بدأ الحديث عن تآكل الطبقة الوسطى في مصر مع الانفتاح الاقتصادي الذي أطلقه الرئيس أنور السادات عام 1974، إثر صعود أصحاب الياقات الزرقاء من الحرفيين، وهبوط أصحاب الياقات البيضاء من الموظفين باختلاف مهنهم. لكنَّ الطبقة الوسطى ظلت تقاوم على مدار أربعين سنة تقريبًا، ونجحت بشق الأنفس في الحفاظ على وجودها، إلى أن تآكلت قدراتها في العقد الأخير.
كانت هذه الطبقة ضعيفة قبل يوليو 1952، تتوسل بالتعليم، الذي لم يكن متاحًا للجميع، لإبقاء أبنائها مستقرين إلى حد ما، داخل الحيز الذي صنعته لهم سياسات توظيف اعتمدت على "الأفندية" في إدارة الجهاز البيروقراطي للدولة، وبعض مشروعات التنمية.
ثم أخذت هذه الطبقة تتسع في عهد جمال عبد الناصر، الذي وإن شاب سياستَه في التأميم خللٌ وخطلٌ، أو كانت توجهاته الزراعية محل جدل، لكنه جعل فئات معتبرة من المجتمع المصري تستفيد من التوسع في التعليم، ووجود خطط تنموية طموحة، وتبنِّي مشروع قيادة إقليمية.
وتمكنت خلال أقل من عقد، من الاستمرار في منح المجتمع مهنيين مقتدرين من المدرسين وأساتذة الجامعات والأطباء والمهندسين والإداريين وضباط الجيش والشرطة، وصولًا إلى السفراء والوزراء وبعض قادة العمل السياسي والرأي. وتحمل عائلو هذه الطبقة عبء القيام بهذا الدور عن طيب خاطر، مستفيدين من الدور الذي كان يمنحه التعليم لأصحابه من حراك إلى الأمام وأعلى، ومن القوة الشرائية التي كانت تتمتع بها العملة المصرية في هذا الوقت.
الانفتاح وما بعده
ولكن السياسات اللاحقة بعد عبد الناصر جاءت لتمنع هذه الطبقة من التمدد، وإن لم تأتِ عليها بشكل كامل، حتى مع التراجع الاقتصادي، وغياب المشروع الجامع، وترنح القوة الشرائية للعملة. فكثير من أبناء هذه الطبقة حافظوا على إمكانياتهم بفضل الهجرة إلى بلاد النفط، حيث اعتمدت الدول الخليجية منذ السبعينيات وحتى نهاية التسعينيات على مخرجات التعليم المصري في البناء والتنمية بشكل أساسي، قبل أن ينافسها بشكل قوي قادمون من بلاد أخرى على الوظائف المهمة، أو تشرع هذه الدول في توطين الوظائف.
تحول الحديث عن أزمة الطبقة الوسطى في السنوات العشر الأخيرة إلى ضجيج يرج الآذان
وعلى التوازي انفتح الباب أمام عمالة مصرية رخيصة، بعضها غير مدرب، هاجرت إلى الخليج، ولم يزد ما تحصل عليه عن توفير حد الكفاف لذويهم، ورفع أعبائهم عن كاهل الدولة المصرية.
وتزامن مع تراجع تدفق أبناء الطبقة الوسطى إلى الخليج، عجز الدولة عن توفير وظائف لكل خريجي الجامعات، مع تضخم الجهاز البيروقراطي وتراجع قدرته على استيعاب الواردين الجدد إلى سوق العمل، بل صار بعض الملتحقين به يعانون "بطالة مقنعة"، ولم يعد بوسع المرتبات التي يحصل عليها الممكنون في وظائفهم تحقيق الكفاية، واضطر كثيرون إلى الالتحاق بأعمال أخرى في القطاع الخاص، ثم القطاعات الحرفية، ليتمكنوا من توفير ضرورات الحياة.
ولكنَّ القطاع الخاص الذي أخذ في النمو طوال العقود الثلاثة التي سبقت ثورة يناير، عوَّض جزئيًا أبناء الطبقة الوسطى في الحصول على فرص عمل بديلة عن تلك التي كانت توفرها الدولة سابقًا، حتى وإن لم تناسب تخصصاتهم أو خبراتهم السابقة أو توقعاتهم، فلم يعد كثيرون ينتظرون الوظائف الحكومية بعد التخرج.
في ظل هذا الوضع، تصاعد الحديث من جديد حول الأخطار المحدقة بالطبقة الوسطى، التي عض أبناؤها بالنواجذ على ما هو متاح لهم، ليوفروا تعليمًا مناسبًا لأولادهم، أملًا في تحصيلهم وظائف مستقرة في مصر، أو فرص عمل في الخليج أو أوروبا.
غير أن هذا الحديث صار ضجيجًا يرج الآذان في العقد الأخير، مع التوسع في الاستدانة، وغياب التنمية الشاملة، وانهيار القوة الشرائية للجنيه، وزيادة القيود على الهجرة إلى الخليج، وتراجع القوة الإنتاجية للدولة، وتآكل القطاع الخاص تدريجيًا لحساب واردين جدد إلى الاقتصاد من الجيش والأجهزة الأمنية والإدارات البيروقراطية، التي تقدم الخدمات للشعب.
رأينا كثيرين من أبناء الطبقة الوسطى يتساقطون إلى الخلف وأسفل، فتصبح شريحتهم الدنيا من الفقراء، وشريحهتم الوسطى في أدنى هذه الطبقة، وشريحتهم العليا في أوسطها، وأما بعض من كانوا محسوبين على الطبقة العليا، ففقدوا الكثير من امتيازاتهم ومواقعهم وأصبحوا من أبناء الطبقة الوسطى.
عواقب الانهيار الست
وهذا الانهيار له عواقب وخيمة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في مصر، يمكن تلخيصها في ست نقاط.
1- تراجع قدرة الطبقة الوسطى على الإنفاق لتعليم أبنائها بقدرٍ مُرضٍ، ما يعني تضاؤل إسهامها في رفد أجهزة الدولة وبرامج التنمية بمن يسهمون في تفعليها ودفعها للأمام. فقد لاحظنا أن كثيرًا من أبناء هذه الطبقة لم يعد ينفعه، كما كانت الحال سابقًا، اقتطاع جزء ليس باليسير من أقواتهم ليعلموا أولادهم وبناتهم تعليمًا حقيقيًا، مع تراجع الإنتاج الكلي، وما صاحبه من زيادة معدلات التضخم، وارتفاع الأسعار. واضطر بعض أبناء الطبقة الوسطى إلى سحب أولادهم من التعليم الخاص إلى الحكومي، فيما تعجز الطبقة الفقيرة عن الإنفاق على التعليم أصلًا.
2- تصدع القيم الإيجابية، سواء المرتبطة بالعمل أو المتعلقة بالسلوك الأخلاقي. فالطبقة الوسطى تقوم في أي مجتمع بالحفاظ على مثل هذه القيم وتغذيها وتنشرها، وتقدم نماذج أو أمثلة ناجحة، تشجع بعض أبناء الطبقة الفقيرة على استلهامها والتمسك بها.
3- فقدان التماسك الاجتماعي، فالطبقة الوسطي هي واسطة العقد في المجتمع، تكبح بنعومة الآثار الضارة للطبقة المترفة، وتسحب بهدوء الطبقة الفقيرة إلى مساحة من الاستقرار النسبي. ويصبح هذا الدور أجلى وأجدى حال مثلت الطبقة الوسطى الجزء المعتبر من التيار الاجتماعي الرئيسي.
قد يجد الفقير مبررًا لأي وهن يصيب علاقته بمجتمع لا يوفر له حياة كريمة بحق
4- عجز الطبقة الوسطى عن حمل الفقراء على أكتافها وظهورها مثلما تعودت من قبل. فيد هذه الطبقة ظلت سنين طويلة في أفواه أبناء الطبقة الفقيرة، تقدم لها المساعدات والإعانات، أو توفر لها فرص عمل، لا سيما مع خروج المرأة المصرية بكثافة إلى سوق العمل. لكنَّ هذه الطبقة لم تعد قادرة، مع ضغط الحياة على أعصابها وإمكانياتها، على الاستمرار في أداء هذه المهمة النبيلة.
5- استمرار نزيف العقول وهجرة الأدمغة، فأبناء الطبقة الوسطى ممن يتلقون تعليمًا فائقًا تكون أبصارهم ممدودة دومًا إلى الخارج، بحثًا عن فرص عمل، تعوض أسرهم عن الإنفاق على تعليمهم بسخاء، وتضمن لهم موقعًا آمنًا، سواء بما يدره عليهم العمل المجدي من دخل مجزٍ، أو بما تضمنه لهم الدول الغربية من حقوق تُعطى لمواطنيها. بل إن بعض المنتسبين للطبقة الوسطى يعتبرون أبناءهم الذين طاب لهم المقام في الغرب أوتادًا عفية للأسرة كلها، سواء بالتحويلات المنتظمة التي يرسلونها لذويهم، أو بما يتاح لهم أحيانًا من مساعدة آخرين من أقربائهم بتوفير فرص عمل لهم هناك.
6- تزعزع الانتماء، فالفقير قد يجد مبررًا لأي وهن يصيب علاقته بمجتمع لا يوفر له حياة كريمة بحق، والمترف على يقين دائم بأن هناك فرصًا مفتوحة له للوجود والتمدد في مجتمعات غريبة، عملًا بالحكمة السابعة المنسوبة إلى الإمام علي بن أبي طالب "الفقر في الوطن غربة، والغنى في الغربة وطن"، التي كثيرًا ما يرددها الشباب المصري الآن، ليس بمنطوقها إنما بمعناها.
أما أبناء الطبقة الوسطى، الواقفون عند حد الكفاية، فلا يجدون أي مبرر لزعزعة روابطهم ببلادهم، فإن أصابهم فقر أو عوز سيقوا إلى التراجع، ولو تدريجيًا، عن هذا اليقين.