Pixabay
باتت أغلب الشعوب العربية في حاجة إلى التفكير في جراحات سياسية واجتماعية عميقة، يمتلك فيها الناس ناصية القرار

العودة إلى المربع الأول

منشور السبت 17 يونيو 2023

بعد أكثر من سبعين سنة منذ بداية حركات الاستقلال في بلادنا عاد العرب إلى المربع الأول، وكأن تلك العقود من الزمن التي رُفعت فيها شعارات البناء والتنمية المستقلة والحرية ذهبت سدى.

قامت ثورات في بعض تلك البلاد لبلوغ ذلك المقصد، لكن القوى المضادة للثورة أكلتها، وحولت بعضها إلى فوضى عارمة، وضعت دولًا في مهب الريح، لأن المستبدين لم ينصتوا إلى صوت الشعوب، بل قاتلوها بسلاح دفعت هي ثمنه، من أجل أن يبقوا هم جالسين على كراسيهم الغارقة في التجبر والفساد والدم.

أمام ذلك، باتت أغلب الشعوب العربية في حاجة إلى التفكير في جراحات سياسية واجتماعية عميقة، يمتلك فيها الناس ناصية القرار، ويتولون زمام أنفسهم، ويسلكون الطريق المثلى التي مرت بها شعوب أخرى، فارتقت درجات متقدمة، وحسنت من شروط الحياة في بعديها العام والخاص.

وللعودة إلى المربع الأول مظاهر شتى، في مطلعها وقوع بلاد عربية في براثن الاحتلال من جديد، فالعراق الذي احتلته قوات غربية تقودها أمريكا، بات مطمعًا لإيران وتركيا. والصومال لا يزال يعاني من آثار مرحلة ما بعد انهيار الدولة المركزية، وتطمع فيه قوى إقليمية في مقدمتها إثيوبيا.

من مظاهر العودة إلى المربع الأول سقوط الشعارات الكبرى التي رفعتها حركة التحرر العربي

وعلى السودان، الذي يعاني من ويلات الحرب الآن، يضيق الخناق، حتى تنفتح ثغرة في جدار التصدي فتدخله قوات غربية، تحت لافتات حميدة وشعارات براقة في تزييف جلي للواقع، وإخفاء مقصود ومدروس للأهداف الحقيقية، بما قد يدفع شرق السودان وغربه إلى الانفصال، بعد انفصال الجنوب. وليبيا المنقسمة صارت تعاني من تدخلات خارجية لدول مثل تركيا، أو مجموعات وعصابات من المرتزقة، والتنظيمات الإرهابية.

وسوريا التي ثار شعبها ضد الاستبداد صارت الآن مشتتة ومنقسمة، بعد حرب أهلية طويلة، وتدخلات خارجية للأمريكان والروس والإيرانيين وداعش. وليس اليمن بأحسن حالًا، إذ عاد إلى الانقسام بعد الوحدة، وصار مسرحًا لصراع إقليمي، تمثله إيران وبعض دول الخليج العربي.

ولبنان ليس بمنأى عن ذلك، فطوائف وتيارات سياسية لبنانية تعطي قلبها وعقلها للخارج، وترى في شعوب وراء البحار ما هو أقرب إليها من شركاء الوطن والتراب، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة. ودول عربية كثيرة تعاني من "استعمار جديد" يلبس لبوس التبعية، والرضوخ للهيمنة الأجنبية، إما رضوخًا سياسيًا واقتصاديًا في بعض دولنا، ورضوخًا اجتماعيًا وثقافيًا في أخرى.

أما مصر، التي غرقت في الديون حتى الأذقان، فأصبح هناك من يتدخل في سياساتها من قوى إقليمية ودولية، وبات كثير من نخبتها السياسية ومثقفيها يتحدثون عن احتمال فرض وصاية على تدبير شؤونها المالية، على غرار ما حدث أيام حكم الخديوي إسماعيل.

والمظهر الثاني للعودة إلى المربع الأول هو سقوط الشعارات الكبرى التي رفعتها حركة التحرر العربي، وفشل البرامج التي تبنتها في أن تصمد أمام التغيرات الداخلية والخارجية، وتحقق ما تصبو إليه الشعوب.

فها هي ثورة يوليو المصرية، التي فتحت الباب أمام ثورات العرب وكفاحهم لنيل الاستقلال، تنتهي إلى أطلال لا تستحق سوى الرثاء. فعبد الناصر ورفاقه رفعوا شعار "حرية ـ اشتراكية ـ وحدة" كلافتة عريضة للعرب جميعًا من الخليج "الثائر" إلى المحيط "الهادر"، ورفعوا مبادئ ست لثورتهم، في مطلعها "إقامة حياة ديمقراطية سليمة".

لكن الحرية لم تتحقق، بل صودرت لحساب السلطة، فصارت فقط حرية الحكام في أن يفعلوا بشعوبهم ما يشاءوا.

والاشتراكية داسها الانفتاح الاقتصادي في زحفه نحو تدشين رأسمالية عربية مشوهة، كان يقودها رجال أعمال لم يلتفتوا كثيرًا إلى الاحتياجات الحقيقية لمجتمعاتهم، وصارت الآن بأيدي قوة جديدة، تهمين على الاقتصاد تباعًا، حتى صار أغلبه بحوزتها، وفعلها لا يحمل أي رائحة لاشتراكية إنما لرأسمالية مسلحة، تفرض سلطتها وسطوتها.

والوحدة انتهى بها المطاف إلى أن يرضى العرب بالحد الأدنى من التنسيق بينهم، ويقولون جميعا بملء أفواههم إن جامعة الدول العربية كيان هش مريض، لكن بقاءها على قيد الحياة، حتى ولو في غرفة الإنعاش، أفضل من حلها، أو فض هذا السامر العربي، الذي تغلب عليه المجاملات، أكثر مما ينحاز إلى المصالح الحقيقية.

جعلت الحكومات بلادنا قابلة للاستعمار مرة أخرى، بهشاشتها الاجتماعية وضعفها الاقتصادي واستبدادها السياسي

أما المظهر الأقسى والأكثر مرارة فهو تحول من بيدهم الأمر في بعض البلاد العربية إلى حال شبيهة بما كان عليها المستعمر الأجنبي، من حيث البون الشاسع بين من هم في سدة الحكم وبين شعوبهم، أو في النهب المنظم لقدرات وإمكانات تلك الشعوب لحساب زبائنية يقام بينها تحالف غير مقدس، تتكون في الغالب الأعم من كبار رجال الجهاز البيروقراطي، وأصحاب الحظوة من رجال الأعمال، وكبار العسكر ورجال الأمن الداخلي، ومثقفين وإعلاميين موالين للسلطة، منتفعين منها.

 ويحلو لكثير من المثقفين أن يقارنوا، على سبيل المثال لا الحصر، بين وضع السياسي المصري أحمد حسين مؤسس "مصر الفتاة" في سجن الإنجليز، ووضع أخيه عادل حسين الأمين العام السابق لحزب العمل المصري أيامها في سجن ما بعد الاستقلال. فالأول كانت زنزانته عبارة عن غرفة فسيحة الأركان، بها سرير للنوم، ومذياع، ومكتب يجلس إليه ليدبج مقالاته وآراءه، وكانت تأتيه الصحف بانتظام، وهي حال أشبه بالحجز في مستشفى فاخر وليس في سجن سياسي.

أما أخوه، الذي دخل السجن في أواخر تسعينيات القرن المنصرم، فقد سلب الحراس منه دواءه ونظارته الطبية، ورموا به في زنزانة باردة ضيقة، لا يستطيع فيها أن يمد ساقيه، وأحيانًا كانوا يسكبون فيها ماء قذر، فيجبرونه على أن يقضي الليل واقفًا على قدميه، وقت أن كان سنه قد تعدى الستين سنة بكثير. والآن ازداد الوضع سوءًا، حتى صار البعض يطالب بسجون فيها بعض اللين أو المرونة، مثلما كان قائمًا أيام مبارك.

هذه المقارنة لا تعني أبدًا الانتصار لزمن الاحتلال، فكل احتلال بغيض حتى لو أظهر أكبر قدر من المرونة والنعومة الزائفة التي لا ترمي إلا إلى إطالة عمر المستعمرين، لكن الموازنة بين هاتين الحالين تبين حجم الفجيعة التي أصابتنا من نخب ما بعد الاستقلال، التي تقدمت الصفوف بعد كفاح مرير للشعوب العربية ضد المحتلين، جرت فيها الدماء أنهارًا، وعقد عليها الناس آمالًا عريضة في أن تبني وتفتح أبواب الحرية ونوافذها عن آخرها، وتسمح للشعب، صاحب الحق الأصيل في جني ثمار الاستقلال، بأن يصنع القرارات التي تحقق مصالحه، وتتحكم في مصيره.

 غير أنها خيبت الظنون، وجعلت بلادنا قابلة للاستعمار مرة أخرى، بهشاشتها الاجتماعية وضعفها الاقتصادي واستبدادها السياسي واستمرار عوامل انقسامها وصراعها الداخلي، الذي يستغله المحتلون في الوقت الراهن استغلالًا ظاهرًا، برفعهم مبدأ "الفوضى الخلاقة"، التي ينبني في الأساس على توظيف كل الثغرات التي تثقب الجسد العربي، وتجعل منه كيانًا سياسيًا مريضًا، قابلة للغزو والاحتلال.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.