تصوير طارق البحيري، المنصة
جانب من حفل تأبين صنع الله إبراهيم، نقابة الصحفيين، 11 أكتوبر 2025

وداعًا "صنصن".. ضحك وبكاء في تأبين صنع الله إبراهيم

محمد الخولي
منشور الأحد 12 تشرين الأول/أكتوبر 2025

تحولت أمسية تأبين الكاتب الراحل صنع الله إبراهيم إلى احتفالية بطلها "صنصن" حفلت بالدفء والضحك بعد إذاعة فيديوهات سجلتها عائلته معه، تروي محطات بارزة من تاريخه الشخصي والأدبي والسياسي.

واحتشد حفل تأبين صاحب ذات الذي نظمته اللجنة الثقافية بنقابة الصحفيين، مساء أمس السبت، بأصدقائه وتلاميذه ومحبيه إلى جانب أفراد عائلته. وعرضت الأسرة صورًا ومخطوطات كتبها بخط يده فضلًا عن مقتنياته الخاصة التي وثّقت بعضًا من تفاصيل مسيرته.

وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937، وفي منتصف عام 2025 تعرض لأزمة صحية إثر نزيف داخلي وكسور في الحوض وحُجز في المستشفى إلى أن توفي في 13 أغسطس/آب الماضي عن عمر يناهز 88 عامًا.

صنع الله واحد من أبرز رواد الأدب المصري وعلامة بارزة في تاريخ الرواية العربية، ومن أشهر أعماله رواية "شرف" التي تحتل المرتبة الثالثة ضمن أفضل مائة رواية عربية، و"تلك الرائحة" و"اللجنة"، و"ذات"، و"الجليد"، و"نجمة أغسطس"، و"بيروت بيروت"، و"وردة"، وغيرها من الأعمال التي تحتفظ بمكانة متميزة في الأدب العربي، ونال العديد من الجوائز المهمة مثل "جائزة ابن رشد للفكر الحر" عام 2004، و"جائزة كفافيس للأدب" عام 2017.  

جانب من حفل تأبين صنع الله إبراهيم، نقابة الصحفيين، 11 أكتوبر 2025

أدار حفل التأبين الكاتب محمد أبو الغار، واصفًا صنع الله إبراهيم بـ"الكاتب المختلف" بأسلوبه وأفكاره وجرأته في اقتحام مناطق ظلّت عصية على كثيرين، مؤكدًا أن تفرّده لم يكن في كتاباته فحسب، بل في مسيرته الإنسانية والفكرية أيضًا، لافتًا إلى أن إبراهيم قضى سنوات شبابه الأولى في السجن إيمانًا بأفكار سياسية "لكنه خرج منه أديبًا كبيرًا، وصوتًا نادرًا في الأدب العربي الحديث"، مضيفًا أنه كذلك مناضل رفض جائزة رسمية لأسباب أخلاقية، فـ"كانت كلمته يومها صرخة أيقظت المجتمع الثقافي".

في عام 2003، رفض صنع الله إبراهيم استلام جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، التي كانت تعد وقتها أهم جائزة عربية رسمية تمنح في مجال الرواية، وعرضت العائلة مساء أمس فيديو مرممًا لكلمة صنع الله أثناء رفض الجائزة، التي تضمنت الأسباب التي دفعته لاتخاذ هذا القرار.

واعتبر صنع الله في حيثيات رفضه للجائزة أن الحكومة المصرية آنذاك التي تمنح الجائزة "لا تملك مصداقية منحها" لعدة أسباب منها إبقاؤها السفير الإسرائيلي رغم الممارسات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني.

وقتها، علَّق وزير الثقافة آنذاك فاروق حسني على موقف إبراهيم، قائلًا إنه "يشحذ مجدًا يتوق له"، معربًا عن أسفه على إضاعة الكاتب لجهد لجنة التحكيم.  

ولم تتمالك ابنة زوجة صنع الله إبراهيم، نادية الجندي، الذي تعد الراحل أبًا آخر لها، دموعها، معتبرة أنه يوم صعب عليها لغياب إبراهيم "إحنا هنا عشان نتكلم عنه، من وجهة نظرنا إحنا وهو مش موجود يقول رأيه ولا حتى يتريق علينا زي عادته".

وأضافت أنها مدركة لأهميته ككاتب ألهم وأثر في حياة الكثيرين "بكتشف ده كل يوم أكتر وبشوف فعلًا إن سيرته أطول من عمره".

وتابعت أنها "فقدت أقرب صديق، صديقي الدائم من يوم ما وعيت على الدنيا. اتعلمت معاه حاجات كتير قوي (...) وطبعًا أهم الحاجات هي فهم الدنيا والناس وتقدير ظروف كل إنسان. كان دايمًا يقول لي قبل ما تزعلي من أي حد فكري في ظروفه. تخيلي هو كان شكله عامل إزاي لغاية ما يوصل لهنا. وفكري في حياته شكلها إيه. طريقة التفكير دي غيرت نظرتي للناس وتعاملي معاهم".

من جانبه، تحدث أستاذ الفيزياء النظرية عادل عوض وزوج نادية عما تعلمه من صنع الله "تقديس الوقت والجدية والميل للهدوء والبساطة في كل شيء يفعله"، لافتًا إلى أن إبراهيم ربما تعلم كل هذا في سنوات السجن "التي طالما قال عنها إنها كانت جامعته الحقيقية".

وأشار عوض إلى أن صنع الله  كان متسقًا مع أفكاره دائمًا قولًا وفعلًا، لافتًا إلى أنه كان نصيرًا للمرأة، "ولم يرفض التفكير التقليدي عن المرأة بالقول فقط بل كان فاعلًا في ذلك".

جانب من حفل تأبين صنع الله إبراهيم، نقابة الصحفيين، 11 أكتوبر 2025

انخرط صاحب تلك الرائحة في العمل السياسي في سنٍّ مبكرة أثناء دراسته في كلية الحقوق في جامعة القاهرة، حيث انضمّ إلى الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني/حدتو، وفي عام 1959، اعتقلته السلطات ضمن حملة قمع واسعة شنّها الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر ضد الشيوعيين، وقضى ما يقارب ستّ سنوات في عدة سجون، من بينها سجن القلعة، وأبو زعبل، والواحات.

في تلك الزنازين، نضج مشروع صنع الله إبراهيم الأدبي، حيث كان يقرأ بنهم أعمال فرجينيا وولف وجورج لوكاش وغيرهما، كما تفاعل مع تيارات فكرية متعدّدة، وهي التجربة التي دوّنها لاحقًا في كتابه "يوميات الواحات".

وصف صنع الله السجن بأنه "جامعته" الحقيقية، حيث ترسّخت قناعته بأن الكتابة ليست مهنة فحسب، بل "شكل من أشكال المقاومة".

وفي كلمة مسجلة، قال الروائي والمترجم نائل الطوخي إن صنع الله إبراهيم "كان يرى ما حوله بدقه شديدة وقدرة على توصيله للقارئ"، وأن الدرس الأهم الذي تعلمه منه "ليس المهارة الأدبية فقط، كونها الخطوة الأولى للكاتب، لكن الدرس الأهم بالنسبة لي هو أن الكاتب في النهاية إنسان ومتفاعل مع اللي بيحصل حواليه وعنده قناعة ومستعد لدفع ثمن في سبيل تأكيد قناعاته".

ولفت إلى أن رفضه جائزة المجلس الأعلى للثقافة 2003 كان متسقًا تمامًا مع ذاته، ولم يستغرق وقتًا طويلًا في التفكير فيما هو الأفضل له ككاتب أو "الثمن الذي يدفعه الكاتب ليس ماديًا فحسب حتى مع قيمة الجائزة المادية الكبيرة وقتها، بل هو ثمن معنوي أيضًا، يتمثل في التهميش الذي تعرض له وعدم حصوله على التقدير الذي يستحقه كأحد أهم الكتاب العرب".

من جانبه، تحدث الشاعر والناقد حمزة قناوي في كلمته عن الاستقلالية التامة التي عمل بها صاحب "اللجنة"، والاشتباك مع السياقات الاجتماعية والسياسية التي عكست التاريخ المصري الحديث وتحولات المجتمع وانتقالاته السياسية والاقتصادية.

وأكد أن صنع الله إبراهيم من خلال منجزه الأدبي كان مخلصًا لأن تكون قناعاته مُحركًا لسلوكه الإنساني ولإبداعه معًا.

وكشفت الكاتبة والروائية مي التلمساني عن أهم نصيحة تعلمتها من إبراهيم وهي تدوين يومياتها، وأكدت أنها ظلت لسنوات ترافقه في جولات مشي في شوارع مصر الجديدة تعلمت منه الكثير ليس على مستوى الكتابة فقط وإنما على المستوى الإنساني أيضًا.

ورفض الشاعر زين العابدين فؤاد وصف الأمسية بأنها تأبين صنع الله إبراهيم، وقال في كلمته مخاطبًا الراحل "أوعى تكون زعلت لما سمعت كلمة تأبين، مفيش تأبين عشانك يا صنع الله خالص، مفيش تأبين. ده احتفال".