس إنت كواحد من الفريق الطبي بتختلط بحالات مشتبه فيها مع مرضى بيشتكوا من أعراض زي ضيق تنفس أو حرارة، لأ. إنت بتختلط بناس مصابة بالفعل، وعارفين إنهم مصابين بس مش بيقولوا. يعني فيه ست كانت معزولة في واحدة من مستشفيات الحميات وعلى وشك الولادة، والحميات بعتوا لنا إخبارية إن فيه حالة ولادة هاتيجي عندنا، لإن الحميات مفيهاش قسم نسا وولادة. قلنا تمام هاتوها في إسعاف معزولة وهنولدها هنا. جوزها ماستناش الإسعاف وهرّبها من المستشفى وجابها في تاكسي على أساس إنها حالة ولادة واتعاملنا معاها عادي، وبعد ما ولّدناها عرفنا إنها هي دي الحالة المصابة بكورونا واللي كانت في العزل.

عاوزك تتخيل حجم المأساة، يعني الست دي ممكن تكون نقلت العدوى لكام شخص؟ خد بقى مواقف من دي كتير، ناس بتيجي وبتخاف تقول إنها متشخصة كورونا لأسباب كتير زي الوصم أو الخوف من العزل وهكذا، بس عمومًا إحنا متعودين على إن المريض يخبي وإحنا اللي مفروض نكتشف. شوفت مثلًا في الطوارئ قبل كده مريض إيدز، وأنا جراح وإيدي في دمه لإنه متعور وبينزف وبأحاول ألحقه، لكنه مقاليش على إصابته غير بعد ما خلصت شغل. وده العادي اللي بنشوفه.

جوانتي وكمامة أو شاب يموت مختنقًا

أصعب الحالات اللي استقبلتها في المنيرة واتحفرت جوايا ومش هنساها، لما جالنا ممرض شاب صغير مايعديش 21 سنة وحالته ضايعة خالص ومش عارف يتكلم من كتر ما هو مش قادر يتنفس. أول ما دخل عيلنا وقع، جريت عليه من غير ما أتمالك نفسي لحد ما ألبس كمامة وجوانتي والكلام ده. أنا شايف شاب صغير قدامي بيفرفر. شيلته وجريت بيه على الغرفة. وقال لي بالعافية إنه ممرض وكان مخالط هو وزميله حالة كورونا، وزميله طلع إيجابي، وإنه مش هايمشي من هنا، لإنه راح تلات مستشفيات وطردوه، وفجأة وقع تاني مني.

بسرعة مكنش جاي في بالي غير إني ألحقه وأنا مش لابس أي وسائل حماية. حرام يموت إديناله أوكسجين وشوية أدوية تلحقه، وبعدين كلمنا له حد في مستشفى عزل والحمد لله لحقناه. وقت ما المريض دا دخل وشوفت حالته ماكنتش خايف أتعدي، ماكنش في بالي أي حاجه غير إني ألحق حالة هاتموت مخنوقة، بس طبعًا لما فوقت حسيت إني قلقان على أهلي، فقعدت كام يوم في المستشفى من غير خروج لحد ما اتطمنت إن مفيش أي أعراض مهما كانت بسيطة ظهرت عليّ وبعدين روحت.

أني أروّح دي بقى المشكلة. بيبقى ناقص أشرب كحول علشان أضمن إني مش حامل للفيروس. أنا أب لطفلين وزوجتي طبيبة، وإحنا الاتنين بنراعي ولادنا وماعندناش رفاهية نوديهم لحد، لإن أهلنا مش ملتزمين بالإجراءات الاحترازية زي أغلب الشعب طبعًا، فأنا مش قادر أودي ولادي عند أهلي أو أهل مراتي فايتعدوا من حد، ولا قادر أسيبهم معانا فنعديهم إحنا. غير إننا مظبطين مواعيد نوباتشياتنا بحيث حد فينا يقعد معاهم. لما باجي مروّح بأقلع كل هدومي في المستشفى في شنطة مقفولة وبعدين بألبس لبس نضيف تمامًا ما بختلطش بيه مع أي حد، وقبل ما أدخل البيت بأغرّق نفسي وهدومي كحول وأدخل على الحمام على طول، أغير هدومي وأحطها في الغسالة وشاور وكحول تاني علشان أبقى ضامن إني مش هأنقل للولاد العدوى. وهكذا كل نوباتشية.

صديقي الدكتور وليد كان ممكن يعيش

أصعب وقت مر علي وما أظنش فيه أصعب منه لما جالي خبر وفاة صاحبنا الدكتور وليد يحيى عبد الحليم. أنا ماكنتش في المستشفى وقت دا ما حصل وزمايلي بلغوني في التليفون. كان إحساس بالصدمة والاكتئاب،  لا أكل ولا شرب ولا نوم يوم كامل مع إحساس بالعجز، لإني متابع حالته وعارف إنه كان ممكن يتلحق، لو ما اتسابش للمضاعفات وراح مستشفى عزل قبل مايتدهور. يعني ليه شاب صغير وعنده حياته لسه ومجتهد وبيعمل شغله وفجأة كده يموت وكان عنده فرصة يخف ويعيش.

الدكتور وليد كان بيشتكي من الأعراض في الأول، وبعدين فيه ممرضة مخالطة اشتدت الأعراض عليها واتحولت عزل، وده خلاه يعمل مسحة وطلعت النتيجة إيجابي، وكان كويس في البداية وبعدين زي حالات كتير حصل له تدهور، كان محتاج رعاية وقالوا لنا مفيش أماكن، الدكاترة في المستشفى عندنا كانوا بيحاولوا يلحقوه بأي طريقة بالرغم إن مفيش وسائل حماية ولا بِدل وقاية.

فيه دكتور اسمه محمود أشرف طلع لوليد من غير بدلة واتعامل معاه عشان يلحقه (الدكتور ده مصاب دلوقتي على فكرة)، ولما الحالة خلاص بدأت تنهار بقينا نتصل على 105، وبمسؤولين في الوزارة ونحاول هنا وهناك بس كان فيه مماطلة إنه يتلحق وده اللي مأثر فينا، محدش هيقدر يمنع الموت وكلنا كطاقم طبي عارفين إننا معرضين للموت في أي لحظة وده قضاء ربنا، لكن اللي مزعلنا إننا بنموت نتيجة الإهمال وعلشان بنطالب بالحد الأدنى من الأمان وإحنا بنشتغل بس.

بالمرة وعلشان النقطة دي اتفهمت غلط؛ أنا حابب أتكلم قوي عن نقطة علاج الفنانة رجاء الجداوي إحنا مش ضد حقها في العلاج طبعًا، ولا قارننا بينها وبين وليد زميلنا، لكن إحنا بنقارن بين سرعة الاستجابة هنا وهناك، وإن ده كمان كان ممكن نلاقي له مكان ويتلحق، وكان زمانه راجع لحياته ويكمل شغله. إحنا مع أي حد إنه يتعالج مش بس وليد، إحنا مقارنتنا دي جاية علشان نقول إن من حق كل الناس يتوفر لها أماكن في المستشفيات بنفس السرعة، من حق كل الناس تتلحق وننقذها من الموت.

لماذا قدمنا استقالات الجماعية؟

لما عملنا الاستقالات الجماعية مكنش قصدنا نعمل دوشة وخلاص، ولا زي ما اتقال علينا إننا بنهرب من المعركة، بالعكس. والدليل إننا قدمنا استقالات مسببة، كتبنا فيها إنها بسبب الإهمال وظروف العمل غير الآمنة، ومع ذلك ماسبناش أماكننا، بالعكس كملنا شغل فيها بنفس طاقتنا وزي ما إحنا من غير أي تقصير على الرغم من نفسيتنا اللي في الأرض، يبقى فين هروبنا.

إحنا كل يوم بنواجه العدوى والموت في العمل ووضع الصحة اللي زي الزفت وكلنا عارفين ده وكتير بنفكر إننا نسيب كل ده ونشوف مكان تاني لكن بنرجع نقول ده دورنا ومكاننا، إحنا كل مرة بنبقى قدام خطر العدوى بحاجات أصعب من كورونا بنبقى عارفين إننا بس اللي هنتصاب إنما المرة دي خطورتها إنك هاتاخد الفيروس معاك لأهل بيتك ومش بس كده، ده كمان ممكن يصيب كل واحد قابلك طول ما إنت ماشي، يعني هاتنقله لناس ملهاش أي ذنب ولا يعرفوك وده اللي اتكلمنا فيه من الأول، وفي الآخر إحنا ملتزمين بعملنا في أماكننا حتى مرور الأزمة دي على خير إن شاء الله.


* هذه شهادة لطبيب تنشرها المنصة بعد التأكد من هوية الكاتب والتحقق من شهادته عبر اتباع الطرق المهنية والقانونية الملائمة، والحفاظ على خصوصية المرضى، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة إن كانت بالفصحى.