آلان دو بوتون

آلان دو بوتون.. فيلسوف الحياة اليومية

منشور الثلاثاء 1 أغسطس 2017

كَثيرًا ما اتُهمتْ الفَلسفة، وما يجاورها من عُلومٍ إنسانية وبعض الفنون والآداب، بأنها ثرثرات لا نفع فيها، بعض أحلام شعراء هائمين وسط السُحب والنجوم، وأنها بلا وظائف عملية لها في حياتنا اليومية، لا تقدّم حلولًا لمشكلاتنا أو تسهّل عَيشنا كما يفعل العِلم والتكنولوجيا مثلًا، وغاية ما هُنالك أنها تُزّين الوَعي بالأوهام وتقتل بعض وقت الفراغ وقد تكون مورد دخل معقول لبعض أساتذة الجامعة. لكنَّ آلان دو بوتون، الكاتب ومقدّم البرامج واللقاءات التوجيهية الحَية، يثبت عكس ذلك تمامًا.

في كتابه "عزاءات الفلسفة"، يشرح دو بوتون للقارئ العادي كيف يمكن لهذا العلم الإنساني الذي يكاد يصبح من الحفريات أو مادة مثيرة للسخرية – الفلسفة - أن يقدم له حلولًا عملية لمشكلات وتساؤلات تمس وضعه الراهن في حياته اليومية، وما هي أنواع العزاء – السَلوى أو تهوين الأثقال – التي قد يوفرها له بعض كبار الفلاسفة.

لا دَهشة في أن يُلقّب دو بوتون بفيلسوف الحياة اليومية. وُلِد في سويسرا عام 1969، ويقيم في لندن ويكتب باللغة الإنجليزية. صدرَ أحدث كتبه في أبريل/نيسان 2016 بعنوان "دورة الحب"، The Course of Love، ولا شكّ أن مسألة الحب من بين الهموم الأكثر ترددًا على اهتمامات وأعمال دو بوتون، فإن كتابه الأوّل الذي كتبه وهو في الثالثة والعشرين من عمره كان بعنوان "مقالات في الحب"، Essays in Love، وهو رواية  عن شاب وفتاة يلتقيان على متن طائرة وسرعان ما يجمعهما الحب. ثمّ أصدرَ عناوين تالية عديدة، من بينها  "كيف يمكن لبروست أن يغيّر حياتك؟" و"عزاءات الفلسفة"، وقد صدرا منذ فترة في اللغة العربية، وقد اكتشفتُه من خلالهما ثم أسعدني الحظ بترجمة عمل ثالث له هو "قلق المكانة". فضلًا عن كتبه الأخرى التي لم تُترجَم بعد مثل "هندسة السعادة"، "الفن علاجًا"، "كيف تفكّر أكثر في الجنس"، "الدِين للملحدين".

 

يعمل دو بوتون في مسارين قد يظهران متناقضين تمامًا، من ناحية يعيد إنتاج واستكشاف المعرفة الإنسانية الرفيعة في تراث الفلسفة والأدب، ومن ناحية أخرى يصيغ ما خرج به من رحلاته تلك في صورة كبسولات سهلة أقرب ما يكون إلى صِيَغ كتب التنمية البشرية ومساعدة الذات. التناقض بين هذين المسارين ينبع أولًا من اعتيادنا على أن تكون نوعية تلك الكتب الموجّهة لمساعدة الناس في حل مشكلاتهم العاطفية والنفسية المباشرة تافهة وساذجة وأقرب إلى الكليشيهات المحفوظة وشعوذات علم النفس الشعبي التي لا تؤدي ولا تجيب، ومن ناحية أخرى ما يتوقعه القارئ الملمّ والمُدَرَّب من فخامة وتعقيد عند تناول موضوعات من قبيل أدب مارسيل بروست أو إشكالية المكانة السامية في المجتمع. يضرب دو بوتون ذلك النوع من التوقعات في مقتل حين يتناول مسائل جليلة وسامية، ويربطها باحتياجاتنا وأزماتنا المعاصرة والمباشرة، ويقدّم هذا كلّه في سلاسة وأسلوب كتب التنمية البشرية المعتادة والرائجة.

اقرأ أيضًا: كيف تنزل سوق الدجّالين دون أن تفقد عقلك؟

لكنّ الخطاب الذي يقدّمه دو بوتون يكاد يقفُ على الضفة الأخرى لخطاب التنمية البشرية المعتاد، من حيث المضمون الجوهري أساسًا، فهو لا يروّج لصِيَغٍ مُعلّبة من تحفيز الذات ووسائل تحقيق الأحلام، ولا يبيعُ نمطًا موحّدًا للنجاح الإنساني يمكن أن يتبعه الجميع بلا اختلاف بينهم. يقف دو بوتون إلى جانب الإبداع والفردية والخروج على الجماعة والإجماع إذا لزم الأمر حتّى يعثر الإنسان على صوته وطريقه دون ضغوط وتضليل من جانب عقائد المجتمع ومسلّماته.

على سبيل المثال، في الفصل الأوّل من كتاب "عزاءات الفلسفة"، يستعين بنموذج سقراط للإشادة بالقدرة على مُخالفة الآراء السائدة في أي عصر، بل ضرورة وأهمية ذلك في بعض الأحيان. يدعو دو بوتون من خلال هذا النموذج إلى عَدم الانصياع لقوة الجماعة والعقائد المهيمنة على مجتمعٍ ما في لحظةٍ ما، والاحتكام بدلًا من ذلك إلى صوت العقل والضمير، حتّى يبني المرء معتقدات فردية خاصة، دون أن يخشى الاصطدام بجدران المؤسسات والثوابت. غير أنه لا يذهب إلى حد التطرّف في دعوته هذه، فينبغي ألّا يتحول الميل لمعارضة الآراء السائدة إلى هَوس مستحوذ، فيقول: "يُرينا الفيلسوف [سقراط] طريقَ النجاة مِن وهمين شديدين: أن ننصت دومًا، أو أن لا ننصت أبدًا، إلى إملاءات الرأي السائد. ولكي نحذو حذوه، سنفوز حتمًا لو سَعينا – بدلًا من هذا – إلى الإنصات دومًا إلى إملاءات العقل".

لا تكن عجولًا

لا يقدّم دو بوتون وسائل وحِيل عَملية واضحة وملموسة لتجاوز عقبات ومطبات الحياة، بقدر ما يرسم خارطة طريق، يشير إلى التوجّه العام، ويضع معضلات حياتنا المعاصرة في سياقها الإنساني الأشمل، ويرصد تطوّرها عبر أزمنة وأماكن متباينة، ما يرسم أمام القارئ صورة أوضح وأدق للمفهوم-المُعضلة التي يتم تناولها، ويعينه على إبداع نظرته الخاصة بناء على هذا الإلمام.

إنه هُنا لا يتبع سبيل بعض الكتابات الحديثة التي تعيد تدوير العقائد والفلسفات العتيقة، لتصيغها من جديد بأسلوب وطريقة تنزع عنها عمقها وطرافتها وتنتزعها من سياقها الفكري الأشمل. فبقدر ما يعتمد – في أغلب كتاباته – على التراث الفكري والفلسفي للإنسانية، يضفي عليه نظرته الخاصة التي تربطه بمعضلات الحاضر دون أن يضيع - ونضيع معه - في سراديب الماضي مفتونًا أو ناقمًا. وفي كل مرة يكون مرشده الخيط الناظم للمعضلة التي يحاول تفكيكها واستكشاف نقاط ضعفها والخبرات الإنسانية التي تم إنتاجها – معرفيًا وفنيًا في الأساس – من أجل تجاوزها وعلاجها.

الغلاف الإنجليزي لكتاب

يبرز توجهه هذا، على سبيل المثال، في كتابه "قلق المكانة"، الذي يتناول جذور وأسباب قلق الناس جميعًا بصدد بلوغ مكانة مرتفعة والاحتفاظ بها، وما يكتنف هذه الرحلة عمومًا من مشاق تكاد تكون عذابًا اجتماعيًا يتخذ أشكالًا شتّى باختلاف المجتمعات والحضارات. دو بوتون هنا لا يُسلّم سَلفًا بالأهمية التي يضفيها المجتمع على تلك المكانة، ويحفر حولها ليزعزع أسسها التي قد تبدو أوّل الأمر راسخة وكأنها عمل من أعمال الطبيعة، ويرصد تحوّلاتها من عصر إلى آخر ومن منطقة إلى أخرى حتّى يتأكد تدريجيًا لدى القارئ نسبيتها وهشاشتها وربما جدارتها بالسخرية والتجاهل، ثم هو يدعو قارئه إلى تجاوز الأوهام الزائفة للمكانة الاجتماعية، عبرَ اجتهاداتٍ إنسانية مُتنوّعة في خمسة دروب أساسية (هي الفلسفة والفن والسياسة والدين والبوهيمية).

يمكننا أن نرى في كتابات دو بوتون جسرًا بين جمهور قراء الكتب الخفيفة والسهلة وبين الأعمال الأدبية الخالدة وعلامات الفكر الإنساني الكبرى. لا يمكننا أن نزعم أنه يقدّم لتلك الأعمال تحليلًا وافيًا أو أكاديميًا رفيع المستوى، وهو نفسه لا يدّعي ذلك ولا يسعى إليه، بقدر ما ينبش في تلك الصفحات الضائعة بين تجاهل الجمهور وبين غموض النخبة، ويستخرج منها ما لا يمكن أن يتوقعه هذان الطرفان على السواء، ودائمًا ما تتمتع اكتشافاته تلك بالطرافة والأصالة، والأهم أنها غالبًا ما تكون ذات نفع عملي واضح.

ولعلّنا بحاجة عمومًا إلى تكرار واستنساخ لمجهود دو بوتون في سياقات أخري، أي إلى جسورٍ أخرى تربط المتون والأصول بالهوامش والفروع، همزات وصل بين القارئ العادي وصاحب التخصص، بين جلال المنقولات التراثية وخفة وارتباك الراهن.

في كتابه الظريف عن الروائي الفرنسي مارسيل بروست والمعروف بصعوبة وتعقيد عالمه، وعنوانه "كيف يمكن لبروست أن يغيّر حياتك؟"، يفتح أعين القراء – سواء ممن لا يعرفون شيئًا عن بروست أو من كهنته المخلصين – على سبعة دروس إنسانية طريفة ومهمة، استقاها من أعمال وأقوال وسيرة حياة بروست. يدعونا في واحد من تلك الفصول بعنوان "كيف تأخذ وقتك؟" إلى الانتباه لقيمة التمهل والتريث واستكشاف لذّات البطء في مقابل هَوس السرعة اللاهثة الذي يصيبنا جميعًا بجنون الاستعجال واللهفة ونفاد الصبر. ومن خلال بروست وشغفه بأدق التفاصيل في أحاديث الآخرين وحكاياتهم ننتبه إلى ما يكتنف هذا العالم اليومي العادي من ثراء غير معقول. "تصلح العبارة كشعار بروستي: (لا تكن عجولًا). وإحدى مزايا أن لا تكون عجولًا هي أن العالم سيمتلك فرصة ليصبح أكثر إثارة للاهتمام في هذه العملية".