تصميم: يوسف أيمن- المنصة

جنوح "إيفر جيفن" لن يكون الأخير: لماذا تدفع قناة السويس ثمن عملقة السفن؟

منشور السبت 3 أبريل 2021

 

لسنوات طويلة، ظلت أحجام السفن تتضخم وتتعملق حتى وصلت إلى حمولات مهولة. منذ عشرين سنة فقط كانت أغلب حمولات سفن الحاويات لا تتجاوز حمولتها 5 ألاف حاوية، ونتحدث الآن عن سفن تحمل 24 ألف حاوية ومازال الباب مفتوحًا لمزيد من التعملق. حادث جنوح السفينة Ever Given في قناة السويس في مارس/آذار 2021، وما نتج عنه من توقف لحركة الملاحة في القناة المهمة، وانتظار العديد من السفن على جانبي القناة للعبور، ليس بعيدًا عن موضوع زيادة أحجام السفن كأحد أسباب المشكلة، بغض النظر عن التحقيقات الجارية لتحديد أسباب الحادث المباشرة، سواءً كانت الرياح أو أعطال في السفينة أو خطأ بشرى من ربانها.

الكلام عن العلاقة غير المتكافئة بين الأحجام الحالية لسفن الحاويات العملاقة والسعة الاستيعابية للبنية التحتية الملاحية ليس جديدًا، ولكن لا أحد يتحدث عن المتسبب الرئيس لما وصلنا إليه اليوم، وهو ملاك السفن، الذين لم يفكروا سوى في بناء سفن أكبر، دون النظر لتأثير ما يفعلونه على النقل البحري وسلاسل الإمداد العالمية بشكل عام.

يمكننا التحدث عن الأسباب المباشرة للحادث كما نشاء، ولكن يجب أن ننظر للأمور بشكل أشمل من مجرد تحليل حادثة فردية، لأن هذا الحادث قد يتكرر مرة أخرى بعد شهور أو سنوات، وستكرر المأساة والمعاناة التي عانى المصريون والعالم بأكمله منها، وقد تصبح الأمور أصعب كثيرًا، على سبيل المثال، إذا لم تستجب السفينة لمحاولات القطر والتعويم، فإن الحل البديل كان تخفيف حمولتها، وهو ما قد يستغرق أسابيع تتفاقم فيها المشكلة، وتتأثر سلاسل الإمداد العالمية بشكل أسوأ، ناهيك عن خطورته البالغة لتأثيره على ثبات السفينة إذا لم تتم العملية بالحرص اللازم. لهذه الأسباب، يجب أن ننظر إلى ما وراء الحادث وبشكل مباشر إلى المسؤولية الجماعية لملاك السفن عن المشكلة نتيجة سعيهم لبناء سفن عملاقة.

لماذا يقومون ببناء سفن أكبر؟

فى بداية الألفية الجديدة، عانت الخطوط الملاحية من التكلفة المرتفعة للوقود لارتفاع أسعار النفط وقتها، مما دفع ملاك السفن للتفكير في زيادة أحجامها للاستفادة من مبدأ اقتصاديات الحجم.

هذا المبدأ في النقل البحري يعنى أن تكلفة نقل الحاوية تقل عندما يزداد حجم السفينة، ليس ذلك فحسب، بل إن الحجم الكبير للسفينة يؤدى إلى انخفاض تكلفة بناءها، وكذلك تكاليف العمالة والتشغيل، وأيضا الوقود.

 

السفينة  Ideal X في عام 1956

للتبسيط، تخيل أنك عندما تبنى سفينة بحمولة أكبر، لا تحتاج للكمية نفسها من الصلب المستخدم لتصنيع سفينتين أو ثلاثة، ولن تحتاج لطاقمين من البحارة أو أكثر، أو الوقود اللازم لتحريك أكثر من سفينة. الأمر منطقي جدًا.

 بالإضافة إلى ذلك، سهل الانخفاض الكبير في أسعار الفائدة بعد الأزمة المالية في 2008 عملية الاقتراض لبناء سفن أكبر وأفضل، فملاك السفن يقترضون لبناء السفن الضخمة، وتستفيد ترسانات السفن والبنوك، إذن الكل مستفيد. 

ظل العالم يروج للزيادات في أحجام السفن على أنها أمر عظيم وتطور رائع في النقل البحرى، وتم استقبال تلك الأخبار بسعادة بالغة وتشبيهات لطيفة مثل السفينة التي يتعدى طولها برج إيفل أو ناطحة سحاب إمباير ستيت، بدون النظر إطلاقا لما تمثله تلك السفن من خطورة بالغة على النقل البحري أو الاقتصاد العالمي.

كانت حمولة أول سفينة حاويات 14 حاوية في سنة 1956، حتى وصلنا اليوم إلى حمولة 24 ألف حاوية مثل ما قد تستطيعه السفينة  HMM Algeciras، ولن تنته الأمور عند هذا الحد، فهنالك سفن بحمولات 25 ألف حاوية في الطريق، ومتوقع الوصول إلى حمولة 30 ألف حاوية قريبًا.

 

 

السفينة HMM Algeciras

  

 

شجعت العولمة على زيادة الحمولات. الشركات الكبيرة تنقل سلاسل إمدادها إلى الشرق الأقصى وخصوصا الصين لتوفير التكاليف والعمل تحت شروط مخففة دون التقيد بحقوق للعمالة والتزامات الدول الغربية. تستورد الشركات المكونات من دول العالم وتقوم بتجميعها في دولة أخرى ثم تصدر المنتج النهائي للعالم كله؛ هذا ما يسمى بالإنتاج المعولم، وتنقل الحاويات المكونات والمنتجات بين كل تلك الدول ويزداد الطلب على السفن الكبيرة لتصبح عملية النقل أرخص وأسرع.

و لكن الاقتصاد العالمي في حالة ركود، مع وجود أزمات اقتصادية وحروب تجارية ووباء عالمي، ولكن هذا لم يوقف عجلة بناء سفن أكبر.

سمحت السفن الكبيرة للشركات العالمية لتحسين أداء سلاسل الإمداد وزيادة أرباحها عن طريق الاعتماد على تقليل المخزون لديها، بدلًا من التكاليف الإضافية للتخزين، تعتمد الشركات على نقل شحنات صغيرة متتابعة من البضائع بشكل دوري، وتقوم سفن الحاويات بنقل البضائع المصنعة من الصين إلى أوروبا كل يوم، وفورات هائلة ومكاسب أكثر مرهونة باستمرار حركة النقل البحري بدون توقف، ولهذا السبب تكبدت الشركات خسائر فادحة أثناء مشكلة Ever Given لأنها ببساطة تنتظر الشحنات العالقة عند قناة السويس وبدونها ستصبح الأرفف خالية من المنتجات.

تأثير السفن العملاقة على النقل البحري

نتيجة للتوسع في الأحجام، كان لابد من تطور مماثل للبنية التحتية البحرية، وقامت بنما بتطوير قناتها لتسمح لسفن أكبر بالمرور ولكنها في الوقت نفسه لا تزال غير قادرة على استيعاب مرور الحمولات الحالية أيضا لخصوصية قناة بنما وطبيعتها الهندسية المعقدة المعتمدة على نظام من الأهوسة، أما  قناة السويس فاستثمرت في التعميق المستمر للممر الملاحي لتصل إلى عمق 24 مترًا، ثم قامت بحفر قناة موازية جزئيا لتوفير الوقت للسفن وتسهيل مرورها، كذلك اضطرت الموانئ ومحطات الحاويات للاستثمار أيضا في التعميق وزيادة أطوال الأرصفة ومساحات التخزين وشراء أوناش أكبر وأفضل لاستيعاب تلك السفن العملاقة، حيث إن السفن أكبر تحتاج موانئ أكبر، ومع ذلك لا تستطيع أكثر من نصف موانئ العالم أن تستقبل تلك السفن، فكيف تعمل هذه السفن إذا لم تستطع زيارة كل الموانئ؟

 

مراحل تطور بناء السفن

لفهم المشكلة علينا أن نفهم أولا كيف تعمل خطوط الحاويات، ببساطة؛ هي توفر خدمة نقل الحاويات من وإلى الموانئ العالمية بخطوط سير منتظمة وثابتة، مع وجود مواعيد وزمن للرحلات شبه ثابت، للتقريب، الأمر شبيه بكيفية عمل خطوط الطيران إلى حد كبير، هناك موانئ محورية تسمح باستقبال تلك السفن الكبيرة، وتقوم السفن بتفريغ حمولاتها من الحاويات المتجهة للموانئ القريبة من الميناء المحوري، ثم تقوم سفن أصغر Feeder Vessels بنقل هذه الحاويات لاحقا إلى الموانئ الأخرى غير المجهزة لاستقبال السفن العملاقة. هذا ما يسمى بالأقطرمة Transshipment. تتسابق الدول على تطوير موانئ محورية للاستفادة من تلك التجارة، وتستفيد الموانئ من رسوم التداول ورسوم الميناء للسفن، فكلما حققت تداول أكثر للحاويات، كلما زاد ربح الميناء.

جرس إنذار لم يسمعه أحد

كلما كبرت وطولت السفينة وزادت حمولتها، كلما أصبح من الأصعب إنقاذها في حالة الجنوح، حيث تحتاج إلى قاطرات أكبر وأقوى لدفعها، وتصبح الأمور معقدة جدًا وغير مسبوقة في حالة الجنوح بالعرض كما حدث على ضفتي قناة السويس، لم تمتلك القناة مثل تلك القاطرات الكبيرة مما صعب من المهمة، ولكن ما هي احتمالية تكرار هذا الأمر؟

الحوادث البحرية أمر طبيعي ويحدث باستمرار كل يوم، وربما لا يشعر به غير المتابعين، ولكن الاختلاف في كارثة Ever Given هو الشلل الذي أصاب العالم لتوقف المجرى الملاحى تماما، فحوادث الجنوح تحدث ولكنها لا تسد المجرى الملاحى لقناة من أهم الممرات المائية في العالم كل يوم، الأمر غير مسبوق بلا شك. لكن السؤال المهم يبقى، هل هناك حوادث سابقة شبيهة؟

في 3 فبراير/شباط 2016 وأثناء رحلة السفينة العملاقة CSCL Indian Ocean التابعة للخط الملاحي China Shipping Container Lines متجهة إلى ميناء هامبورج، عانت السفينة من عطل في التوجيه، بناءً على اقتراح المرشدين الملاحيين، تم قطر السفينة حمولة 19100 حاوية، التي كانت من أكبر سفن الحاويات وقتها، إلى الحافة الشمالية للممر الملاحى لتجنب إغلاق النهر ملاحيًا والسماح لسفن أخرى بالمرور، وهو ما نتج عنه جنوح السفينة وعدم قدرتها على الحركة، يبدو الأمر مألوفا، أليس كذلك؟

تم تفريغ وقود السفينة لتخفيفها ورفعها عن الأرض، مع استخدام 12 قاطرة لدفعها، ولكن باءت كل المحاولات بالفشل، وكان المخرج الوحيد هو انتظار الجزر، وأخيرًا عامت السفينة بعد أسبوع من المحاولات. المثير للاهتمام إن شركة Smit الهولندية المسؤولة عن إنقاذ سفينة إيفر جيفن كانت نفسها الشركة المسؤولة عن إنقاذ سفينة إنديان أوشن.

 كل ما فكرنا به أثناء مأساة Ever Given تم التفكير به وقتها، السفينة لا تستجيب للمحاولات مما يجعل الحل الوحيد هو تخفيف حمولة الحاويات، وهو أمر في غاية الصعوبة مع حجم السفينة العملاق، تم الاتفاق على تأجير أوناش عائمة من روتردام لهذه المهمة وتم تأخير هذا الحل قدر المستطاع لأنه كان الأصعب.

ألمانيا أعلنت تعميق المجرى الملاحى للإلب لتجنب تكرار الحادث مرة أخرى، وعادت الأمور لسابقها مع بعض التساؤلات عن خطورة تعاظم أحجام وأطوال السفن بهذا الشكل، وقدرة البنية التحتية على المتابعة في السباق اللامنتهى نحو العملقة، تساءل البعض "ماذا لو حدث مثل هذا الحادث على مدخل ميناء أو قناة ملاحية وتوقفت الملاحة طويلًا"؟ خصوصًا ونحن لا نملك حلولا سهلة لمثل هذا الموقف مع تلك الأحجام؟" ولكن التساؤلات ظلت دون إجابة أو نقاش حقيقى للمهتمين بالنقل البحرى والحكومات والمنظمات الدولية حتى حدث ما كان متوقعا وتوقف العالم كله منتظرًا ومُنظرًا على قناة السويس بشأن ما يجب وما لا يجب فعله لحل أزمة توقف الشريان المهم للتجارة الدولية.

أين كان الجميع عندما حدث الحادث السابق في هامبورج؟ ولماذا يُحمل البعض قناة السويس نتيجة جشع ملاك السفن وسعيهم نحو العملقة؟ نحن بحاجة للنظر لما وراء المتسبب الرئيس في الحادث، سواء كانت الظروف الجوية أو الأعطال الميكانيكية للسفينة أو حتى الأخطاء البشرية سببًا في جنوحها، فإن المتسبب الرئيس المسكوت عنه، هو إلى أين نتجه مع تعملق السفن؟ وماذا لو وقع ذلك الحادث مرة أخرى؟ لابد من وجود حل يضمن للجميع سلامة النقل البحري واستمرار سلاسل الإمداد العالمية بدون توقف.


  •  مصادر

https://www.marineinsight.com/know-more/top-10-worlds-largest-container-ships-in-2019/

https://transportgeography.org/contents/chapter1/the-setting-of-global-transportation-systems/idealx-first-containeriship-1956/

https://economictimes.indiatimes.com/small-biz/trade/exports/insights/giant-next-gen-container-ships-will-make-ever-given-look-like-toy/articleshow/81753663.cms

http://haralambides-mel.blogspot.com/2018/10/chasing-holy-grail-of-economies-of.html#:~:text=Economies%20of%20Scale%20(EoS)%20refer,manning%20costs%20and%20fuel%20costs.

https://transportgeography.org/contents/chapter5/intermodal-transportation-containerization/container-ship-scale-economies-diseconomies/