حساب الفيفا الرسمي- X
لاعبات منتخب المغرب يحتفلن بالفوز على كولومبيا

من لبؤات بريطانيا إلى لبؤات الأطلسي

منشور الجمعة 25 أغسطس 2023

كانت ابنتي في طفولتها من أشد المعجبين بكرة القدم، وأدَّعي أنها كانت تمتلك موهبة وحبًّا للعبة ربما ساعداها على الاحتراف لو كانت الظروف مواتية لتنمية مهاراتها وتوظيف شغفها.

وكانت الهدايا الأحب إلى قلبها تلك التي تحمل شعار فريقها المفضل ليفربول، وذلك قبل انضمام مو صلاح للفريق بسنوات طويلة. عندما كانت تحدثني عن آمالها في الاحتراف كنت أشعر بغصَّة، لأني أدرك أن طموحها ذلك لن يكون سهل التحقق، حتى وإن كنا نعيش آنذاك في بريطانيا. 

لدى انتقالنا للعيش في مصر، لم تكن ابنتي أتمت بعد السابعة من عمرها. التحقت بالنادي التابع لمدرستها في القاهرة، تحمل آمالها وأحلامها نفسهما إلى بلدها الأم. لكن التجربة علمتها مبكرًا أن الواقع شاطئ مليء بالصخور، ليتحطم حلمها على دكة الاحتياط في التدريبات، وتتراجع أمام التجاهل والتنمر أيضًا، ويتحول اهتمامها لأمور أخرى "تناسب الفتيات". 

لعبة غير مناسبة للسيدات/Unladylike هو التعبير الذي استخدمه اتحاد الكرة الإنجليزي لتبرير منع النساء من ممارسة اللعبة عام 1921، بعد أن بدأت للتو باكتساب شعبية واسعة في أوروبا وأمريكا الشمالية. منعٌ استمر لعقود في المملكة المتحدة حتى عام 1972، لكنه لم يحل دون مشاركة فريق مستقل يمثل إنجلترا في أول بطولة نسائية عالمية لكرة القدم في إيطاليا عام 1970، وهي البطولة التي اعتبرت بداية الاهتمام الحقيقي بالكرة النسائية.

الحرية في المشاركة في اللعبة وإقامة البطولات لم تعنِ أبدًا إزاحة العقبات من طريق الكرة النسائية، التي قبعت في ظل الكرة الرجالية غير قادرة على الفكاك من حصارها في الدعاية والتمويل وبالتالي الانتشار الجماهيري.

وحتى اليوم، تعاني اللعبة من غياب الاهتمام الإعلامي الكافي والتغطيات الواسعة للمباريات، وقلة التمويل والرعاية الدعائية مقارنة ببطولات كرة القدم للرجال. بالإضافة طبعًا إلى الوصم الاجتماعي المستمر حتى الآن. يكفي على سبيل المثال، أن تذكر في مصر اسم شهرة منتخب كرة القدم الإنجليزي The Lionesses وترجمتها اللبؤات، أو الحديث عن الفريق النسائي المغربي الملقبات بلبؤات الأطلسي، لتلقى سيلًا من إبداعات المخيلة المكبوتة جنسيًا، من التنمر والاستهزاء. 

يعود تاريخ اللعبة إلى القرن التاسع عشر، حينها كانت تقام المباريات للفرق النسائية والرجالية على حد سواء، غير أن تنظيم اللعبة ووضع قواعدها ومأسستها داخل أندية كما هو الحال اليوم، لم يطل الفرق النسائية رغم شعبيتها آنذاك، مما حدَّ من تطورها وانتشارها ضمن القواعد المنظمة لها. هذا ما ساهم في خلق التصور المجتمعي عن اللعبة كونها لعبة للرجال فقط. 

أقنعونا بقدراتكن ونبقى نشوف

جياني إنفانتينو رئيس فيفا، يُمارس اليوم دورًا محببًا إلى قلوب الكثيرين من الرجال الذكوريين في مخاطبتهم للنساء في مجالات عملهن وحتى حياتهن الخاصة، بأنه عليك إقناعي أولًا أنك تستحقين ما تطالبين به.

هذه كانت فحوى رسالته بعد انتهاء بطولة كأس العالم للسيدات هذا الأسبوع في أستراليا ونيوزلندا، والتي حققت إيرادات زادت عن 570 مليون دولار، لتكون ثاني أعلى بطولة تُدر دخلًا بعد كأس العالم للرجال، في مباريات حضرها ما يقارب المليوني متفرج داخل الملاعب لوحدها.

ورغم ذلك يرى السيد إنفانتينو أن على السيدات إقناعه لتحقيق مطالبهن في المساواة بالأجور أسوة بزملائهن من الرجال، لـترد عليه مهاجمة فريق النرويج أدا هيجربيرج ساخرة "أعمل على عرض مهاراتي لإقناع الرجال أننا قادرات، من تحب المشاركة؟".

ما حصلت عليه السيدات في تلك البطولة وصل مجموعه إلى 110 ملايين دولار مقارنة بـ 440 مليونًا خُصصت لجوائز كأس العالم للرجال، التي حضرها حوالي 330 مليون متفرج في قطر في الدورة الأخيرة. الفرق لا زال شاسعًا في التقدير، وإن كانت الإنجازات والأرقام التي تحققت في بطولة السيدات لم تنعكس على الجوائز والأجور. 

استباحة المساحة الشخصية

مشهدٌ آخر كان محل اعتراض وجدل في هذه البطولة التي فازت بها إسبانيا للمرة الأولى، بعد أن قبّل رئيس اتحاد الكرة الإسباني لويس روباليس لاعبة خط الوسط جينفير هيرموسو على شفتيها بطريقة مفاجئة، ما اضطره للاعتذار عن سلوكه مبررًا أنه قبلها "بشكل عفوي" احتفالًا بالفوز، لكن اللاعبة لم تعجبها تلك العفوية "المفتعلة".


قبلة روباليس دليل آخر على أن التقبيل واستباحة المساحة الشخصية للمرأة حتى في الرياضة دون موافقتها، أمر يحدث بشكل مستمر على حد تعبير وزيرة المساواة الإسبانية إيرين مونتيرو، التي حذرت من الاعتياد على هذه المشاهد والتطبيع معها.

ما قام به روباليس، يُعد تشجيعًا للاعبين الرجال على التطبيع مع هذا السلوك الذي قد يستخدم لتحجيم مشاركة النساء في الرياضات، خاصة في المجتمعات المحافظة كمجتمعاتنا، التي تبرع فيها النساء في رياضات عدة، لكن ذلك السلوك قد يخيف العديد منهن ويدفعهن للتراجع. وفي المحصلة، تظل قصة كرة القدم للسيدات قصة عن المثابرة والمرونة وطول النفس، كما في الكثير من الاستحقاقات التي أنجزتها النساء بعد نضال طويل.

أتخيل مشهدًا مستقبليًا لابنتي تُخبر ابنتها أن كرة القدم كانت ممنوعة على النساء في زمن عاصرته جدتها، وأنها هي نفسها تخلت عن ذلك الحلم مبكرًا، لأنها عانت من تنمر زملائها الصبيان.

أطمح ليوم تستطيع فيه الفتيات التغلب على الصور النمطية، وأن يعين أنه ليس عليهن تخطي كل العقبات، بل ربما أن يستلهمن تجارب الرائدات اللواتي حطمن الحواجز ومهدن الطريق لنمو الرياضة وتحقيق مكانتهن.

رحلة تحقيق الأحلام قد تنطوي على انتكاسات كثيرة، لكنها مليئة بالإنجازات أيضًا. الرياضة شكل من أشكال المقاومة ويمكنها أن تكون سلاحًا لخوض المعارك لتكسير القيود. من لبؤات إنجلترا إلى لبؤات الأطلسي، تنتقل الكرة بين ركلة وأخرى، وفي كل مناورة على أرض الملعب أهداف جديدة يسجلنها في شباك المجتمع والأفكار البالية، لنفوز جميعًا بمتعة مشاهدة اللعبة الحلوة. 

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.