تصميم: يوسف أيمن- المنصة

يومياتي مع كورونا| ميلاد طفل اسمه حمزة

منشور الأربعاء 12 أغسطس 2020

 الاسم: آيتن أشرف.* السن: 28 سنة. التخصص: طبيبة مقيمة نساء وتوليد. مكان العمل: مستشفى عزل العجمي.


في البداية ماكنتش متابعة أوي اخبار مستشفيات العزل، لأني طبيب مقيم في مستشفى الجمهورية، وكانت بدأت تتحول لعزل، فكنت بدأت نوعًا ما أعيش التجربة. بس عرفت من زمايلي إن عندهم تلات حالات حمل تقريبًا في مستشفى العجمي، وإنهم محتاجين دكاترة نسا. في لحظتها كلمت واحد من زمايلي هناك، قررنا إني أتوجه لمستشفى العزل وأكون هناك.

بابا مسافر برة مصر، فكان قدامي مكالمة طويلة جدًا علشان أخليه يطمن عليا، لأنه كان قلقان جدًا. في الآخر قلت له لو فيه حالة جاتلي في الطوارئ ومصابة وأنا ماعرفش، هأسيبها ولا هأتعامل معاها عادي وألحقها هي والطفل؟ وكده في العزل هبقى محمية أكتر، لأني عارفة إني بتعامل بشكل مباشر مع الفيروس من غير احتمالات، ماما بقى كان أخويا لسه في اجازة الجيش، قلت لها بصي اعتبري عندك اتنين في الجيش وبيقضوا مدتهم، كانت قلقانة جدًا بس فضلت تقرا قرآن، هي عارفة إني بحب المواجهة وبكره الهروب.

يوم الاتنين 15 يونيو حضرت شنطتي ودخلت أنام علشان أروح الصبح للعزل. صليت استخارة وجيت أنام كنت قلقانة قوي. شعور بالخوف مسيطر عليا، هعمل إيه لو جرالي حاجة أو حصل لأهلي حاجة؟ بس كنت مصرة أكمل. نزلت أخدت أوبر، السواق لما وصلني عند المستشفى، وعرف إني دكتورة وداخلة العزل، ماكنش راضي ينزلني، قال لي هرجعك مكان ما إنت عاوزة، بس بلاش أنا خايف عليكي إنت زي بنتي. بقيت أضحك وأقول له ياعمو ماتوترنيش، ده اختيار ربنا خلاص.

وصلت العصر على الباب ودخلت، المستشفى كانت متحاوطة بشرطة وسور، واسمي على الباب علشان أقدر ادخل، زمايلي استقبلوني، ماكنتش أعرف أي حد هناك، وصلوني غرفتي، بدأت أتعرف على النظام، ولقيت الناس هنا لطيفة قوي مع بعض، وكلهم قلبهم على بعض وعلى الحالات، بدأوا يطمنوني ويعودوني على المكان.

أول يومين كانوا قلق وخوف بس من مواجهة فيروس قاتل، بتحارب حاجة إنت مش شايفها أصلًا، مافيش أي أنشطة تتعمل جوا، وماينفعش تخرجي لأي سبب تشمي هوا. مع الوقت بقينا عيلة مع بعض، والحالات بقوا جزء من العيلة دي، وبقينا بنتعب في الشغل، وكل يوم حد مننا يقع ونجري نعلقله محاليل، لكن في الآخر بنقعد نتكلم ونضحك ونفضفض ونتشارك، كمان تعلقنا بالحالات كان بيشجعنا، مش هنسى واحدة من المصابين قالتلي "أنا مبسوطة قوي إنك مش خايفة مني" حسيت بأهمية مكاني، واتشجعت أكمل.

حالات الكورونا الحوامل ماينفعش أي تأخير في متابعتهم، أول يوم مريت على الحالات كانوا تلات حوامل، وجه دكتور كمان متطوع بردو، لأن النسا والولادة مش هينفع معاهم طبيب واحد. بدأنا الأول بعد ماعرفنا كل حالة نحط خطة أولويات للولادة، مين ينفع تتأجل ومين لأ. أول حالة كانت لسه في الشهر الخامس، والتانية كان فيه أمل تخف قبل معاد الولادة، التالتة كان لازم تولد، قعدنا متابعين يومين والتالت قررنا الولادة.

أول مره كنا خايفين جدًا، الولادة أصلًا مرعبة لأي طبيب، لأن في خطر على حياة فردين مش فرد واحد، ولا قدر الله بتبقى كل حاجة كويسة بس فجأة يحصل مضاعفات، فما بالك بأم و مصابة بكورونا كمان، يعني تدهور مفاجئ في أي لحظة. إحنا قاعدين في وقت مفتوح، وكان قبل ما نيجي في تلات حالات ولادة ماتوا، وحالات النسا ماكنتش مطمئنة، فحتى الفيد باك عن الفيروس مش مطمئنة أبدًا، والفيروس بيأثر على تجلطات الدم، يعني معرضة لنزيف أي وقت، أو الطفل، أو انفصال مشيمة، أو نضطر نشيلها الرحم خالص لا قدر الله، وخايفة الطفل يتعدي من الأم، مخاوف ضخمة جدًا بنحاول نحط خطط نتعامل معاها بسرعة.

الأم حالتها الصحية كانت تتحمل الولادة، لكن حالتها النفسية كانت سيئة، خصوصًا وهي أول مرة ولادة لها، فتبقى جوة العزل ولوحدها من غير أهلها، وفي ظروف مرض خطير كده، طبعًا كانت منهارة. حاولنا نهديها، ونحسسها إننا كلنا جنبها، وكانت مصممة زوجها يدخلها، وده طبعًا مستحيل. اتكلمنا معاها، وهي بدأت تقتنع وتهدا. كمان ماكنش عاملة حسابها إنها هتولد وحاولنا نوفرلها كل حاجة. لما دخلنا كان هدفنا نفتح بسرعة جدًا وبحرص جدًا جدًا، علشان نخرج البيبي بسرعة قبل أي تدهور، ولازم نوفر له بيئة نضيفة وآمنة، علشان ما يلقطش عدوى من أي حاجة، ويتم التعامل مع الطفل بسرعة ونطمن عليه، وفي نفس الوقت عاوزين ننجز العملية باتقان وبسرعة، بدون مضاعفات علشان نتجنب أي تدهور في حالة الأم، كلنا في لحظتها بقينا شخص واحد، وبنساعد بعض بكل قوتنا علشان ننجز المهمة دي في أسرع وقت ومن غير اي مضاعفات.

كل القصة دي وسط ما إحنا لابسين البدلة ومتكتفين بها، وطبقات كتير قوي فوق بعض، وخوذة وفيس شيلد، ومش شايفة كويس، والطبقات دي كلها بتعزل الهواء و بتحرر وممنوع نشغل التكييف جوا العمليات، وبتهبط الضغط والأكسجين في الدم. إحنا أول ما طلعنا أول كلمة قلناها لو كنا فضلنا عشر دقايق كمان كان هيغمى علينا جوة. لما خرجنا كان الأم والطفل كوسيين جدًا، كان نفسي أعمل فرح برة، بس بدأت أسمع كلام كتير سلبي من نوعية ماتفرحيش قوي كده يمكن تحصل مضاعفات، استني شوية، أجلي احتفالك، كلام محبط جدًا ليا، خصوصًا وأنا كل اللي بسمعه عن ولادات العزل سيئة.

 سبت للحالة رقمي، وكنت بنزل أتابعها. في الأول ماكانتش فاهمة أعراض الولادة، وكانت مضايقة كمان علشان أهلها من جنبها، فكانت خايفة ومتوترة وحزينة إنها مش قادرة تشيل ابنها وترضعه زي أي أم طبيعية، ماكنتش عارفة أقولها إيه في الوضع ده، وأنا عارفة إنه وضع صعب على أي أم. بدأت أكلمها إن ده وضع مؤقت وهتخرج له وتشبع منه، بعد يومين من الولادة كل الأمور كانت ماشية تمام جدًا، والحمد لله ماحصلش أي حاجة، بعدها بأسبوع عملت مسحة وخرجت متعافية الحمد لله.

 الطفل اتسمى حمزة، أول ما اتولد اتاخد لوحده على الحضانة، واتعمله مسحة وبعد 48 ساعة تانين اتعمله مسحة تانية، علشان نتأكد أنه الحمد لله ما اتعداش من الأم، وطلع سلبي. كنا بنتابعه لحد ماخرج تالت يوم، اليومين دول كنا بنحاول نعيش الأم معاه، كنا بنصوره فيديو وصور ونبعتلها تشوفه، ونكلمها من عنده فيديو وتشوفه وتسمعه صوتها، لحظات صعبة بس حلوة كنا بننبسط لما نقدر نطمنها عليه.

الأم أكيد بعد التجربة دي هتتأثر، وجزء منها هيتغير، لأن غياب الأهل عن الأم في اللحظة دي ومواجهة خوفها من الولادة لوحدها، وكمان ماتقدرش تحضن طفلها وتشوفه، كنت بحاول أوصلها دايمًا إنك ست طبيعية بس في ظروف مختلفة، وقريب هتعرفي تفرحي بطفلك، كنت بحس بمشاعر متضاربة، لازم اكون متماسكة وقوية وأدعمها، بس من جوايا زعلانة علشانها.

جوزها لما الطفل خرج بخير، وبعده الأم، بعتلنا كلنا رسايل شكر. حسيت إني ماجتش هنا على الفاضي، وبالرغم أني ما اتعاملتش معاها كتير، لكني فاكرة شكلها وشكل النونو وعمري ما هنساهم. في الوقت ده بنطمن على كل حاجة، مافيش فرصة إننا نغفل عن أي حاجة، كوفيد قاتل، وممكن يعمل تدهور غير متوقع للأم والطفل في أي لحظة. همنا طبعًا ننقذ حياة الاتنين، كنا بنركز جدًا على المتابعات ونفضل ماشيين دقيقة بدقيقة مع الحالة الأم والطفل، ومستعدين لأي مفاجأة مهما كانت.

الحالات التانية في المتابعة الحمد لله بقوا يخرجوا واحدة ورا التانية، وحالتهم وحالات الأجنة كويسة، طول المدة دي ماكنتش بسمع لحد، لأني مش عاوزة أسمع أي كلام سلبي يأثر عليا، إحنا تمام وبنتابع كويس والحالات الحمد لله بتتحسن و الأجنة بتبقى كويسة، اللي هيشجعنا تمام، غير كده لأ شكرًا.

تعلقنا بالعيانين وببعضنا خلانا نتشجع نكمل، بحس إن محدش هتجيله الجرأة يجي مكاني، لو مشيت مين هيتابع باقي الحالات اللي خلاص بتابع معاهم من يوم ما دخلوا؟ كل ما الحالات بتتحسن بحس إنه ليه لأ؟ ايه يمنعني أكمل؟ بالرغم من خوفي على أهلي اللي بكلمهم كل يوم فيديو كول، بس من بعد فك الحظر بقيت قلقانة عليهم، إحنا هنا بنشوف حاجات وحشة قوي، فالوضع مش أمان أبدًا.

إحنا هنا منقطعين عن العالم، بنشوف صور ناس من شاشة الموبايل بتخرج عادي، وإحنا هنا في عالم تاني مع الحالات، في توتر ضخم، مش على نفسنا، على الحالات كمان، إحنا ممكن اتعودنا بس فيه جزء من الخوف، لكنه بيتلاشى بمجرد التعامل مع الحالات، ماكنتش متخيلة أن الناس هنا شجاعة كده، فيه ناس بقالها خمس شهور ماخرجتش، محدش طبيعي يقدر يتحمل كل المدة دي في نفس المكان بالظروف دي، لما بنتعب مافيش حاجة تتعمل غير ننزل نتمشى تحت في ساحة المستشفى شوية و نطلع.

أنا إحساسى بالمسؤولية مخليني مكملة، كلنا بنخاطر بكل حاجة من أول شغلنا الخاص اللي فاتحين منه بيوتنا، ومش بنشوف أهلنا، وخطر الإصابة، بس قاعدين علشان عارفين إن محدش هيكمل مكاننا، وكل اللي هنا دلوقتي مش مستنيين حد يقولنا حاجة، ولا مستنيين مكافآت. بنعمل اللي علينا وخلاص، لأن حياة البني آدم أهم من كل حاجة. هنا عندنا هدف ومش هنمشي إلا أما نحققه، مش هنخرج غير مع آخر حالة تخرج من المستشفى، طول ما فيه حالات إحنا هنا.. موجودين.


* هذه شهادة لطبيبة تنشرها المنصة في باب مخصص، بعد التأكد من هوية الكاتبة، والتحقق من شهادتها عبر اتباع الطرق المهنية والقانونية اللازمة، والحفاظ على خصوصية المرضى إن أتى ذكرهم، مع عدم التدخل في صياغة الشهادة من جانبنا إلا لضبط اللغة إن كانت بالفصحى.