تصميم: يوسف أيمن- المنصة

"إحنا بينا جمايل": الاستغلال الجنسي للنساء على هامش الجائحة

منشور الثلاثاء 7 يوليو 2020

منذ بداية الجائحة والأزمة المرتبطة بها ظل الحديث عن زيادة العنف المجتمعي ضد النساء بكل أشكاله منتشرًا على أكثر من مستوى، وصدرت أكثر من دراسة أو تقرير يرصد حالات العنف التي تعرضت لها النساء، أو تأثير الأزمة على النساء اقتصاديًا وغيرها، وجميعها قضايا لا تقل أهمية عن بعضها، لكن لم يتم التركيز على بعد آخر للجائحة، وهو الاستغلال الجنسي للنساء خلال الوباء.

بعد أن فقدت وظيفتها في أحد الفنادق السياحية بمدينة شرم الشيخ جنوب سيناء، على خلفية أزمة كورونا الحالية، لجأت أمل * (25 سنة) إلى توطيد شبكة علاقتها الاجتماعية بأصدقائها في محاولة للتغلب على الشعور العميق بالحزن الذي أصابها بعد خسارة وظيفتها. ذلك قبل أن يعرض عليها أحد الأصدقاء "المقربين" إقامة علاقة جنسية معها في مقابل مبلغ من المال تقرّره هي كما تشاء.

خيبة أمل

كان الصديق "المقرب" واحدًا من هؤلاء الذين اختارتهم أمل لتبوح له بأزمتها المادية جراء توقف دخلها المادي، باعتباره مساحة أمان لها منذ وقت طويل، فاختارت أن تشاركه همومها هذه الفترة للتخلص من العبء النفسي الذي تشعر به منذ فقدت عملها الذي كانت تعتمد عليه في دخلها الأساسي، كفتاة مستقلة ومغتربة في محافظة أخرى، لكن جاء رد الصديق مخيبًا للآمال.

"كنا بنتكلم عادي وفجأة لقيته بيقترح عليا إني أروح أقعد معاه الفترة دي وأدور على شغل لحد ما آلاقي، وأنا عمري ما عشت مع ولد في حياتي، فضل يقنعني ويقولي انتي مستقلة وحرة والمفروض عادي" تروي أمل، مشيرة إلى أن الصديق لم يفصح عن عرضه مباشرة بل اختار أن يمهد لها في البداية بعرضه أن تنتقل لتعيش معه حيث يسكن بمفرده "والبيت كبير"، فلن تحمل همَّ إيجار المنزل والعبء المادي للمعيشة، واستمر في محاولة إقناعها بأنه "حل عملي" لأزمتها الحالية بشكل مؤقت، قبل أن يفصح عن نواياه في إحدى المرات ويعرض عليها إقامة علاقة جنسية مقابل المال.

"ماذا يمنع؟"

أخذ الشاب في محاولة إقناعها بالعلاقة، "قاللي انتي 25 سنة ازاي لسة فيرجين، المفروض إنك واحدة حرّة، ليه محتفظة بحاجة زي كده؟، ده جسمك وانتي حرة فيه". ثم بدأ في التلميح لإقامة علاقة أولى معها حتى "تتحرَّر من عذريتها" بعدها يمكنها أن تجني المال. " بعدها بدأ يعرض عليا إني ممكن أعمل ده بمقابل مادي وفي نفس الوقت للمتعة" مستمرًا في الضغط، حتى إنه ترك لها مسألة تقدير المبلغ المناسب "قدَّري نفسك بنفسك".

"أنا كنت مصدومة من كلامه واتوترت جدًا وفضلت يومين خايفة ومش عارفة أعمل إيه" تقول أمل، التي تصف إحساسها بـ"الذعر" من كلام الشاب خاصة وهو صديق لها منذ فترة بعيدة واعتادا السؤال عن حياة بعضهما بعضًا بشكل دوري، قبل أن يعاود الاتصال بها ويكرر طلبه مجددًا لكن هذه المرة عرض عليها مباشرة أن تنتقل لتعيش معه، مقابل إقامة علاقات جنسية معه ومع أصدقائه في حفلات الجنس الجماعي، التي يمكن أن ينظمها في منزله، وأيضًا لتحقيق الربح المالي الذي يمكنه أن "يؤمنها ماديًا"، بحسب تعبيره فلن تحتاج بعدها العودة إلى وظيفتها السابقة.

في الوقت نفسه بدأ الشاب بالحديث عن صديقاته الفتيات اللاتي وافقن على العرض وكيف تيّسرت أمورهن المادية بعد ذلك، مع الاستمرار في الحديث عن حريتها في جسدها واختيار ماذا تفعل به.

تقول أمل إن صدمتها في صديقها لم تمكّنها من التفكير في اتخاذ أي رد فعل بل اختارت الصمت في اندهاش مما يحدث، " هو صديقي وكان عندي إحساس إني صعب أخسره، فكنت كل ما أحاول أقفل معاه الكلام يفضل يزن ويقول يلا نبدأ".

تقول أمل "كنت خايفة أضعف والأزمة المادية تسيطر عليا لدرجة إني أقبل"، لكنه نفسه الخوف هو الذي منعها من الاستمرار في حديثها معه حتى توقفت عن الرد على اتصالاته المتكررة، "حسيت طالما خفت كدة يبقى ده قرار غلط ومش هاخده، وحسيت كمان إن الموضوع أكبر مني بكتير ورفضت استخدم جسمي كسلعة من أجل المال، ولأني شخص انطوائي ومسالم ومبعرفش أعمل مشاكل مع حد معرفتش آخد إجراء ضده فاكتفيت بالرفض".

"أنا بسمي ده استغلال" تقول الفتاة العشرينية، " هو استغل أزمتي المادية وإني مش لاقية شغل، لأني كنت بحكيله إن ظروفي المادية سيئة جدًا الفترة دي بعد ما مشيت من الشغل، ولولا الظرف الحالي لما كان عرض ذلك العرض أبدًا". 

"أنا حزينة ومكتئبة.. وحزينة على شغلي كمان جدًا"، تصف أمل شعورها هذه الفترة خاصة أنها كانت انتقلت حديثًا إلى وظيفة جديدة، تاركة عملها السابق، وهو ما تظن أنه قد يكون سببًا في فقدانها لعملها بعد أن قرر الكيان الذي كانت تعمل به تسريح العمالة الحديثة والإبقاء على طاقم العمل القديم، "هما مشوا الناس الجديدة وسابوا الموظفين الأقدم، لو ماكنتش سبت شغلي القديم كان زماني لسه بستلم مرتبي ومكنتش اتحطيت في موقف زي اللي أنا فيه دلوقتي"، مشيرة إلى إحساسها بالندم الشديد "خسرت شغلي مكنتش عاملة حسابي ولا شايلة فلوس على جنب لظرف أو الأزمة دي".

أثر الجائحة

أظهرت دراسة لمركز قضايا المرأة المصرية حول تأثير الجائحة على النساء، أن 84% من النساء العاملات تضررن بسبب الوباء سواء بفقد عملهن أو بانخفاض أجورهن؛ حيث إن 58 % من السيدات العاملات اللاوتي شملتهن عينة الدراسة فقدن وظائفهن على خلفية أزمة كورونا، بينما 61% من النساء اللواتي احتفظن بعملهن خلال الأزمة انخفضت أجورهن، علمًا بأن عينة الدراسة شملت العاملات من 3 فئات هي القطاع الخاص والقطاع العام والعمل اليومي.

في الوقت نفسه أكد تقرير رصد السياسات والبرامج المستجيبة لاحتياجات المرأة خلال جائحة كورونا الصادر عن المجلس القومي للمرأة، أن انتشار الوباء يمثل "تهديدًا خطيرًا لمشاركة المرأة في الأنشطة الاقتصادية، خاصة في القطاعات غير الرسمية، ويحتمل زيادة الفجوات بين الجنسين في سبل العيش"، حيث إن 18.1 % من النساء في مصر معيلات لأسرهن، بينما 40.9 % من إجمالي العمالة غير الزراعية للإناث يعملن في وظائف غير رسمية و 33.9 % من عمالة الإناث في أعمال هشة. كما أن 6.7 % يعملن في قطاع الصناعات، و36.4% من الإناث يعملن في الزراعة، و56.8% يعملن في القطاع الخدمي.

الجنس كرد للجميل

" خفت أقلقهم في البيت لما حرارتي ارتفعت ومرضتش أكلم حد من أهلي، فبعت للدكتور ده أستشيره عشان يقولي أجيب أدوية إيه وفعلا قاللي الاستشارة الطبية"، تروي نسمة* المغتربة في القاهرة بعد اضطرارها إلى الخروج يوميًا لدواعي عملها الجديد منذ منتصف أبريل تقريبًا، مما أدى إلى زيادة "خوفها" من الاحتكاك بالشارع هذه الفترة والقلق من أي "تعب" مثل ارتفاع درجة الحرارة أو آلام المعدة التي لحقتها.

"بعد ما كتبلي عالدوا وارتحت عليه فعلًا بدأ يطمّن عليَّ إني بقيت تمام وكويسة، بعدين بدأ يسأل انتي بتعملي إيه دلوقتي؟ ويطوّل في الكلام وأنا كنت برد عادي لأن الشخص ده المفروض إنه متدين ومعرفة عن طريق زميلة عمل"، تقول الفتاة الثلاثينية، إنه حتى هاتفها في عيد الفطر و"صوته كان غريب" على حد قولها، وهو ما أثار دهشتها:

-انت نايم ؟

- لأ.. لكن بطمن عليكي. 

هنا بدأ الشك يدب في نفسها حول نوايا الشخص الذي لم يلبث أن بدأ يتحدث عن جسدها ونحولته وينصحها أن "تتغذى" بشكل أفضل، رغم إعجابه بهذا "الجسم جدًا" في الوقت الحالي وبعدها السؤال عن إن كانت مرتبطة أو لا، تلاه إشارة لإمكانية ممارسة علاقة جنسية.

"أنا من الصدمة معرفتش أرد" تقول الشابة التي تفاجئت بتجاوز الحديث من الشخص المتدين الذي عهدته، ليبدأ بعدها في سرد الكلام ذي الإيحاءات الجنسية، والذي فهمت منه نسمة بما لا يدع مجالًا للشك أن الشاب يطلب بشكل مباشر علاقة جنسية عبر الهاتف.

تتابع نسمة "الجملة اللي حسستني إن ده فعلًا استغلال لما قال في وسط الكلام إحنا بيننا جمايل" في إشارة واضحة للاستشارات الطبية السابقة التي لجأت إليه فيها، أي أنه الآن يطلب رد هذا الجميل بعلاقة جنسية افتراضية.

"هو حس إن له فضل عليا فأكيد مش هقول لأ"، ارتبكت الشابة لمطلب الشخص الغريب وغير المسبوق، خاصة وأن العلاقة بينهما كانت شبه رسمية ولم يسبق لهما الحديث بهذا الشكل من قبل، وكان رد فعلها هو الصمت وإنهاء المكالمة، دون اتخاذ أي إجراء ضد الشاب أو حتى الرد على طلبه.

إعادة إنتاج العنف

تعلق الناشطة النسوية، مزن حسن، أن الأحداث الكبيرة التي يستتبعها تغيير جذري في المجتمع مثل الأوبئة والحروب الأهلية والثورات وغيرها، توفر ظهيرًا لزيادة نِسب العنف المجتمعي ضد النساء بأشكاله، "الظروف الاقتصادية تؤثر بشكل أسوأ على زيادة نسب العنف واللي بيحصل من العنف ضد النساء في المجال العام والخاص وبيتطور لزيادة أشكال العنف المجتمعي ده حقيقي، بس هل الموضوع في الأول مش موجود وتم اختراعه أو إن لو اتشالت الأزمة الاقتصادية هتتحل أزمة الستات دي؟ ده شيء محتاج إعادة نظر".

يوضح تقرير صادر عن صندوق الأمم المتحدة للسكان بعنوان" فيروس كورونا المستجد من منظور النوع الاجتماعي"، أن الاستغلال الجنسي هو أحد أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، الذي يتزايد بشكل كبير في أوقات الأزمات كتفشي الأوبئة والأمراض، مبينا أن الأوبئة تؤدي إلى تفاقم عدم المساواة ونقاط الضعف القائمة بين الجنسين، مما يزيد من مخاطر إساءة المعاملة، في أوقات الأزمات مثل تفشي المرض، قد تواجه النساء والفتيات مخاطر متزايدة من أشكال مختلفة للعنف القائم على النوع الاجتماعي، بما في ذلك الاستغلال الجنسي والاعتداء الجنسي.

في سياق متصل تؤكد مزن أن الاستغلال الجنسي لا يمكن فصله عن سؤال النساء والعمل، "الظرف صعب ودي تجربة أولانية لينا ولأغلب العالم بإن في وباء بيغيّر شكل المجتمع، وتغيير شكل المجتمع بيبقى جزء منه هو ظهور أنماط أشد قسوة أو جديدة ده حقيقي لو بنتكلم عن الاستغلال الجنسي في بلد أغلب النقاش حوالين النساء في مجال العمل بيبقى مرتبط بالاستغلال الجنسي لأن دي علاقة سلطة مباشرة"، وتوضح أن هذه العلاقة تولّد عند صاحب السلطة ما يظنه استحقاقًا بأنه يمكنه "أن يأخد أكتر مقابل هذه السلطة".

لم يكن ما حدث مع أماني* مختلفًا عن سابقاتها، فالشابة كتبت منشورًا على أحد وسائل التواصل الاجتماعي تطلب مساعدة لنقل أحد أصدقائها إلى مستشفى في وقت بات فيه إيجاد سرير في إحدى المستشفيات أمرًا صعبًا، وهو ما تم بالفعل عندما استطاع أحد "المعارف" على حد قولها توصيلها بأحد الأطباء وتقديم المساعدة المنشودة.


 اقرأ أيضًا: العنف الزوجي يحيل حياة لاجئات إلى سجون بلا مهرب


لكن الأمر لم يتوقف عند ذلك فقد عرض عليها الشاب في البداية توصيلها بسيارته إلى المشفى قبل أن يبدأ في "التجاوزات" في الكلام بحسبها، علمًا بأن سياق العلاقة بينهما لم يكن أكثر من "معرفة" لم يرق حتى إلى مرتبة الصداقة.

تقول أماني إن الشاب استمر في الاتصال بها ومراسلتها بعد ذلك بشكل مُلح، وعرض المساعدة بأي شكل "أجيبلك حاجة ؟ محتاجة حاجة؟ وأنا في الأول كنت بتعامل عادي على إنه بيعرض مساعدة لكن مع كثرة الإلحاح بدأت أقلق"، ذلك قبل أن يبدأ كلامه في "تلميحات واضحة وصريحة" مما أثار غضب الشابة "رغم إن السياق بينا لا يسمح بده أبدًا".

فضاء عام بديل

تعلِّق مزن "الأوقات دي اللي بتكون ملخبطة وبيحصل فيها تغييرات جذرية بتيجي على الأقل سلطة، والستات بتتعرض للاستغلال الجنسي أكتر"، وتجد تعليقات مثل "هو ده وقته؟ الناس بتموت وفي أولويات وانتي بتفكري في كام ست اتعرض عليها علاقة ما ترفض وتحافظ على نفسها وخلاص"، فهذه الصورة الأبوية دائمًا ترى أن قضايا النساء غير مهمة، وتظل تغذي عقولنا بأنها كذلك وتوهمنا بأن هذا لا يحدث في العموم أو أن هذه مجرد استثناءات، وهو عكس الواقع الذي في كل مرة يثبت لنا أن قصص النساء متشابهة حتى لو اختلفت.


* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر.