رسم هشام عبد الحميد - المنصة

يوميات 19 شهرًا من الحبس الاحتياطي| كورونا.. الثقب الأسود (12)

منشور الثلاثاء 14 سبتمبر 2021

انتابتني حالة من الغضب العارم حين علمت بتجديد حبسي لمدة 45 يومًا بعد ظهر يوم 20 فبراير/ شباط 2020. لسبب لا أتذكره، تأخرت في الخروج للتريض ذلك اليوم، بعد أن توقع الزملاء، وشعوري الخفي بالتمني، أن تقضي غرفة المشورة في جلستها الأولى بإخلاء سبيلي. 

كنا في فصل الشتاء والسماء تملؤها سحب داكنة تقترب من الأرض. كان الجو النمطي لتلقي أخبار سيئة كما في أفلام السينما. قمت بدورات المشي المعتادة في ساحة التريض. جاءني "المسير" الذي كان ينتمي هذه المرة لجماعة الإخوان المسلمين ويقضي حكما بالسجن 15 سنةً ليقول لي بصوت هادئ ممسكًا بكتفي "عايزك تاخد نفس عميق، وتقوي إيمانك. القرار 45 يوم".

هل بكيت؟ نعم. تساقطت عدة دموع من عيني، ولكن قمت بتجفيفها جيدا قبل رجوعي للزنزانة لكي أخطر رفاق الحبس بالخبر، وأن الحال زي بعضه وكله 45 يوم حبس إضافي. 

كنت أفتقد أبي كثيرًا وأشعر بالذنب أنني لست بجواره في سنه المتقدم، خاصة بعد أن أطلعني طبيب الأورام قبل دخول السجن بشهر أن سرطان البروستاتا الذي أصابه بدأ في الانتقال لمناطق أخرى، مما يعني أن حياته قد لا تمتد لأكثر من سنة إلا بعدة أشهر. وكنت أفتقد حريتي وعملي في الجريدة والجامعة والحزب، وأكره حياتي داخل السجن داخل الزنزانة الصغيرة المغلقة.

انتابني يقين بأني سأظل في السجن لفترة طويلة، فقررت أن أحلق شعري على الزيرو بالمكنة. الغالبية العظمى من الزملاء المحبوسين احتياطيًا على ذمة قضايا سياسية مثلي كانوا يحلقون لهم رؤوسهم زيرو بالمكنة فور وصولهم السجن ولكننا فلتنا. ربما رغبة في عدم الإفراط في إهانتنا، جنبنا الأمن الوطني ذلك الإجراء يوم وصولنا ليمان طرة أنا والدكاترة حسن نافعة وحازم حسني.

ترسخ لديَّ شعور أن مظهري ليس له أهمية، وأنه طالما سأقضي عدة شهور في السجن، فلماذا احتفظ بشعري؟ أنا أصلًا لا يمكنني مشاهدة وجهي في المرآة. الزجاج مادة ممنوعة تماما في السجن خشية استخدامه في المشاجرات. والحصول على كوب من الزجاج لشرب القهوة أو الشاي، أو حتى قطعة صغيرة من مرآة عن طريق التهريب من أحد الجنائيين يعتبر من المميزات الكبرى التي لم أحظى بها. 

طلبت الحلاق. كان يعاملني باحترام ويقدم لي عناية خاصة عند حلاقة شعري في المرات السابقة. هذه المرة رفض طلبي متسائلا "ليه يا أستاذ خالد؟ طب خليه نمرة 2 أو 3". أصريت أن يحلق شعري تمامًا "زيرو".

أصيبت شقيقتي منال بالصدمة وأصفر وجهها حين رأتني حليق الرأس للمرة الأولى في حياتي. كانت أول زيارة أتلقاها بعد صدور قرار حبسي 45 يومًا. ظنت أنني تعرضت لعقوبة تأديبية داخل السجن. 

ولكنني كنت ما زلت غاضبًا جدًا. وتعمدت، في وجود ضابط الأمن الوطني الذي يقوم بتسجيل كل ما أقوله في الزيارة، قول كلامٍ متشددٍ جدًا ومهينٍ بحق نقابة الصحفيين والنقيب الحالي، خاصة وأنه قبل شهر واحد من صدور قرار حبسي لمدة 45 يومًا كان النقيب متواجدًا على بعد عشرات الأمتار من العنبر الذي أقيم فيه أنا وصحفيين آخرين، وبصحبته مجموعة من الصحفيين الأجانب يؤكد لهم أن ظروف الاحتجاز في مصر آدمية ومطابقة للمعايير الدولية. كان وقتها يرتدي قبعة رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، ربما نسي قبعة نقيب الصحفيين في ذلك اليوم، فلم يطلب لقاء زملائه المحبوسين على بعد خطوات. 

المأساة هي أننا لم نشكُ يوما من ظروف الحبس، مهما بلغت درجة سوئها أو عدم آدميتها. ولكن السؤال الملح كان لماذا تم حبسنا في الأساس، وهل يستحق التعبير عن الرأي بشكل سلمي احتجازنا في الزنازين كل تلك الشهور؟

اضطر الضابط المعني لمقاطعتي أثناء حديثي مع أشقائي بالقول "مش كده يا أستاذ خالد" وذلك عندما دخلت في مرحلة السباب الذي شمل كثيرين. وكان ردي أن هذا هو ما أشعر به وأنني لم أطلب منه حضور اللقاء، وأن كل ما هو مطلوب منه أن يسجل ما أقوله في الزيارة وليس أن يحدد لي ما أقوله. 

طلبت شقيقتي من الضابط بلهجة اعتذارية أن يقدر غضبي بعد تمديد حبسي. قاطعتها وطلبت منها ألا توجه له أي كلام، لأنني سأقول ما أرغب به في كل الأحوال. 

كانت أسوأ زيارة على الإطلاق طوال فترة سجني، وعدت إلى زنزانتي نادمًا أنني تسببت في إصابة أشقائي بهمٍّ وغمٍّ كبيرين بعد أن رأوني في أسوأ أحوالي.

قررت بعد تلك الزيارة العصيبة في أواخر فبراير أن أكون مرحًا وطبيعيًا مع أشقائي في الزيارات التالية، وأن أظهر لهم أنني قبلت بقضاء الله وقدره واعتدت على حياة السجن. لم أكن أعرف أن الزيارات التالية إلى زوال.

 

عندما أيقنت أني باق في السجن لفترة طويلة، قررت حلق شعري على الزيرو بالمكنة. أنا أصلًا لا يمكنني مشاهدة وجهي في المرآة فلماذا احتفظ بشعري؟

قبل قرار تمديد حبسنا بشهر أو أكثر قليلا، كانت بدأت تتسرب لنا على مهل أخبار عن فيروس جديد اسمه "كورونا". قرب نهاية العام 2019، سمعت في الراديو خبرا عابرا عن اكتشاف فيروس كورونا في الصين، وكيف أنه فيروس قاتل يخشى العلماء من انتشاره بسهولة في العالم. كنت مشغولًا بشكل أكبر في تلك الفترة بموجة جديدة من الربيع العربي اجتاحت لبنان والعراق والجزائر، واقتصرت كل معلوماتي عن الفيروس الجديد على ما أسمعه في إذاعة بي بي سي. 

أما الإذاعات الرسمية، وربما حتى بداية شهر مارس، كانت تتمسك كالمعتاد بالتأكيد على أن فيروس كورونا لم يصل مصر، وأن مصر في أمان، كما أن المصريين دائمًا بخير في كل الدول التي تضربها الزلازل والبراكين بعد ساعات فقط من وقوعها وفقا للإعلام الرسمي، مع إصرار شديد من وزير التعليم على استكمال العام الدراسي.

ولكن الوضع تغير تماما مع بداية شهر مارس/ آذار من العام 2020، وبدأت استمع في برنامج وائل الإبراشي من جهاز تلفزيون في الزنزانة المقابلة كيف أنه تم اكتشاف حالة إصابة بالفيروس في أحد المدارس، وكذلك اكتشاف حالات إيجابية لسائحين أجانب وعاملين مصريين على متن إحدى البواخر السياحية في الأقصر. وبدأت تنتشر شائعات داخل السجن بأن الزيارات قد تُمنع بسبب الخوف من انتشار العدوى. 

كانت الزيارات هي المصدر الوحيد لسعادتي في الشهور الأولى من السجن. وبجانب الاطمئنان على أوضاع الأسرة وكل ما يجري في الخارج، قلَّ أو كثر، كان مجرد الخروج من الزنزانة لساعة إضافية أو أقل، بجانب التريض اليومي، يكسران الروتين المعتاد. كنا جميعًا ننتظر يوم الزيارة بكل ما يسبقه من استعدادات، سواء بتجهيز ما سنقوم بتسليمه لأسرنا أو انتظارا لما سيأتون لنا به من الخارج، وخاصة الكتب.

في أحد كتب التصوف التي قرأتها، أعجبتني أبيات منسوبة للإمام الشافعي فكتبتها على حائط الزنزانة بخط اليد "دع الأيام تفعل ما تشاء، وطب نفسًا إذا حكم القضاء. ولا تجزع لحادثة الليالي، فما لحوادث الدنيا بقاء". لم أكن أعرف ما يخبئه لي القدر، وأن الزيارة التي رأيت فيها شقيقتي منال في الثامن من مارس 2020 ستكون آخر مرة أراها للأبد.

في العاشر من مارس 2020 استمعنا بحزن وصدمة كبيرين لبيان صادر من وزارة الداخلية يعلن منع الزيارات للسجون في إطار الإجراءات الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا على أن يتم مراجعة تمديد القرار بعد شهر. 

بعد ذلك القرار بعدة أيام، صدر قرار آخر بمنع التردد على المحاكم وتأجيل الجلسات. دخلنا في مرحلة الثقب الأسود الكبير، وانقطعت صلتنا تماما بالعالم الخارجي. فمن دون زيارات أو جلسات تجديد، لن يمكننا معرفة أي شيء عما يجري خارج أسوار السجن. 

 

انقطعت علاقتي بالعالم تماما. شعرت أني أسقط في ثقب أسود ومع أنه يحق لي الشكوى وإجراء مكالمات هاتفية وفقا للائحة السجون إلا أني لم أجد سوى صناديق خشبية مفتوحة أكلها السوس لم يقم أي سجين بوضع شكوى داخلها.

ارتبكت حساباتنا وترتيباتنا جميعًا. كيف سنتواصل مع أسرنا في الخارج؟ هل سيسمحون بإدخال أطعمة من خارج السجن، أم سيمنعونها كذلك؟ هل ستنعقد جلسات للتجديد داخل السجن، كما كان يحدث مع وكلاء النيابة عند التجديد 15 يوما، أم سيكتفون بالتجديد على الورق من دون حضور المتهمين؟ هل سيسمحون للمحامين بزيارتنا؟ 

لائحة السجن تنص على أنه من حق السجين إجراء مكالمات هاتفية، وأعلنت الداخلية قبل سنوات أنها ستركِّب كبائن للهواتف داخل السجن. ولكن هذا الإجراء لم ينفذ إلى اليوم، كانت هناك فقط صناديق خشبية أكلها السوس مكتوب عليها "صندوق الشكاوى". كانت هذه الصناديق مفتوحة ومتهالكة، ولم يقم أي سجين بوضع أي شكوى بداخلها.

كان الحدث الأكثر إثارة قبل أن ندخل في مرحلة السبات العظيم هو خروج الدكتور حسن نافعة من السجن يوم الخميس 20 مارس 2020، ومعه مجموعة من السجناء السياسين الآخرين من ضمنهم الأستاذ عبد العزيز الحسيني نائب رئيس حزب الكرامة، والذي تم القبض عليه قبلي بيومين فقط، وكذلك الصديق شادي الغزالي حرب وحازم عبد العظيم واللذان كان مضى على سجنهما سنتان تقريبًا. 

كنت مستلقيًا على سريري أتأمل السقف وأستمع للراديو عندما حانت نشرة أخبار الخامسة بعد الظهر. استغرق الأمر عدة ثوانٍ لكي أصدق ما تسمعه أذناي عبر السماعات التي أتى لي بها شقيقي في آخر زيارة: قرر النائب العام إخلاء سبيل 15 من المحبوسين احتياطيا من ضمنهم نافعة وحرب وعبد العظيم والحسيني و11 آخرين. 

قلت سريعا للدكتور نافعة أن النائب العام قرر إخلاء سبيله. قام الرجل منتفضا من على سريره ينظر حوله ويقول "مين اللي بيقول؟ فين؟" قلت له ما سمعته وطمأنته بأن هناك إذاعات أخرى ستذيع نشرة أخبار بعد نصف ساعة فقط.

بعد أن تأكد الدكتور نافعة من الخبر في نشرة الخامسة والنصف، سادت حالة من التخبط الشديد بيننا لمعرفة من هم الـ 11 الآخرين الذين قرر النائب العام إخلاء سبيلهم؟ هل سنكون من بينهم؟ 

صيحات التهنئة انهالت على زنزانتنا من الزنازين المجاورة، واعتقد البعض خطأ أن الدكتور حازم حسني سيتم الافراج عنه كذلك، عندما سمعوا اسم الدكتور حازم عبد العظيم. 

شخصيًا، كانت لدي قناعة أنني والدكتور حازم حسني لم نكن من ضمن قائمة المفرج عنهم لأن أسماءنا لم تذكر في البيان الرسمي. استمعنا لكل نشرات الأخبار التي تلت نشرة الخامسة على كافة القنوات، بما في ذلك بي بي سي في الثامنة مساءً، ولاحقًا نشرة الأخبار الرسمية في القناة الأولى في التاسعة مساءً. نفس نص الخبر ونفس البيان: الأسماء الأربعة و11 آخرين.

قضيت ليلة صعبة جدًا لم أنم خلالها ولو لدقائق. نعم كان الأمل ضئيلًا جدًا داخلي، ولكنَّ السجين يتعلق بالأمل ولو بنسبة 1 في المائة. صباح الجمعة وفور أن جاء الشاويش السجان بصحبة السجناء المسؤولين عن توزيع "العيش"، ترجيته أن يبذل كل جهد ممكن لكي يحصل على نسخة الجريدة الصادرة صباح الجمعة لكي نعرف أسماء كل الخمسة عشر الذين تقرر إخلاء سبيلهم بقرار النائب العام. 

وعدنا الشاويش بفعل ما في وسعه. ولكن انتظارنا لم يطُل كثيرًا. أتانا المسير المسؤول عن السجناء السياسيين ليطلب من الدكتور حسن فقط الاستعداد للخروج. أما نحن فكانت نصيحته أن ندعو الله أن يكون الفرج قريبًا، وأنه سمع أنه قد تكون هناك إفراجات أخرى قريبًا مع الخشية من انتشار الكورونا داخل السجون. 

ولكن فرج الله لم يكن اقترب بعد.


الحلقة 1: زي ما انت

الحلقة 2: احكيلنا عن نفسك

الحلقة 3: أجواء ما قبل الحبس

الحلقة 4: سريرك سقف الحمام

الحلقة 5:  أنت في الإيراد  الحلقة 6: عد على صوابعك 150 يوم الحلقة 7: مش هترجعونا السجن بقى؟

الحلقة 8: عندك مطلب غير إخلاء السبيل؟

الحلقة 9: القادمون الجدد الحلقة 10: لو كان الوقت رجلًا الحلقة 11: لعبة الأمل

الحلقة 13: كورونا؟ خليها على الله

الحلقة 14: وإنا على فراقك لمحزونون

الحلقة 15: مع الله والقرآن

الحلقة 16: خطابات السجن وخناقاته

الحلقة 17: الموت عرقًا

الحلقة 18: الدفس والتدوير وصلاح عبد الصبور

الحلقة 19: إقامة قصيرة

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.