رسم: هشام عبد الحميد - المنصة

درب حلب ومشيته| وعيٌ فيه شيءٌ من صباح

منشور الخميس 11 نوفمبر 2021

 

حلب - شتاء 2013

ندخل المدينة في الواحدة صباحًا بعد رحلة استمرت ثلاث عشرة ساعة. الظلام يبتلعُ كلّ شيء على جانبي الطريق الذي تنيره أضواء سيارتنا. يطلق أبو عمر تنهيدة طويلة، يناولني سيجارة من دون أن ينظر إليّ، ويقول "والله وصلنا بالآخر، الحمد لله ع السلامة، خدلك وحدة حمرا". أتناول السيجارة وطنية الصنع، وأقول ضاحكًا "إي والله وصلنا، الحمد لله ع السلامة، ويعطيك العافية يا أبو عمر".

كانت تلك واحدة من أشدّ رحلاتي إرهاقًا وخطرًا على طريق دمشق – حلب. 360 كيلومترًا فقط هي المسافة نظريًّا بين المدينتين، غير أن للحرب "حكم القوي" دائمًا، على المسافات، والجغرافيات، والبشر طبعًا. عرفتُ بعدها رحلات أخرى أخطر، استهلكَت أوقاتًا أطول، لكن الاعتياد كفيلٌ بتخفيف الأهوال، وبحجز مكان خاص في الذاكرة لتلك الرحلة. يسألني أبو عمر، السائق المغامر "أكيد تعبان، ع البيت فورًا؟ أو بتشرب لك دمعة قهوة ع السريع؟". "وين بدك تلاقي قهوة هلأ"؟ أرد بسؤال، فيقول ضاحكًا "لَه يا أستاذ. اللي بيسمعك بقول إنك غريب عن حلب". أقول مقرًّا بخطئي "غلبتني".

في حلب ستجد دائمًا وتحت أي ظرفٍ عربةً أو كشكًا لبيع الإسبريسو، وغالبًا ما تكون مُتقنة الصنع، لذيذة الطعم، معدّة بمزاجٍ عالٍ، كما كل شيء يرتبط بـ"السلطنة" في هذه المدينة.

يلوح ضوء خافت من الكشك المنشود، تتوقف سيارتنا قربه، وقبل أن نترجّل يتناهى إلينا صوت صباح فخري ينبعث منه.

"دمعة القهوة ع السريع" تحولت إلى فناجين، ولم يوصلني أبو عمر إلى بيت أهلي إلا بعد ثلاث ساعات، صار خلالها أبو فراس، صاحب الكشك صديقًا جديدًا لنا. أثناء الحديث الذي تشعّب وقتها من أخبار الموت وأحوال حلب إلى استحضار السنين الخوالي قاطعني أبو فراس إثر جملة قلتُها، وتساءل "ليش شْقَد (كم) عمرك أستاذ؟ شْقَد صرلك (منذ متى) بتسمع صباح فخري؟".

أفكر اليوم، بعد كل هذه السنين، بجواب لذلك السؤال، فأفشل. يبدو التقاط رأس خيط العلاقة بيني وبين صوت "الأستاذ صباح" مهمة مستحيلة، شأني شأن معظم أبناء حلب كما أظن. الأمر ببساطة أنّ وعي واحدنا يتفتح وفي روحه شيء من صباح.

 

حلب - صيف 1988

منذ وعيتُ، تعرفت في بيت جدي في حي الكلّاسة على شكل النوطة الموسيقية. ورغم أن العائلة مُحافظة، وطابع التديّن حاضر في معظم التفاصيل، كان في إحدى غرف البيت عود توارثه أعمامٌ ثلاثة، لهوايةٍ لا لاحتراف، وكتابٌ دوُنت فيه كلمات أغنيات لصباح فخري، مع نوطتها الموسيقية.

في العام 1988، صرت في الثامنة. قررت عندها أسرتي أن الوقت حان لأبدأ في تعلم "صنعةٍ" ما، جريًا على عادة معظم أهل مدينتي. يحدث هذا الأمر أيضًا ببساطة روتينية في حلب، هناك ثلاثة أشهر تفصل بين العامين الدراسيين، والعطلة الصيفية طويلة على إنفاقها في اللعب فقط. لا صلة للوضع الاقتصادي لأسرتك بهذه القرارات، فسواء كنتَ ابن عائلة ميسورة، أو مستورة، عليك أن تعتاد حبّ العمل. وسواء أكملتَ طريقك الدراسي لاحقًا أم لم تكمل، ستكون في يدك صنعة.

في السنوات الأخيرة تغيرت الأحوال والظروف والدوافع، وصار مألوفًا أن يعمل أطفال حلب لأن أسرهم في حاجة ما يسد الرمق.

قُضي الأمر، وبدلًا من أن تكون وجهتي مصنع العائلة في حي الكلاسة، قرّر والداي أن الأفضل لي تعلم صنعة أخرى فـ "المعمل موجود على طول".

كانت الوجهة المُختارة ورشة خياطة رفقة أحد أخوالي في حي باب المقام، المسمّى هكذا نسبةً إلى واحد من أبواب حلب التاريخية تهدّم نحو نصفه خلال الحرب، وعلى على مقربة من ذلك الباب يقع حي القصيلة، مسقط رأس صباح فخري.

 

حلب، باب المقام، مشهد عام للباب من الجنوب. التقطت الصورة بين عامي 1924 و1939 خلال الانتداب الفرنسي.

تقع الورشة في خانٍ صغير أقل روعة من الخانات المنتشرة داخل الأسواق القديمة، لكنه مع ذلك كان يثير شهية بعض السياح العابرين لالتقاط الصور، الأمر الذي كنت أراه غريبًا، فـ "ما الذي يغري سائحًا في مكان عملي؟". سأفهم لاحقًا أنّ الأبنية التي ألفتها عيوننا منذ الصغر هي في عيون أخرى "آيات في الجمال".

كانت في الخان وُرش كثيرة؛ للخياطة، وصناعة الأحذية، ودباغة الجلود، وغير ذلك، وبينها جميعًا (أو فلأقل بين معظمها توخيًّا لدقةٍ أكبر) ثمّة قاسم مشتركٌ؛ آلة كاسيت تدور طوال اليوم، تتداخل أصوات المسجّلات بأصوات المكنات، بضجيج الشارع الذي لا يهدأ، وأصوات الحمّالين وهم ينقلون بضائع من هذه الورشة، وموادّ إلى تلك.

كان "البث الصباحي" مخصّصًا دائمًا لأشرطة ترتيل القرآن، وللمنافسات الدائمة بين عشّاق عبد الباسط عبد الصمد، ومحمود خليل الحصري، ومحمد صديق المنشاوي. لم أكن أعرف وقتها أنهم جميعًا مصريون، وهذا عائد إلى "توخي الحذر". كانت حلب إحدى المدن التي دفعت ثمنًا دمويًّا لما عُرف بـ "أحداث الثمانينيات"، ولاتقاء "تهمة" الانتماء أو التعاطف مع الإخوان، فالخيار الأسلم اختيار أشرطة كاسيت لمرتلين يفتتح التلفزيون السوري بثّه بقراءاتهم.

أما في الظهيرة، فسيندر أن تسمع أي غناء ينبعثُ من إحدى ورش الخان بغير صوت صباح فخري، باستثناء بعض المصادفات التي قد تجعل ورشة ما تشغّل المذياع بدل آلة الكاسيت.


حلب – صيف 1990

بعد ثلاث عُطل صيفية من العمل في الورشة ذاتها، صار مقبولًا لدى أهلي أن أتنقل بين البيت والورشة وحدي، خاصة أنني دخلت الحادية عشرة من عمري.

في الخامسة أو السادسة مساءً يحين موعد الانصراف من العمل، وللعودة طريقتان: إما باستخدام باص النقل العام، أو سيرًا عبر حواري وزقاقات المدينة القديمة، وهذا الخيار الذي كان غالبًا ما ينتصر.

لا حدود فاصلة بين دور السكن، والخانات التجارية، وورش الخياطة في بعض أحياء حلب القديمة، (مثل جنينة الفريق، سرايا إسماعيل باشا، المَحمَص). ستشاهد مجموعة أطفال يلعبون أمام بيتهم فيما يتعاون حمّالون على نقل خيوط وأقمشة.

كلما اقتربت من "الوسط التجاري" للمدينة القديمة انخفض عدد دور السكن. قد تشم روائح صابون الغار منبعثةً من مصبنة ما، بحسب اتجاه سيرك، وتختلط بروائح شواء اللحم، وقلي الفلافل، والعجة، والكبّة. تنبعث كل رائحة من اتجاه، فالتخصص ضروري، وبائع الفلافل لا يبيع العجة، والعكس لا يحصل. كل تلك الأصناف تُباع في مطاعم صغيرة، أو حتى على عربات خشبية، ويمكن أن يكون غداء التاجر الكبير، والمحاسب، والحمّال عند واحدة من تلك العربات.

ووفاء لـ "التخصص" المعتاد، ستجد سوقًا مخصصةً للحبال، وأخرى للذهب والمجوهرات، وأسواقًا للأقمشة، وأخرى للستائر، والكلف، والخيوط.. إلخ إلخ.. ودائمًا سيكون في الخلفية طربٌ ينبعث من "مْسَجْلِة" أو مذياع في مكانٍ ما بصوت واحد من المعلمين الكبار، أو المطربين الجدد، وفي بعض الأحيان من فم بائع جوّال، أو رجل كفيف يردد المدائح النبوية ويسير متوكئًا على يد طفل. أما إذا أكملت السير نحو الجامع الأموي، فستجد نفسك على موعد مع "عميان الجامع الكبير" في صحن الجامع.

عدد كبير من مكفوفي البصر، لكلٍّ منهم صوته العذب، وأسلوبه في إنشاء المدائح النبوية، والموالِد، وترتيل القرآن. يجلسون متباعدين، يستند واحدهم إلى أحد أعمدة المسجد، ويجلس أرضًا، أو على كرسي خشبي صغير. تقترب سيدة، أو طفل، وأحيانًا رجلٌ، من واحدهم ويضع في كفه قطعة نقدية ويهمس في أذنه "اقرأ لي مولد على روح فلان" أو "اقرأ لي سورة يس على نيّة كذا"، تتداخل الأصوات، ولا تتأثر العذوبة، ولا يغيب الشجن.

ستعرف شجنًا مشابهًا في الكنائس حتمًا، فالسلطنة عقيدة مشتركة أبدًا.

كل ذلك "كان".. بكل ما يحمله هذا الفعل الناقص من حسرات، وكانت تلك مجرد مشاهد تتكرر في أي يوم حلبي عادي. يوميات لمدينة فريدة، كوزموبوليتية، متكاملة البهاء، أنجبت روّادًا، وأعلامًا في كل مجال، ولمعت فيها أساطين في الفن والطرب، وعلى مثل هذه الأساسات كبُر صباح فخري مقامًا، مقامًا، إلى أن عزّ مقامًا.


حلب 1997 - 2004

منذ العام 1997 صارت "صالة معاوية للمسرح المدرسي" في حي الجميلية وجهةً دائمة لي. بروفات وعروض مسرحيّة، مهرجانات، حفلات موسيقية، مسابقات لرقص السماح، وأنشطة أخرى كثيرة، أشارك في بعض ما يخص المسرح، وأتابع ما تبقّى منها بشغف.

ستكر السنون بعدها، وأصير من رواد "نادي شباب العروبة للآداب والفنون"، أحد أعرق النوادي الفنيّة في حلب. ستربطني صداقات بعدد من أهم موسيقيي المدينة ومطربيها لا سيما بشار الحسن، وخالد ترمانيني، وصفوان العابد، وحمام خيري. وبفضلهم ستجمعني جلسات بكثير من الموسيقيين والمطربين والمؤدين الشباب.

ستكون سيرة صباح فخري، أبو محمد، حاضرة طبعًا في مرات كثيرة، فلكثير منهم قصص وحكايات معه، في الحل والترحال، في الحفلات، والأسفار. قد يختلفون على كثير من التفاصيل، قد تسمع القصة ذاتها على ألسن كثيرة، وتلاحظ تباينًا في الروايات، لكن الثابت دائمًا أنّ عمل واحدهم مع صباح فخري كان بمثابة شهادة كفاءة مصدّق عليها من "شيخ الكار".


دمشق - شتاء 2013

  • ألو، معلم أبو عمر كيفك، أنا اسمي صهيب، أخدت رقمك من محسن، بدي تكسي على حلب.
  • تكرم عيونك أستاذ، بتدخن؟
  • إي.
  • بتسمع طرب؟
  • أنا اللي بسمع.
  • عظيم، لأنو طريقنا طويل كتير يا خاي، هيك طمنتني، رح نعرف نتفاهم.

دمشق – 2 تشرين الثاني 2021

توفي صباح أبو قوس، الشهير باسم صباح فخري، وبعد يومين سار على طريق دمشق - حلب للمرة الأخيرة.


للعودة إلى الصفحة الرئيسية للملف.