على مدار عام 2023، تعامل وليد حسن(*) مع أحد تجار السوق الموازية، تعرف عليه من خلال أصدقاء مشتركين. وحسب قوله، فإن التاجر لم يخذله أبدًا، إذ كان مستعدًا دائمًا لبيع أو شراء أي كمية من العملات الصعبة وبأفضل سعر متاح خارج القطاع المصرفي.
وليد، الذي يعمل محاسبًا بإحدى الشركات، لا يُخفي انبهاره بشبكة العلاقات الواسعة التي يتمتع بها تاجر العملة، والتي "تُساعده على ممارسة تجارته غير المشروعة دون التعرض للمخاطر"، فهو يُبدّل العملة في معرض للسيارات لكي يبدو الأمر وكأنه عملية متاجرة طبيعية، وقد يدعوك لشقة خاصة يُخزّن فيها كميات هائلة من الأموال، أو يُوصل لك المبلغ المطلوب "دليفري" عن طريق أحد الوسطاء.
اكتسب وليد، وغيره من مدخري العملات الصعبة، خبرة واسعة في التعامل مع السوق السوداء، مع اتساع الفارق في سعر صرف الدولار مع البنوك بأكثر من خمسة عشر جنيهًا، وبات الكثيرون يراقبون تقلبات هذه السوق وقدرتها على تحقيق أفضل عائد على مدخراتهم.
تطبيقات للسوق السوداء
يعج هاتف المترجم سيد أبو الحسن(*) بالتطبيقات الإلكترونية، بعضها يتعلق بأنشطته على السوشيال ميديا، وأخرى ذات صلة بمجال عمله، إلا أن تطبيق "بكام في السوق السودا"، الخاص بحركة سعر صرف العملات الأجنبية في السوق الموازية، بات أهم التطبيقات التي ينتظر إشعاراتها باستمرار، انتظارًا للحظة مناسبة يتخذ فيها قرار استثمار مدخراته الدولارية.
مع اتساع الفجوة في سعر الصرف بين السوقين الرسمية والموازية، اكتسبت معاملات السوق السوداء للعملات الأجنبية، التي يعاقب عليها القانون بالحبس، شيئًا من العلانية، مع انتشار تطبيقات وصفحات تُخبرك بدقة بسعر الصرف اليوم خارج البنوك، وشركات السمسرة.
يقول أبو الحسن إن تطبيقات السوق السوداء أصبحت شيئًا "بالغ الأهمية" بالنسبة له، مع حصوله على دخل دولاري من نشاط الترجمة وحاجته لتحويله بأعلى سعر، "أخصص جزءًا من راتبي الشهري للتداول في أوساط المتعاملين، سواء كانوا من دوائري الخاصة التي تحتاج إلى العملة الصعبة خلال سفرها، أو للمتعاملين في جروبات السوق السوداء"، يقول أبو الحسن.
ولم ينفذ البنك المركزي تعويمًا كان متوقعًا في سبتمبر/أيلول الماضي، ما سمح باستمرار نشاط معاملات السوق الموازية. وتوقعت وكالة بلومبرج أن يتم التعويم بعد انتخابات الرئاسة. ولن يتحقق استقرار لسعر الصرف بعد التعويم ما لم تُدبر البلاد موارد دولارية تقدر بـ8 إلى 10 مليارات دولار، حسب المجموعة المالية هيرميس.
وسط أجواء من عدم اليقين بشأن مستقبل الجنيه، كان محمد علي(*)، مهندس برمجيات، حريصًا على تحويل مدخراته من الجنيه إلى الدولار، حفاظًا على قيمتها.
يجمع علي العملة الصعبة من دوائر عمله في مجال البرمجيات أو عبر جروبات فيسبوك وقد يلجأ إلى تجار الذهب
"حولت رقمًا كبيرًا للدولار، حوالي 100 ألف جنيه، كنت بحوّشه قبل ما تشتد الأزمة الاقتصادية، وتعلي أسعار السلع والخدمات بالشكل ده. دي تحويشة عمري، وكل ما أجمع 10 آلاف جنيه جديدة أشتري دولارات بأي سعر. المعادلة واضحة تحوّش 3 آلاف دولار أحسن ما تبقى محوش 100 ألف جنيه"، يقول علي.
يجمع علي العملة الصعبة من دوائر عمله في مجال البرمجيات، ممن يتقاضون رواتبهم بالدولار، وإن لم تُفلح محاولاته يصل بسهولة إلى حائزي الدولار عبر جروبات وصفحات على فيسبوك، وأخيرًا يلجأ إلى تجار الذهب عندما تضيق به كل السبل.
خلال المرة التي أراد فيها علي تدبير سيولة دولارية عبر السوشيال ميديا، تتبّع التعليقات على أحد البوستات، حتى وصل إلى شخص يعرض عملات صعبة بسعر مناسب. أرسل له رسالة عبر الخاص، واتفق معه على مقابلته بمنطقة العباسية. وصل علي قبل الموعد المحدد واصطحب صديقًا حتى لا يتعرض للاحتيال، ويخسر "تحويشة شهر من راتبه".
"الراجل كان واقف قرب محطة المترو، ولما وصلت له واتكلمت معاه ندهت صديقي بالأموال، وتمت العملية في دقايق بعد لحظات من القلق"، يقول علي.
سماسرة للمصريين في الخارج
تُظهر آخر بيانات البنك المركزي عن ميزان المدفوعات تراجع تحويلات المصريين العاملين في الخارج خلال العام المالي 2022/2023، المنتهي في يوليو/تموز الماضي، بنحو عشرة مليارات دولار، لتصل إلى 22 مليار دولار، مقابل 31.9 مليار دولار في العام السابق، وهو ما يُرجعه محللون إلى تسرب جانب كبير من التحويلات عبر المعاملات غير الرسمية.
تفسِّر تجربة أحمد داود(*) كما رواها لـ المنصة تراجع تحويلات العاملين في الخارج. فقبل أزمة الدولار كان يتسلم بشكل منتظم حوالة بالعملة الصعبة من شقيقه العامل في السعودية، ويصرفها من البنك في صورتها الدولارية.
"لما الفرق بين السعرين زاد كتير، واجهت صعوبات في صرف الحوالة من البنك، وكان موظف الشباك بيتحجج بعدم توافر السيولة الدولارية، وده شجعني بعدين على استلام حوالة أخويا بطريقة أخرى بعيدًا عن البنوك".
وحتى يناير/كانون الثاني من 2022 كانت البنوك، والبنك المركزي، تتمتع بفائض في صافي الأصول الأجنبية، قبل أن تتحول لعجز متصاعد وصل أكثر من 800 مليار جنيه في سبتمبر الماضي ما أعاق قدرة القطاع المصرفي على تدبير الدولار لعملائه.
وعلى غرار القصة السابقة، توقف أحمد سمير(*)، الذي يدير شركة للبرمجيات في دبي، خلال العام الماضي، عن إرسال التحويلات الدولارية لعائلته في مصر عبر القنوات الرسمية.
وعن طريقة تحويل الأموال، يقول سمير "فيه سماسرة في الخارج بيتولوا المهمة دي، كل اللي عليك الاتفاق معاهم على سعر مناسب للتحويل، وهو يتولى توصيل الفلوس دي مباشرة لأسرتي"، يوضح سمير.
تعرف سمير على السمسار، بواسطة صديق مقيم بأبوظبي، رتب لهما لقاءً في مكان مفتوح للاتفاق على السعر المناسب والطريقة التي سيرسل بها الأموال إلى أسرته في مصر، حتى يطمئن لسلامة هذه العملية، ومع نجاح التحويل الأول صار واحدًا من شبكة عملائه.
المستثمرون أيضًا يلجأون للسوق السوداء
لا ينسحب الأمر على الأفراد فقط، فطوال العام الأخير لم يجد مستثمرون بدًا من الاعتماد على السوق السوداء لتوفير احتياجاتهم من الدولار اللازمة لاستيراد مستلزمات التشغيل أو منتجات جاهزة، في ظل عجز البنوك عن تلبية احتياجاتهم، نتيجة لنقص العملة.
يشعر وليد أن تاجر العملة الذي تعامل معه حقق أرباحًا طائلة
يقول أحمد المندور(*)، صاحب شركة لاستيراد النظّارات الطبية، إنه اضطر لشراء 100 ألف دولار على دفعات من تجار نشطين بالسوق الموازية خلال الـ6 أشهر الأخيرة، لاستكمال دفعات شحنة عدسات طبية وإطارات نظّارات اتفق عليها مع مورد صيني.
استنفد المندور محاولاته مع البنوك لتدبير المبلغ، قبل أن يضطر للشراء من السوق الموازية، حيث يقول "خلال العامين الماضيين اعتمدت على تجار لتوفير ما أحتاجه، أحيانًا أكون بحاجة إلى أرقام صغيرة لا تتعدى الـ30 ألف دولار، وأحيانًا أكسر الـ100 ألف دولار، وهذا يتطلب أن أحصل عليها على مراحل، ومن أكثر من تاجر".
وتعكس تعليقات مؤسسة ستاندرد آند بورز عن القطاع الصناعي غير النفطي في مصر مشكلة نقص العملة وتأثيرها في المنتجين، وذلك من خلال البيانات الواردة في مؤشر مديري المشتريات الشهري.
"كل صاحب شركة يعرف أكتر من تاجر، الموضوع إجباري لأن البلد مفيهاش دولار، وأنت كتاجر مضطر تشتري حتى لو بـ50 جنيه"، كما يضيف مندور.
"طالما كانت خزانة البنك خاوية من الدولار، ولا تستطيع تلبية احتياجات المواطنين من العملة الصعبة، لن يتوقف عمل السوق السوداء، ولن يستطيع أحد التكهن بسعر محدد للدولار"، كما يقول رئيس المنتدى المصري للدراسات الاقتصادية والاستراتيجية، رشاد عبده، لـ المنصة.
ويرى عبده أن القيود التي تفرضها البنوك على عمليات السحب المباشر بالعملة الصعبة بكروت الخصم المباشر، "تسببت في تفاقم الأزمة الحالية"، فإلى جانب المستوردين الذين يعانون من تدبير العملة الصعبة، انضم إليهم المواطنون العاديون، والشركات الصغيرة التي تحتاج إلى دفع اشتراكات شهرية لديها بالعملة الصعبة، متابعًا "القاعدة واضحة كلما شح الدولار، وأغلقت منافذ الحصول عليه، يبحث الجميع عن البدائل حتى لو كان السعر غير عادل".
يشعر وليد(*) أن تاجر العملة، الذي تعامل معه طوال فترة الأزمة الراهنة، حقق أرباحًا طائلة، إذ إنه لا يعرف له نشاطًا اقتصاديًا سوى محل سيارات صغير يمتد في ممر ضيق، لكن قدرته على توفير السيولة الدولارية تعكس مكاسبه الكبيرة وثقة الكثير من العملاء فيه مقارنة بالبنوك وشركات السمسرة.
* اسم مستعار بناءً على طلب المصدر