سالباتييرا.. الحياة على لفافات الصمت

منشور الاثنين 17 يوليو 2017

 

يومًا بعد يوم، ولمدة ستين سنة، يواصل الرسام  سالباتييرا ممارسة أقصى طقوس الصمت ورسم حياته على لفائف من القماش في لوحة فنية هي الأكثر غرائبية في تاريخ هذا الفن الصامت، لوحه شاسعة معبرة عن حياة يكتنفها بعض الغموض والسرية، كان سالباتييرا يرفض حتى التوقيع على اللفافات، ويرفض الظهور والتحدث عن عمله. 

عن الرسام سالباتييرا تدور الرواية التي تحمل الاسم نفسه، والتي كتبها الأرجنتيني بيدرو مايرال، الذي ولد عام 1970، ويعتبر من أبرز كتاب اللغة الأسبانية المعاصرين، صدرت الرواية عن دار الكرمة (عام 2016)، من ترجمة مارك جمال. 

يروي حكاية سالباتييرا ابنه ميجيل الذي يتذكر والده الذي فقد النطق في طفولته، إثر تعرضه لحادثة كادت تودي بحياته تمامًا، ولكن القدر والعناية الإلهية أنقذاه، ومنذ تلك الحادثة عاش سالباتييرا في عزلة تامة عن أسرته، وكان السبيل الوحيد له للخروج من مأساته هو الرسم الذي أحبه منذ صغره. 

غلاف رواية

يعيش سالباتييرا حياة مطبقة بالصمت، وعلاقة أبدية مع الرسم. استعاض بريشته عن لسانه، زَهَد العالم الخارجي وانكبّ على لفافاته معبرًا عن فرحه وحزنه ومعاناته وخساراته وانكساراته في كوخه الذي أصبح بمثابة الحياة بالنسبة له. 

خلف سالباتييرا بعد موته هذا الأثر الفني العظيم الذي يحكي حياته، وهو ما دفع ابنيه ميجيل ولويس إلى السعي لاقتفاء هذا الأثر، فبدآ الرحلة من كوخ أبيهم، الذي وجدا فيه أكثر من ستين لفافة مرسومة تحكي قصته، بطول أربعة كيلومترات. يسعى ميجيل إلى ظهور عمل أبيه الفني إلى النور، فيبدأ بمخاطبة السلطات في البلاد وكذلك بعض المؤسسات العالمية ليحصل على دعم لعرض اللفافات. 

اللوحة المفقودة

من هنا تأخذ أحداث الرواية منحنى آخر أكثر درامية، ففي أثناء البحث وتجميع اللفائف، يكتشف ميجيل أن لوحة عام 1961 مفقودة، لتبدأ رحلة البحث عن هذه اللفافة "إذا ظل قسم من الأثر مفقود فإنني لن أستطيع العمل في كليته ومعرفته في تمامه، لو أعثر عليها فسوف يصبح لهذا العالم من الصور حد ما". هكذا قال ميجيل في بحثه عن اللفافة المفقودة.

أين اللفافه المفقودة؟ لماذا فُقدَت هذه اللفافه بالذات؟ هل تعمد سالباتييرا إخفاءها؟ ماذا تخفي اللفافة عن حياة سالباتييرا؟ كل هذه التساؤلات تتبادر إلى ذهن قارئ الرواية من خلال متابعته لعمليه البحث التي يقوم بها ميجيل.

يتتبع ميجيل أحد أصدقاء أبيه القدامى "خوردان"، ويتوصل إلى أن اللوحة المفقودة سرقها صديقهما الثالث "إيبانيس"، فيبدأ ميجيل رحلة البحث عن إيبانيس في مشهد سينمائي صنعه بيدرو مايرال، وصف فيها مناظر الطبيعة الخلابة ومنعرجات النهر بين الأرجنيتن والأوروجواي.

وبعد رحلة شاقة مع أخيه عبر أدغال الأوروجواي، يتوصلان إلى مكان إيبانيس، ولكنهما لا يجدانه، وإنما يجدان ابن أخته، دلّهم على مكان اللوحة، المكان الذي يبدو مثل قصر قديم مهجور، بعد ذلك شرعوا بنزع اللوحة من مكانها لتنكشف حقيقة جديدة. 

كانت اللوحة المفقودة هي السر الذي أخفاه سالباتييرا عن الجميع، فهي توثّق لخيانة الرسام الراحل لزوجته، وإقامة علاقة غرامية مع صديقته في مكتب البريد الذي عمل به، وكذلك وجدوا رسمًا آخر في الجزء الأخير من اللوحة لامرأة سوداء عارية، وكانت اللوحة تأكيدًا على نزوات سالباتييرا خلال حياته. وكانت الصدمة الكبرى هي معرفة أن سالباتييرا لديه ابن غير شرعي من المرأة السوداء والتقوه فعلًا، فهو ابن أخت إيبانيس.

تؤدي هذه الاكتشافات إلى شجار بين الأخين، اذ يتهم ميجيل أبيه بأنه صاحب نزوات في حياته، هذا الذي يرفض لويس تصديقه، وكأن الاكتشاف هدد الاعتقاد الأزلي الذي يراود كل الأبناء من أن آباءهم مخلوقات مثالية غير معرضة للخطأ والانحراف. 

يعود الأخوان إلى مخزن أبيهما فيجدانه وقد اندلعت فيه النيران، مما قضى على الأثر الفني كله، ولكن لحسن الحظ كان باحثون أخذوا صورة رقمية لتعرض لاحقًا على مسافة 30 مترًا.

يتحول العمل المادي الذي صنعه سالباتييرا إلى رماد، ولكن يتبقى منه ما أخفاه الرسام عن كل المحيطين به، وكأن بيدرو ميرال يؤكد أن ثمة طريقة لكشف أسرار النفس البشرية والوصول إلى الحقيقة في يوم ما. 

 

حياة سالباتييرا الخفية

بقراءة الرواية نعرف أن البحث ليس عن اللفافة المفقودة بقدر ما هو بحث عن الجوانب الخفية في حياة سالباتييرا. عن صمته وهل اختاره بإرادته؟ أم فرضه عليه ماتعرض له في صغره؟ بم كان يفكر حين كان يرسم كل تفاصيل حياته؟ 

الرواية تحتوي على خطين زمنيين، الأول يرصد الابن وهو صغير، يشاهد والده منعزلًا في كوخه، أما الخط الثاني فيرصد الابن كبيرًا، يتابع الإرث الفني لوالده ويبحث عن المفقود منه. يتلاقى الخطان بدون الإخلال بوحدة الرواية. 

تغلب على الرواية روح الواقعية السحرية المميزة لأدب أمريكا اللاتينية، وكانت اللغة السردية للرواية رائعة، ويضع ميرال القارئ أمام عدة تأويلات لأحداث الرواية، فهو مثلًا لم يوضح سبب حريق مرسم سالباتييرا، وهل تم بواسطة "بالدوني"، الذي أراد شراء الأرض وتحويلها إلى موقف للسيارات؟ أم أن مايرال يرمز إلى فكرة الفناء والمحو والنقص الإنساني من خلال الحريق؟ 

اعتمد بناء ميرال الأدبي بشكل بارز على اللوحة المفقودة، التي تمثل النسيان في حياة البشر، وكان كشف الجزء المفقود في حياة سالباتييرا هو نقطة التحول في الرواية، فعرفنا مغامراته ونزواته. احترقت لفافات سالباتييرا، مما يوحي بأن أعماله لم تعد ملكًا لأسرته، بل صارت ملكًا لزائري متحف "رويل" الذي يشاهدون الصورة المرقمنة من العمل وكأنها نهر يتدفق.