تصميم: يوسف أيمن - المنصة

يومياتي مع كورونا| الكنز في الرحلة لأن لو مارحناش للمرض هيجيلنا في بيوتنا

منشور الأحد 26 يوليو 2020

الاسم: إسراء الباسطي.* المهنة: صيدلانية. مكان العمل: مديرة إدارة مكافحة العدوى بمنطقة العامرية. السن: 28 سنة.


"تجربة استثنائية". أنا سميتها كده؛ فترة العزل اللي قضيتها في مستشفى العجمي كانت تجربة استثنائية جدًا في حياتي زي كل الظروف الاستثنائية اللي فرضها علينا الفيروس من يوم انتشاره. تجربة اتعلمت منها كتير زي ما قدرت أدي فيها كمان، أنا أصلًا خريجة صيدلة، وبعدين اتشرفت باختياري للالتحاق بالبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة، ثم حضرت دبلومة إدارة المستشفيات بأكاديمية السادات، ودرست فيها مكافحة العدوى، وبعدها اترشحت في شهر أكتوبر لاستلام مهام إدارة مكافحة العدوى.

لما بدأ تخصيص مستشفى للعزل في إسكندرية تم طلب ترشيحات لدكاترة مكافحة العدوى، ورشحتني دكتورة حنان أنور مديرة إدارة مكافحة العدوى في مديرية الشؤون الصحية، بناء على إنجازات شغلي الفترة دي في الإدارة. التكليف طلع يوم 7 مارس إني لازم أكون في مستشفى عزل العجمي. كانت مفاجأة ليا، دكتورة حنان قالتلي ياللا جهزي نفسك علشان تكوني هناك حالًا، خلاص المستشفى بتتجهز ولازم تبقي معاهم. طبعًا، مافيش وقت لأي حاجة وأنا لا قلت لأهلي ولا حضرت شنطتي ولا أي حاجة.

روحت البيت وقلت لأهلي مباشرة إن طلع تكليف ولازم أتحرك دلوقتي على العزل. طبعًا في الأول خافوا وقالولي بلاش وحاولي تتصرفي، بس فهمتهم إن خلاص ده دوري، وإذا مارحتش النهارده أو مع الفريق ده هروح بعد كده، وهم تقبلوا الأمر الواقع وخلاص. بس في الحقيقة اللي كنت بفكر فيه هو إني أروح للمرض برجلي علشان مايجيش هو لأهلي، يعني لو مارحناش وواجهناه بدورنا كدكاترة ما هو هييجي البيوت وهينتشر بشكل أسرع، فأنا مستعدة أواجه الموت بس مايجيش لأهلي.

خلال أربع ساعات كنت بجري أخلص مشاوير وأجيب الحاجات اللي ناقصاني وأكلم زمايلي أعرف إيه اللي هأحتاجه بالظبط، وبأجهز هدومي وشنطتي، وبأعمل شوبينج في تلات مناطق مختلفة خلال ساعتين، متسربعة وبحاول أنجز عشان متأخرش. بابا حاول يوصلني بس أنا قلتله إني هروح مع زمايلي عشان ما يقلقش، والحقيقة إني كنت رايحة لوحدي، بس ما حبتش نعيش لحظة إنه يسيبني قدام المستشفى ولحظات الوداع دي. نزلت لوحدي وكان يوم زحمة والجو مش حلو، ومافيش عربيات أوبر، ودي أول مره أروح العجمي لوحدي، والعجمي لأي حد ساكن في إسكندرية هي مشوار كبير، بس الحمد لله لحقت ووصلت المستشفى في معادي، ودخلت.

قواعد متغيرة دائمًا

المستشفى كان لسه في مرحلة التجهيز محدش عارف حاجة، وأنا مش عارفة مكاني فين. فضلت أسأل، كل الناس بتتحرك بسرعة ولسة بتجهز نفسها، مافيش أي مكان أنام فيه، ولقيتهم بيقولوا اعتبريه شيفت نايت ونامي في أي مكان. لقيت مرتبة في الأرض سحبتها لحد الأوضة ونمت عليها لتاني يوم، طبعًا الجو كان سقعة جدًا، وجالي دور برد قعد تلات أيام لدرجة أني شكيت أكون اتصبت بس الحمد لله كان برد مكان ما نمت، وتاني يوم اتواصلت مع المديرية والحمد لله الأوضاع اتحسنت على طول.

في نفس الليلة بدأت اتعرف على زمايلي وأعرف المستشفى أكتر، وأتكلم مع الناس، وأشوف إيه الحاجات اللي محتاجينها، واتعرفت على فريقي؛ كان معايا اتنين تمريض من مكافحة العدوى من فريق المستشفى الأساسي. أول حاجة عملتها حطينا خطة لتدريب كل الفئات من العاملين في المستشفى. إنت هنا مش مسؤول تدرب الأطباء بس، لأ، كل فرد لازم يتدرب يحمي نفسه إزاي ويتعامل مع الحاجات كلها حواليه بطريقة آمنة إزاي. اتفقنا إننا هندرب كل فئة لوحدها، على حسب تعاملها واحتياجها، عشان المعلومات تبقا مُركزة ومحددة أكتر، بقينا ماشين بالتوزاي، ندرب الناس وفي نفس الوقت بنجهز المستشفى، وتطهير وتعقيم كل جزء فيها، وتجهيز كل السراير بأجهزتها.

أول أسبوع كنا شغالين فعليًا 24 ساعة، بنبدل مع بعض كل واحدة تنام ساعة واحدة بس، علشان نكمل تدريب، وعلشان مانحملش الناس ساعات زيادة للتدريب في وقت راحتهم. كنا بنعمل كل تدريب للشيفت بتاعه، لكل فئة طريقة تدريب حسب وعيها ودورها، الأطباء والتمريض والصيادلة وعمال المغسلة والمطبخ والنفايات والصيانة والأمن، كل حاجة لها دورها المهم جدًا.

كل يوم كان بيجيلنا تعديلات جديدة من الوزارة، طبيعي؛ الفيروس ظهر مفاجأة لكل العالم، ومن غير أي تفاصيل عنه، وكل العالم مجبر يتعامل معاه، فكان دايمًا في تعليمات جديدة، بس كنا مركزين على هدفنا في تدريب العمالة وتجهيز المستشفى؛ فبدأنا نحط خطط بديلة، علشان لو حصل والوزارة بعتت أي تعديلات جديدة، وفعلًا بقينا نقدر نتدارك التعديلات سريعًا.

الوضع آه كان جديد علينا بس كان عندي دعم كبير من دكتورة حنان ومن زمايلي جوا المستشفى، كلنا كنا زي مابيقولوا على قلب رجل واحد، وكلنا خايفيين على بعض، وحريصين على سلامة بعض، وكمان الموضوع ماكنش مفاجئ لأن عندنا تجربة سابقة نقدر نرجع لها وهي مستشفى النجيلة في مطروح اللي اتفرشت بالكامل عزل.

عندنا في مكافحة العدوى دليل استرشادي، ده زي القاموس كده بناخد منه معلوماتنا اللي بندرب بيها الفريق، وبناخد منه ونطبق على حسب المرض والإجراءات الطبية اللي بندرب عليه الفرق، زي غسيل الإيدين مثلًا ده له كذا طريقة حسب الإجراء، تدريب عن كيفية ارتداء وخلع الواقيات الشخصية وتدريب عن التعامل مع الأسطح المختلفة وفي المغسلة وهدوم المرضى وهدوم الطاقم، وملايات السراير وإزاي تنظف كل حاجه في الأوضة حتى التلفزيون والحيطان من غير ما تنقل العدوى، وكل قطع الإكسسوار بتاعت الأجهزة، وكل التفاصيل الصغيرة دي.

فضلنا نقدم تدريبات كل يوم، وكل شوية أراجع معاهم المعلومات اللي قلناها، طريقة غسيل الإيدين وخلع البدلة ولبسها، والممرات وهنتصرف إزاي. أغلبنا كنا فريق جديد في المستشفى ومش مكاننا، كنت حاسة إني مسؤولة آخد كل واحد من إيده أعرفه حتة حتة في المستشفى، المسارات الآمنة اللي يمشي فيها، ويتعامل إزاي في أماكن الحالات، كل ده كان ضروري جدًا، لأن لكل حاجه خط سير لو حصل أي خطأ ممكن يسبب انتشار العدوى، فبعد ما بنخلص التدريب النظري، بوريهم مرة بشكل عملي عليا وبعدين كل واحد يجرب بنفسه، وأرجع تاني أقولهم طيب نجرب مره تانية، طيب بص معايا تاني، وبعدين علمتهم يبصوا على بعض وهم بيلبسوا البدلة ويخلعوها ويفكروا بعض بالإجراءات والخطوات الصح، لأن طبعًا مع ضغط الشغل مش هعرف أتابع كل الطاقم مرة واحدة.

كنت حاسة بمسؤولية كبيرة قوي، وبقيت حاسة إن كل دول ولادي، مع إن يمكن أنا أصغر حد في المستشفى سنًا، بس كنت حاسة إن كل اللي هنا مسؤولين مني ولازم أتأكد إن كل حاجة تمام وكل واحد بيعرف يحمي نفسه كويس، لدرجة بقيت أقولهم أنا عارفة إن إنتم كرهتوني من كتر التدريبات بس ده عشان خاطر نبقى في أمان كلنا، وهم كانوا متفهمين ومتعاونين، والحمد لله الفترة اللي كنت فيها ماحصلش أي إصابة في طاقم المستشفى، كان هدفي كل مريض يطلع ما ياخدش معاه مصاب من الطاقم.

.. وجاءت الحالات

كلنا بعد أول أسبوع تعبنا من مجهود التجهيزات وأُرهقنا نفسيًا من هنبقى عزل أو لأ هيبقى فيها قسم اشتباه هنعمل إيه، الضغط والتعب والتعديلات الإدارية الكتير، حاولنا نعمل أي حاجة تخفف الضغط علينا، فاتجمعنا كلنا في الريسيبشن، وقعدنا سوا، ومعانا زميلة اسمها آية جاد صوتها حلو قوي، خليناها تغني لنا وقعدنا نضحك ونتكلم ونغير جو، بأبسط حاجة، بس محاولة مننا عشان نخرج من الضغط.

قعدنا فترة نتلقى اتصالات من الوزارة والمديرية علشان يتأكدوا إن كده المستشفى خلاص اتجهز، وبعدين فجأة قالولنا أول حالة هتجيلكم دلوقتي. طبعًا كلنا اتفاجئنا، يعني خلاص هنتعامل مع كورونا مباشرة دلوقتي، بدأت أنادي في الكول بتاع المستشفى، وهم مفكرين أن ده مجرد تدريب يعني إننا هنتحرك إزاي. أخدنا وقت ندرك أن خلاص هنستقبل حالة بجد، وبعدين بدأنا نشوف مين هينزل يستقبل الحالة. أول واحد تطوع كان واحد من التمريض، ومعاه دكتور وواحدة من العمال. وقفت معاهم وهم بيلبسوا وبقيت أراجع معاهم هنعمل إيه وخط السير إزاي، والأهم أساعدهم يستعدوا نفسيًا. العاملة اللي نزلت قالتلي "ربنا اللي حطنا هنا، وهو اللي محدد ساعتنا، فلما تيجي مش هنعترض".

زمايلنا رجعوا بعد ما سكنوا المريضة واطمنا عليها، وخلعوا واقياتهم وكله تمام، رجعوا طمنونا وإن مافيش حاجة والموضوع بسيط، وبدأوا ينشروا طاقة ايجابية لينا كلنا، ويطمنونا. بعدها بدأت الحالات تيجي، وكل حالة لها تفاصيل كتير جدًا، وكل مرة خوف وقلق وترقب وحماس، كل مرة بنزل أشوف إجراءات التعقييم وأطمن إن كل حتة في مسار المرضى اتطهرت وكل الناس ملتزمين.

أنا كنت داخلة بأمل وتفاؤل مبالغ فيهم، لدرجة إني ماعملتش حساب إن فيه حالات ممكن تتدهور وتموت غصب عننا، لحد ما في يوم الفجر رئيسة التمريض بلغتني إن في حالة بتموت. حسيت إني صُعقت فجأة، ونسيت إن الحالة ممكن تتدهور في ثانية غصب عننا. قفلت معاها وقعدت أعيط من الصدمة وخلال عشر دقايق تدراكت الموقف. زميلتي في الغرفة حاولت تهديني، الأطباء أعصابهم أهدا لأن هم متعودين على أجواء المستشفى غير لما نكون بعيد عن الحالات. بدأت أهدا واتحركت على المكان وبقيت أراجع مع الناس هنعمل إيه وازاي نتعامل مع الجثة وننقلها، والإجراءات اللي هنتبعها. كان في عامل هو اللي بقا يهديني ويدعمني ويطمني أنها هتعدي بسلام.

طبعًا الأطباء عليهم ضغط كبير جدًا، يعني البدلة دي لوحدها مأساة، لأنها مش هدوم هنشتريها فتبقا مريحة، لأ هي غالبًا بتكون مقاس واحد واسع أو ضيق، أمر واقع وهتلبسها وهتفضل بيها وقت طويل، مع باقي الواقيات، وبتعرق جدًا، وأغلب الطاقم بيجيله برد، وكنا بنشتبه فيهم بس بعدين بيطلع دور برد من الهوا اللي اتعرضوا له بعد البدلة، فقررت مع الفريق بتاعي إننا نشتغل زي "سفنجة" للناس هنا لأنهم تعبانين وعليهم ضغط كبير بجد، فهدفنا أننا نحافظ عليهم نفسيًا وصحيًا ونوعيهم وإحنا بنهديهم وبنمتص غضبهم.

5 دقايق وتخرجي

بعد 14 يوم أخدوا مني المسحة، وخلاص المفروض هخرج بعد النتيجة، نتيجة مسحتي اتأخرت أربع أيام، وده قلقني يكون في حاجة، بعد الأسبوعين أهلي بقوا يكلموني ويقولولي ارجعي حتى لو المسحة ماطلعتش سلبي، بس ارجعي البيت. ده كان أكبر ضغط عليا أكتر من كل ضغوط الشغل نفسه، لأن ماكنش عندي وقت أكلم أهلي كتير يا دوب بطمن عليهم، وأول ما نتيجة المسحة جت كلموني زمايلي إن خلاص كده هتخرجي والمسحة سلبي، طيب ادوني ساعة هلم حاجاتي وأطلع قالولي لأ 5 دقايق وتخرجي، كنت فرحانة جدًا إن خلاص أخيرًا هرجع لأهلي عشان أطمنهم وأطّمن عليهم.

نزلت سلمت على زمايلي كلهم، أنا مابحبش لحظات الوادع، بس ماكنتش هقدر أمشي من غير ما أطّمن عليهم لآخر مره وأسلم عليهم، ولما خرجت من المستشفى حسيت إني كنت معزولة عن الحياة كلها، رجعت على البيت علشان مافيش مكان ممكن أتعزل فيه، كلمت أهلي وقلتلهم عاوزة مكان أتعزل فيه جوا البيت، سبت الأوضة لأختي وفضلت ملتزمة بالعزل وبنام على كنبة لوحدي برا الأوضة، ومش عارفة أحضن أهلي وأطّمن عليهم، فضلت كده مدة طويلة علشان خايفة عليهم، بابا وماما مرضى ومناعتهم مش هتستحمل لو كان فيا حاجة، فضلت من مارس لحد مايو خايفة أقرب لأهلي جدًا بسبب شغلي، لحد ما ماما قالتلي "أنا عاوزة أحضنك" الكلمة حركت قلبي، ولما حضنت ماما بعد كل المدة دي حسيت إن كان ناقصني كتير قوي خلال الشهرين دول.

أنا دايمًا مؤمنة أن الكنز في الرحلة، وأنا طلعت من الرحلة دي بصداقات كتير حلوة ومختلفة ومن أماكن كتير، مكناش هنتقابل لولا التجربة دي، كنت بأستغل أي وقت أقدر أفتح فيه فيسبوك وأدون شوية عن العزل، وسميتها "تجربة استثنائية"، مبسوطة أني دخلتها، تجربة مش سيئة أبدًا، ومش هتتكرر تاني في حياتي بالشكل ده ولحد الآن مستعدة أرجع لمستشفى العزل تاني.


* هذه شهادة لصيدلانية تنشرها المنصة في باب مخصص، بعد التأكد من هوية الكاتبة، والتحقق من شهادتها عبر اتباع الطرق المهنية والقانونية اللازمة، والحفاظ على خصوصية المرضى إن أتى ذكرهم، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة إن كانت بالفصحى.