حازم عبد الحميد
مشاركون في استحقاق انتخابي قبل الإدلاء بأصواتهم- مارس 2018.

العد العكسي لانفجار اجتماعي.. وربما سياسي

منشور الخميس 14 سبتمبر 2023

في مصر، يبدأ أي مسار جدي نحو احتمالية إجراء انتخابات رئاسية نزيهة وتنافسية بأن يُعلن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وبوضوح، وقوفه على مسافة واحدة من جميع المرشحين.

تبدو الجملة السابقة بعيدة عن الأذهان في اللحظة الراهنة بقدر ما هي بديهية من وجهة نظري.

لماذا هي بديهية؟ لأن الانتخابات الرئاسية الوحيدة والجادة في تاريخ مصر جرت عام 2012 وفقًا لهذه الصيغة. ولأن المصريين، شاء من شاء وأبى من أبى، اختبروا فيها معنى الانتخابات الجادة والنزيهة، ولأن نتائجها جاءت، سواء في المرحلة الأولى أو الثانية، شديدة التقارب، شأنها شأن أي انتخابات في دولة راسخة الديمقراطية.

عرف المصريون ذلك، ليس فقط كشعب ومحكومين، بل أيضًا كدولة وأجهزة وحكام. كانت انتخابات 2012 نقطة حاسمة في مسار الممارسة السياسية في مصر، على مستوى قدرة الدولة والقوى السياسية على إدارة عملية تسليم وتسلم السلطة، وفقًا لتنافس منضبط القواعد. مثلما كانت ثورة يناير 2011 حاسمة هي الأخرى على مستوى إعادة رسم التصورات النفسية والقيمية في علاقة السلطة بمن هم تحت سلطتها.

لماذا تبدو الجملة الأولى في هذا المقال بعيدة عن الأذهان؟ لأنه في عام 2014 ترشح السيد عبد الفتاح السيسي لمنصب رئيس الجمهورية، في أعقاب اجتماع جمعه مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة يوم 27 يناير/كانون الثاني 2014، حصل فيه على تأييد المجلس للترشح في الانتخابات، ليستقيل بعدها بشهرين من منصب وزير الدفاع، ويذهب إلى محطات التليفزيون بالزي القتالي العسكري، معلنًا ترشحه لمنصب رئيس الجمهورية.


كانت تلك لحظة انتهاء إمكانية المنافسة السياسية على منصب رئيس الجمهورية؛ فالجيش في مصر ليس حزبًا سياسيًا كي يخوض غمار منافسة مع طرف آخر، ووضع القوات المسلحة في بلدنا أكبر من أي مجال سياسي داخلها من بعد 23 يوليو 1952، فما بالنا لو كانت مسارات هذا المجال السياسي متعثرة، ولا تحكمها قواعد عقلانية تضبط عملية التنافس، وتدير الصراع على نحو رشيد وسلمي.

ومثلما لا تحتمل مصلحة هذا البلد وتماسكه، شعبًا ودولة، أن تكون القوات المسلحة موضوعًا للانتخاب من عدمه؛ فالقوات المسلحة هي الأخرى لا تقبل بأن تكون موضوعًا للاختيار والمنافسة، سواء في الماضي أو في اللحظة الراهنة.

عشرة أعوام من البيعة 

ولأن القوات المسلحة ليست موضوعًا للاختيار أو التصويت، جاءت انتخابات الرئاسة في 2014 و2018 على التوالي بنتائج الـ90% وما فوق، وليس أقل.

السيد حمدين صباحي، الذي حصل في الجولة الأولى من انتخابات عام 2012، على 20.7% من أصوات الناخبين، وجاء ثالثًا، بفارق ضئيل، من بين خمسة مرشحين أساسيين، وفاز بإجمالي 4.8 مليون صوت، وبأغلبية الأصوات في المدن الثلاث الكبيرة القاهرة والإسكندرية وبورسعيد، حقق في "انتخابات" 2014، التي خاضها منافسًا وحيدًا للسيد عبد الفتاح السيسي، 3.09% من أصوات الناخبين، بإجمالي 757 ألف صوت فقط.

القوات المسلحة ليست حزبًا سياسيًا كي يتنافس أفرادها، والمنتمون السابقون لها، في انتخابات تعددية

أما في "انتخابات" 2018، فقد حصل السيد موسى مصطفى موسى، المرشح المعارض/المؤيد للسيد عبد الفتاح السيسي، على 2.7% من الأصوات، في حين بلغت الأصوات الباطلة 7.3%.

جاءت نتيجة "انتخابات" 2018 بهذا الشكل في أعقاب منع ترشح السيد سامي عنان بالقبض عليه ومحاكمته بعد أقل من يومين فقط من إعلان نيته للترشح، والضغط على السيد أحمد شفيق للانسحاب فور عودته من الإمارات، التي اتهم مسؤوليها بمنعه من السفر، ليُعلن بعد عودته إلى مصر التراجع عن خوض الانتخابات.

فكما أسلفت، القوات المسلحة ليست حزبًا سياسيًا كي يتنافس أفرادها، والمنتمون السابقون لها، في انتخابات تعددية، خاصة في ظل مجال سياسي مغلق وسلطة سياسية، استندت في تأسيسها على دعم صريح وحاسم من القوات المسلحة. الأمر ليس هزلًا ولا لعبة.

وعليه، كان هناك حرص طوال العشر سنوات الماضية على أن يخرج كل، وأي، مشهد انتخابي في صورة البيعة لا المنافسة. يصطف الناس أمام اللجان فرحين، راقصين، مبايعين. وكان هذا منطقيًا تمامًا، فالنظام السياسي يستند في شرعيته على شرعية القوات المسلحة نفسها، وتأتي الشرعية الشعبية تالية عليها في صورة تأكيد للتفويض.

2005.. انتخابات غير قابلة للتكرار 

المشهد السياسي الحالي في مصر لا يبدو منضبطًا ولا منسجمًا على مستوى الرؤية والمسار. يقترب استحقاق "الانتخابات الرئاسية"، ولا يزال نفس الإشكال السياسي الذي صاحب بيعة 2018 حاضرًا. ففي 2014 كانت شعبية السيد عبد الفتاح السيسي كبيرة بالفعل على خلفية احتشادات 30 يونيو و26 يوليو 2013 المليونية. وبالتالي كانت صيغة البيعة وقتها مستساغة عند قطاع معتبر من الناس.

أما بيعة 2018 فكانت إشكالية، حيث ظهر وقتها تناقض في الرؤية بين قطاع من الشعب والدولة يريد استمرار ذات الصيغة القديمة، وقطاع آخر رأى أن الوقت حان للعودة إلى مساحة الانتخابات، كما جربوها عام 2012.

هذا التنافر والتناقض حُسِم بالقوة على نحو أفضى إلى موجة جديدة من القمع السياسي، أعقبها إخراج "الانتخابات" في مشهد متسرع، وصل في ارتباكه أن أعلن فيه المرشح المنافس للسيد عبد الفتاح السيسى مبايعة منافسه، رغم استمراره في خوض "الانتخابات".

اللحظة السياسية الحالية في موسم 2023 - 2024 مختلفة اختلافًا دراميًا عن 2018. ذلك أن أزمة اقتصادية عنيفة تمكنت من رقاب المصريين إلى حدود إفقار شديدة القسوة لكل فئات الطبقة الوسطى. الأمر الذي يجعل محاولة تخيل حالة محدودي الدخل شيئًا كابوسيًا، يصل إلى حواف الجوع الذي يدفع إلى الانفجار.

اللحظة الراهنة مثل صمت يحيط صوت قنبلة زمنية، لا نعرف مخبأها ولا متى ستنفجر، ولكننا نسمع "تكتكة" عدها العكسي

يحدث هذا بمتوالية درامية سريعة، لا يبدو حتى اللحظة أن هناك قواعد واضحة للاشتباك الجاد والمسؤول معها. وفي الوقت نفسه، يعتقد البعض في إمكانية إخراج مشهد "انتخابات" 2024 بصيغة تتجاوز البيعات السابقة، لكن دون أن تصل إلى مرفأ انتخابات 2012، ظنًا منهم بإمكانية إعادة إنتاج انتخابات 2005 في زمن السيد حسني مبارك. ذلك المشهد الذي جمَّله السيد أيمن نور، والسيد نعمان جمعة، وسادة آخرون لا أتذكر أسماءهم.

ينسى البعض، وربما يتناسون، أن مشهد 2005 كان مُصممًا في زمن توافقت فيه الأطراف على اعتباره خطوة نحو الأمام، صراحة أو تواطؤًا. ففي ذاك الزمان، كانت الأحوال الاقتصادية أكثر استقرارًا والطبقات الوسطى أكثر انتعاشًا.

الأهم، أن خطوة إجراء "انتخابات" رئاسية تعددية ولكن محددة النتائج سلفًا، جاءت كمبادرة إصلاحية من الرئيس الأسبق مبارك نفسه. وكانت وقتها حدثًا غير مسبوق في بلد لم يعرف سوى البيعة منذ عام 1952. فعلى أي أساس إذن يظن البعض أن التاريخ قابل للتكرار في ظل شروط تختلف اختلافًا كليًا؟

مظاهرة أمام نقابة الأطباء ضد ترشح الرئيس الأسبق حسني مبارك لأول انتخابات رئاسية تشهدها البلاد منذ عام 1952. القاهرة، 6 أغسطس 2005.

تعميق للأزمة دون نقاش حول الحلول

يقينًا، لا يبدو أن مصر مقبلة على انتخابات رئاسية بالمعنى الحقيقي والجاد للكلمة؛ لأن شرط جديتها هو ما استهللت به هذا المقال، في حين أنه لا يمكن إعادة مشاهد بيعة 2014 و2018 مرة أخرى بنفس الصيغة. وفي نفس الوقت، فإن محاولة إخراج المشهد كما لو كنا نعيش 2005 جديدة، أمر يفتقد الحد اللازم من بصيرة إدراك حجم الأزمة السياسية والاجتماعية المتفاقمة حاليًا.

إن محاولة استنساخ مشهد انتخابي كهذا لن يحتوي الأزمة، بل ربما يؤججها أكثر، لأن استدعاء الناس إلى صناديق الاقتراع في "مسرحية"، هي وصفة لاستفزازهم واستنفارهم حتى ولو شاركوا فيها.

تأتيني عشرات الاستغاثات من أبناء طبقات وسطى مستورة، بعضهم يبحث عن سبل لإيجاد وظائف إضافية، وبعضهم يسأل المعونة بشكل مباشر. حدود الشكوى وصلت إلى العجز عن الوفاء بمتطلبات غذائية أساسية للأطفال، وعدم القدرة على شراء أدوية لا يمكن الاستغناء عنها.

وكل هذا يحدث بينما المشهد السياسي يحكمه إطار عنوانه الاحتواء التام بصيغة تسمى "حوار وطني"، مهمته رفع توصيات ومظالم إلى سراي شبه ملكية، بينما يُشاهد أغلب أفراد الشعب استفزازًا طفيليًا من طبقة صغيرة مجهولة الثروات، تنثر المال هنا وهناك على رمال "الساحل الشرير"، فصار اسمهم "الإيجيبشنز" فى إشارة إلى طبيعتهم الاستعمارية.

أحد الأصدقاء وصف اللحظة الراهنة بأنه صمت يحيط صوت قنبلة زمنية، لا نعرف مخبأها ولا متى ستنفجر، ولكننا نسمع "تكتكة" عدها العكسي.

مَن يظن أن بإمكانه احتواء هذه الأزمات عبر تنسيق مشهد "انتخابي" منمق، فهو في الأغلب لن يعيد مشهد 2005، بل ربما يحاكي مشهد الانتخابات البرلمانية في خريف 2010، الذي كان فشله وإخراجه الفوضوي، سببين حاسمين في اندلاع ثورة يناير 2011.

لكن حتى يناير 2011 لا تبدو واردة في الأفق.. ذلك أنَّ التاريخ لا يعيد نفسه أبدًا، ولا يعود للوراء.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.