الفيديو الترويجي للمشروع- يوتيوب
صورة تخيلية لمشروع "كايرو آي" حيث تظهر وبجوارها آلاف السيارات على كوبري أكتوبر.

مشاريع قومية على "راس" الزمالك

منشور السبت 16 يناير 2021

بينما يستشيط سكان حي الزمالك غضبا من تداعيات المشروع القومي لمترو الأنفاق على بيوتهم وحياتهم، وبينما هم يفكرون في كيفية التصدي لوصول المشروع القومي لممشى أهل مصر إلى الجزيرة، سقط على رؤوسهم "مشروع قومي" آخر: كايرو آي أو عين القاهرة أو العجلة الدوارة.

المشروع الذي تقدمه الشركة المنفذة نيو هاواي للسياحة والاستثمارعلى أنه "مشروع قومي". نعم.. مشروع قومي أسوة بما نطلقه على السد العالي أو قناة السويس أو ما نحلم به من بناء مستشفيات آدمية حديثة، هو عجلة دوارة بارتفاع 120 مترًا تتدلى منها قمرات زجاجية تدور في السماء ليرى منها الراكب معالم القاهرة. 

تبدو الفكرة جميلة تخلق مزارًا حديثًا في العاصمة التي تعج بالمزارات التاريخية. لكن ما أثار هلع سكان الزمالك، وأنا منهم، هو المكان الذي اختير لإقامة المشروع: مدخل الحي وفي أحد أكثر المناطق تكدسًا للمرور والتي تصاب بالشلل التام في أوقات الذروة.

حي الزمالك ليس فقط بضعة عشرات من السكان المترفين تعيش كل عائلة منهم في قصر أو شقة فارهة كما كانت في أوج مجدها، ولكنها منطقة تضم 15 ألف أسرة، ونحو 20 مدرسة الغالبية العظمى لتلاميذها من خارج الحي يحضرون إليها بوسائل المواصلات المتعددة من حافلات وميكروباصات وسيارات أجرة وخاصة والمعدية والأتوبيس النهري. ذلك فضلًا عن المحلات التجارية والمقاهي التي تتكاثر كالنباتات الشيطانية في كل ركن حتى أن أحدهم احتل مخرجًا جانبيًا لبناية سكنية مخصص لخروج جامع القمامة بمخلفات السكان، دون أن يردع ذلك زبائنه عن إلتهام ساندوتشات الشاورمة.

                                                                            فيديو تخيلي لشكل "كايرو آي"

رسخ اختيار هذا المكان المزدحم لإقامة العجلة قناعة أهل الزمالك بأن هناك مؤامرة مدبرة ونيّة مبيتة لإبادة حيّنا التاريخي، وإرغامنا على النزوح عنه إلى العاصمة الإدارية الجديدة أو ما يشبهها من التجمعات السكانية الجديدة، حتى يتم بيع الحيّ لمستثمر عربي أو مصري من ذوي النفوذ مثلما حدث في مثلث ماسبيرو. وإلا فلماذا الإصرارعلى هذا الموقع بالذات دون مواقع أخرى، ولماذا تم منذ بضعة أشهر نقل المسلة الفرعونية التي كانت تتوسط الحديقة التي تحمل اسمها إلى مدينة العلمين الجديدة، بينما هناك آلاف الآثار الأخرى التي كان يمكن وضعها في المدينة الساحلية دون الحاجة لنزع المسلة من القاعدة التي جلست عليها منذ عشرات السنين وكأنها الأثر الوحيد في بلد الحضارة الفرعونية؟ ولماذا يتم تدمير حديقتي الأندلس التي زرعت في أواخر القرن التاسع عشر، والمسلة وهما من آخر البقع الخضراء في المنطقة إن لم تكن في وسط القاهرة بأكملها؟

عندما تواصل بعض السكان مع رئيس مجلس إدارة نيو هاواي أحمد متولي أكد لنا أنه متحمس لأنه "مشروع قومي ينفذ لأول مرة عن طريق شركة قطاع خاص". وعن اعتراضات أهل الحي على المكان والتغيير والازدحام الذي سيجلبهما؛ قال لنا متولي إن دراسات أجريت وأخذت في الاعتبار بدائل أخرى بما فيها حديقة الحرية، الواقعة على الجانب الآخر من الجزيرة والتي تحتوي على متحف المثّال محمود مختار، ولكن تمت الموافقة على هذا المكان لأن القوائم التي سترفع العجلة سيتم شحنها من الخارج إلى الإسكندرية ثم تنقل عبر النيل لترفع بونش إلى الموقع "لذا يجب أن يكون الموقع بجوار الشاطيء". وكأن النيل، أطول نهر في العالم والذي يجري بطول العاصمة ومصر كلها، لا يمكن الوصول إلى شاطئه إلا عند هذه البقعة.

وأكد متولي للسكان أنه سيتم الحفاظ على الرقعة الخضراء "بل زيادتها" دون تحديد كيف سيتم ذلك. أما عن حركة المرور، أكد لنا متولي على بناء جراج من طابقين يسع لعدد 500 سيارة، وبناء مرسى لمراكب تعمل بالموتور "مثل الباتو موش في باريس". وربما تكون هذه المراكب هي أيضا التي ستحل محل الفلوكة الجميلة الهادئة التي تمثل فسحة رخيصة جميلة وهادئة على صفحة النيل حيث قامت الهيئة المنفذة لمشروع ممشى أهل مصر بهدم جزء من الدرج المؤدي إلى مراسي جاردن سيتي وأصدرت الأمر لمستغليها بتسليمها للهيئة. "المهندسة المسؤولة عن الموقع أعطتنا وعدا شفهيا بالعودة بعد ستة أشهر  لكن مافيش أي أوراق رسمية تثبت هذا الكلام ومش عارفين حنروح فين بعد ما كنا هنا من أيام أبويا ما أسس المرسى من حوالي 100 سنة"، كما قال لي بأسى صاحب أشهر هذه المراسي.

مثل أصحاب مراسي الفلوكة ومثل أهل مثلث ماسبيرو؛ علمنا بمحض الصدفة أن هناك مَن اتخذ قرارًا يقلب حياتنا رأسًا على عقب دون أن يكون لنا أي رأي فيه أو حتى علم به. استيقظ أهل الزمالك على مواقع التواصل الاجتماعي تزف للمصريين بشرى إقامة "أطول عجلة دوارة في أفريقيا" وكأنها تعلن لهم أن عالمًا مصريًا اكتشف لقاحًا يقضي على فيروس الكورونا في لمح البصر وسيوزعه مجانًا على العالم.

"تمت الموافقة على المشروع من كل الجهات المختصة بما فيها أعلى سلطة في البلد وتم تسليم الموقع"، حسبما أكد متولي.

"إذا بعد كل ذلك لا قيمة لنا ولا رأي لنا"، تساءل بذهول جيراني من أهل الحي، "خرجنا في مجموعات غفيرة لتأييد ثورة 30 يونيو 2013، لكن بماذا أفاد رأينا وهو لم يؤخذ في الاعتبار عندما اعترضنا على مشروع المترو في الزمالك؟" يردد الواقعيون منهم.

عند الإعلان عن مشروع إقامة محطة لمترو الأنفاق في وسط الزمالك وأيضًا في أحد أكثر التقاطعات ازدحامًا، ثار الأهالي على المشروع الذي رأوا فيه تهديدًا على البنية التحتية والاجتماعية للحي. خشى السكان  أن تنهار البنايات التي تعود إلى بدايات القرن الماضي بسبب أعمال الحفر، وهو ما تبين صحته مؤخرًا، كما خشوا أن يتحول مخرج المحطة إلى مرتع للباعة الجائلين ولسائقي التوكتوك مثلما حدث عند محطة المعادي، وأن يجلب المترو المزيد من رواد المقاهي التي تعمل أصلًا دون ترخيص، والتي نحاول تنفيذ قرارات إغلاقها دون جدوى.

في 2015، عقدت جلسات بين ممثلين عن الحكومة وممثلين عن أهالي الحي الذين قدموا خلالها دراسات هندسية مستفيضة تؤكد صحة مخاوفهم على منازلهم وعلى البنية التحتية من الانهيار. وقتها ركز الإعلام على النبرة المتعالية التي استخدمها بعض السكان في الحوار مع ممثلي الدولة، ومرّ مرور الكرام على المخاوف والدراسات التي قُدّمت للحكومة وممثليها، ولم تستطع القضية المرفوعة أمام مجلس الدولة ضد المشروع وقفه. وفي 12 ديسمبر 2016 بدأ العمل في المشروع الذي تنفذه مجموعة شركات مصرية وأجنبية تقودها شركة فينسي الفرنسية على أن يتم الانتهاء منه في نهاية 2021، بحسب المعلن.

قُطّعت أواصر الحي وأغلقت شوارع، وحاول السكان التعايش مع الأمر الواقع حتى ارتطم الحفار العملاق بأحد الأعمدة الأساسية لبناية الشربتلي المجاورة للموقع في يوليو الماضي متسببًا في ميلها واضطر السكان للهروب من منازلهم خشية انهيارها حتى تم ترميمها وعودتهم بعدها بحوالي شهرين.

توالت حوادث الحفار في الأشهر الأخيرة وتم إخلاء سكان بنايتين أخريين، كما اصطدم بماسورة مياه رئيسية وانقطعت المياه عن الحي لمدة ثلاثة أيام متواصلة ثم "اختفت" ماسورة أخرى غرقت إلى أعماق الموقع. كعادة المصريين، لجأ سكان الزمالك للسخرية للتخفيف عن مصيبتهم  فتندروا بـ "الحفار الطائش" متسائلين عما إذا كانت الشركة المنفذة تملك خرائط للبنية التحتية أم أنها تسير "ببركة دعاء الوالدين"  أو بدعاء أم حميدة سيدة البحار كالباخرة نورماندي 2 في فيلم ابن حميدو.

حتى اسم "المولود الجديد" لم يكن لنا رأي فيه، إذ وجّه الرئيس عبدالفتاح السيسي بتسمية محطة الزمالك باسم المذيعة صفاء حجازي، ونحن الذين كنا نتمنى أن تسمّى المحطة على اسم أشهر سكان الحي وإحدى أشهر الشخصيات المصرية على الإطلاق كوكب الشرق أم كلثوم، والتي كانت قد شيدت فيلا في أول شارع أبو الفدا في عام 1934 وعاشت بها حتى وفاتها عام 1975.

هدم هذه الفيلا في بداية ثمانينيات القرن الماضي، كان من المؤشرات على تغير طبيعة الحي وعلى عدم قدرته على الصمود أمام سطوة المكسب المادي على المصلحة العامة. فكما طالت معاول الهدم عدة قصور من أجمل مباني الحي بعد أن باعها أصحابها في حقبة الانفتاح في السبعينيات؛ لم تُجدِ توسلات أهل الزمالك بل وعشاق أم كلثوم الذين لا حصر لهم إلى ورثتها بعدم بيعه، وإلى الدولة بشرائه وتحويله إلى متحف يضم مقتنياتها، فتم هدم الفيلا بين ليلة وضحاها ليحل محلها فندق ضخم أطلق عليه اسمها كأضعف الإيمان واحتلت الدور الأرضي منه عدة مقاهي تتسبب في اختناق مروري يومي عند هذا المخرج للحي.

حاول أهالي الحي الحفاظ على رونقه ونجحت المنطقة القبلية منه، حيث يقع نادي الجزيرة، في ذلك نوعًا ما على الرغم من انتشار المراكب الضخمة التي تؤوي كل منها عدة مطاعم وملاهي ليلية. التدهور كان أكثر سرعة في المنطقة البحرية حيث يقع شارع أبو الفدا خاصة بعد تفكيك كوبري أبو العلا التاريخي عام 1998، وهو الجسر الذي افتتحه الخديو عباس حلمي عام 1912، وبناء كوبري 15 مايو بدلا منه.

حي الزمالك بدأ في الامتداد حول سراي الجزيرة التي افتتحت عام 1868 في عهد الخديو إسماعيل لتكون مقرًا لضيوف حفل افتتاح قناة السويس وخاصة الإمبراطورة الفرنسية أوجيني زوجة نابليون الثالث، أصبح الآن فندق ماريوت.

فقد الحي الكثير من جماله وهدوءه. أصوات أبواق آلاف السيارات المارة فيه أفزعت العصافير التي كانت تقطن أشجاره المظللة على شوارعه الضيقة وغطى ضجيجها على تغريدها. مخلفات المقاهي التي لا يزيلها الحي رغم مخالفتها للقانون تتناثر على الأرصفة التي احتلتها السيارات لعدم وجود أماكن للانتظار. أما الأرصفة التي كانت متنزها جميلا نظيفا لأهل الحي وزواره فقد امتلأت بالحفر بينما يتساءل السكان عن السبب الخفي وراء تكرار رصف العدد القليل منها الذي بحالة جيدة ويهمل المهدم منها.

معدلات التدهور تضاعفت في العامين الماضيين، حيث بنيت عشرات المحلات والمقاهي والمطاعم بمحاذاة سور نادي القوات المسلحة بشارع 26 يوليو، أكثر الشوارع ازدحامًا مما جلب سيلًا لا ينقطع من السيارات ومن مرتادي هذه المتاجر يستمر طوال الليل والنهار. لكن السكان ظلوا يتمسكون بحياتهم في الحي الذي يحمل كل ذكرياتهم رافضين الإنعزال في المجمعات السكنية المغلقة التي انتشرت على أطراف القاهرة، بل أن بعض مَن نزح إليها قرر العودة إلى موطنه الأصلي في الزمالك.

ثم جاء مشروع الـ "كايرو آي" ليشعر السكان أنه الضربة القاضية لحيّهم وحياتهم فيه.

بعد نشر خبر إقامة هذا "المشروع القومي"، قال لي أحد السكان "عارفة الراجل اللي كان ماشي في الصحرا وقعت عليه بلكونة؟ أنا بقى خايف أمشي في الزمالك يقع على راسي مشروع قومي".

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.