لقطة من فيديو لكتائب القسام نشر يوم 2-11-2023
لحظة ترك المقاتل الفلسطيني العبوة الناسفة على الدبابة الإسرائيلية من المسافة صفر

في الحب والحرب.. غواية المسافة صفر

منشور الثلاثاء 28 نوفمبر 2023

من بين الكثير الذي قرأته خلال تمشيطي المستمر لإكس، بحثًا عن أمل في كل ما يُكتب عن فلسطين، قرأت تغريدة لشابة كتبت أنها تريد تأسيس رابطة لمحبي المسافة صفر، في إشارة إلى مبدأ "الاشتباك من المسافة صفر" التي أنجز منها مقاتلو حماس وعدهم بجحيم حذَّروا منه الإسرائيليين إذا فكروا في اقتحام غزة بريًا.

قبل 2500 سنة أوقع فيثاغورس تلاميذه في عبادة الصفر، التي جعلها الفرنسي آلان نادو موضوعًا لروايته "عبدة الصفر". عودة إلى فيثاغورس فقد عاش عشرين سنة بين حكماء مصر، ومن إحكام بناء الأهرام ترسَّخ يقينه بقداسة الأرقام، واعتبر الأعداد التسعة إشارة للواحد الخالق.

عندما تأمل كسوف الشمس في بابل أيقن أنَّ هناك شيئًا ناقصًا في منظومة الأعداد المقدسة، عددًا ليس بالعدد، شفافًا ومعتمًا في الوقت ذاته، هو الصفر. يقدم تلاميذ فيثاغورس تفسيرًا خياليًّا للحظة اكتشاف أستاذهم للصفر، عندما نزل إلى الجحيم ووجد نفسه في مواجهة العدم المطلق.

اختبر جنود إسرائيل وضباطها العدم المطلق في جحيم غزة بفضل مبدأ "الاشتباك من نقطة الصفر"، الذي جعلته المقاومة الفلسطينية علامة هذه الحرب، بالرغم من أنَّ كلَّ فرق النخبة في الجيوش مدربة على الاشتباك من نقطة تقترب من الصفر.

لكنَّ مهمة قوات النخبة في الجيوش الكبيرة تقتصر على فتح الثغرات وليس تحمل كلّ أعباء الحرب، ولا تقوم بمهمتها الخاطفة دون عون قريب جوي أو أرضي، فيما يقاتل الفلسطيني مكشوفًا من كل حماية ومحاصرًا بالخيار صفر. وهكذا ليس أمامه سوى تطبيق المبدأ حرفيًّا. وانتزعوا الإعجاب حتى من العدو بسبب مشاهد حمل القذيفة باليدين كوسادة ووضعها على الآلية العسكرية.

بحسابات الحرب، فإنَّ الخسائر البشرية والمادية للفلسطينيين لا تُذكر عند مقارنتها بالخسائر الإسرائيلية في المعارك الحقيقية، لأنَّ أعداد المدنيين الرهيبة لا تُمثِّل إنجازًا حربيًّا، ومثلها لا يُعدُّ تدمير بيوتهم بقصفها من السماء نصرًا عسكريًا. بل إن خسارتها  كبيرة لهذا المحو الذي مارسته ضد البيوت والمنشآت التي يحرم القانون الدولي قصفها؛ مستشفيات ومدارس وكنائس ومساجد، فهذه ليست عملًا من أعمال الحروب، بل إجرام.

الكل على المسافة صفر

أصحاب الضمير الذين رفضوا تقبَّل جرائم الحرب تحت أي ذرائع أخذوا يزدادون، وكل يوم إضافي في هذا الإجرام يجر إسرائيل إلى الوراء، وإن تبقَّى نصف هذا الزخم الدولي بعد هذه الحرب، ستجد إسرائيل نفسها على مسافة صفر من حقيقتها كاستيطان عنصري على أرض شعب آخر.

كان إدوارد سعيد أول من انتبه إلى البراعة الصهيونية في إنشاء قصتهم كضحايا

إقدام جنوب إفريقيا بالذات على طرد السفير الإسرائيلي هو أكبر دليل على إمكانية أن تلقى العنصرية الإسرائيلية المصير نفسه؛ فقد كانت مع بريتوريا العنصرية مثل توأم ملتصق تشابهًا وتعاونًا. واستطاعت إسرائيل أن تنجو حتى اليوم من مصير الحكم العنصري في جنوب إفريقيا الذي تفكك تحت وقع مقاطعة دولية، قادتها الشعوب أولًا وليس الحكومات التي أتت تاليًا رضوخًا للناخبين. هذا الأثر للشعوب حقيقي في الدول التي تحتكم إلى صناديق الاقتراع، وهذا من أعجب ما نراه في الغرب!

صار العالم كله على هذه المسافة مما يجري، حتى مؤيدي إسرائيل والمتواطئين معها لم يعد تواطؤهم في وقت الفراغ، لكنهم حرفيًّا صاروا على المسافة صفر. من هذه المسافة لم يعد انحياز ماكرون مقبولًا من بعض سفراء فرنسا، ولا انحياز بايدن مقبولًا من بعض كبار موظفي الخارجية الأمريكية.

لا تسمح المسافة صفر بخمول النوم، في الحب كما في الحرب، في الاحتضان والقتل. ولم يكن كلُّ هذا الاقتراب العالمي من المعضلة الفلسطينية ليصبح ممكنًا قبل هجوم السابع من أكتوبر الذي أصاب الإدارة الإسرائيلية بالغضب وجعلها تقع في فخ الصفر المعتم والشفاف في الآن ذاته.

باختصار أصابها الكبرياء بالعمى، ووجدت آلة الحرب تحت يديها فاستخدمتها بانفلات من كل القيود، في وفاء لمنهج عصابات الاستيطان الأولى، وفي خيانة كاملة لمنهجها في حرب القصص.

إدوارد سعيد

يعرف الصهاينة أهمية القصص لحياة مشروعهم منذ أن كان فكرة. وكان إدوارد سعيد أول من انتبه إلى البراعة الصهيونية المزدوجة في إنشاء قصتهم كضحايا من جهة، والاستيلاء على قصة ضحاياهم من جهة أخرى. رصد الألعاب الإسرائيلية من بدايتها صعودًا إلى اتفاق أوسلو الذي أصابه بالإحباط.

أذكر أن تعليقه على احتفال التوقيع في أوسلو عام 1993 كان مانشيت إحدى كبريات الصحف الأمريكية. "لقد ألقى رابين خطاب فلسطين"، لعلها كانت صحيفة الواشنطن بوست، لكنني وجدت تعبيره ذاته في حواراته مع الصحفي ديفيد بارساميان، وأصدرها في كتاب "القلم والسيف". ولعل بارساميان كان هو نفسه من حصل على تصريح إدوارد سعيد للجريدة.

المهم أنَّ إدوارد يوضح في حواره المنشور بالكتاب لماذا اعتبر أنَّ رابين ألقى خطاب فلسطين. "لأن الخطاب كان مليئًا بالألم والقلق الهاملتي والشك والخسارة والتضحية وهكذا دواليك. في النهاية شعرت بالأسى على إسرائيل. أما خطاب عرفات فكان قد كتبه رجال أعمال، وكان خطاب رجل أعمال مع كل حماسة اتفاقية الإيجار". وفي عبارة ثاقبة يلخص إدوارد الأمر "من سوء حظنا أننا ضحايا الضحايا".

يُفصِّل سعيد آليات الإسرائيليين في بناء قصتهم عبر ثلاث سرديات أساسية؛ الأولى تتمثل في إنكار وجود الفلسطينيين، فهم مجرد عرب بدو أو محاربين جاءوا إسرائيل عام 1946 وغادروها مهزومين في 1948، وأمام الفشل في الإخفاء الكامل لحقيقة وجود الفلسطينيين تظهر السردية الثانية بتجريدهم من إنسانيتهم ومن عدالة قضيتهم، وأمام إصرار بعض المتفحصين على عدالة القضية الفلسطينية تخرج السردية الثالثة عن "الفرص الضائعة"، والفرضيات الثلاث تتكامل.

نموذج الآليتين الأولى والثانية ينقله إدوارد سعيد من حوار أُجري مع شامير بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس عصابة شتيرن "فقال إن الإرهاب مقبول إن كان لأجل قضية عادلة. سأله أحد الصحفيين عن الإرهاب الفلسطيني فقال: قضيتهم ليست عادلة إنهم يحاربون من أجل أرض ليست أرضهم".

وعن فرضية الفرص الضائعة يقول إدوارد سعيد لبارساميان "لقد سألتني إحدى الصحف اليومية الأمريكية عن هذه العبارة، فقلت إنها سبة عنصرية، لأننا بالقطع فوتنا فرصًا، وكل شعب يفعل ذلك، ولكن أن نُعرَّف بأننا الشعب الذي لا يُضيِّع فرصة لتضييع الفرص فهذا يعني القول إننا حمقى بشكل مميز وإن هذه الحماقة موجودة في جيناتنا. وهذا هراء؛ فقد قفزنا إلى الفرص أكثر مما فعل أي من الفرقاء في الشرق الأوسط، بل وأكثر من الإسرائيليين من هذه الناحية، وهم الذين يبدون وكأنهم يتجهون إلى اليمين دون نهاية. إذن هذه سبة غير مقبولة مبنية على افتراضات عنصرية".

وماذا يكون الغباء الموروث سوى "حيونة" للفلسطيني؟!

المراجعة من المسافة صفر

أعتقد أنَّ التعامل الجاد مع القضية الفلسطينية يجب أن يبدأ الآن من المسافة صفر لمراجعة كل ما حدث من أخطاء ثقافية ارتكبناها بينما كنا نقصد مناصرة قضية فلسطين، وأعني المثقفين العرب لا الفلسطينيين بهذه الأخطاء، ومنها مثلًا الحذر من قبول فلسطينيي الداخل، والعجز عن التفريق بين الدين اليهودي ودولة الاحتلال، وعدم التفريق بين الأطياف اليهودية، وبينها من يرفض مبدأ تمييز اليهود بدولة. وكان ذلك كله بمثابة عطايا لإسرائيل.

علينا مراجعة أخطائنا في عدم تفريقنا بين الأطياف اليهودية

إعادة تقييم الأمر من المسافة صفر يتطلب الاقتراب بالطريقة نفسها من إدوارد سعيد، في كلِّ ما كتب، حتى لا نعيد اكتشاف الماء الساخن، لأنَّ هذا الرجل كرس كلَّ حياته لكشف زيف القصص. أقول هذا وقد سبق لي أن تطاولت عليه. ذات يوم بعيد كتبت أخاطبه: ابقَ بعيدًا وعاليًا كإله. كان ذلك ردًا على اقتراحه حل الدولة الواحدة الذي لم يطرحه سواه والقذافي!

كان إدوارد وحده يعرف حجم الرعب الذي يمثله اقتراحه لإسرائيل. كان وجوده بذاته مرعبًا للإسرائيليين، فهو لم يقدم لهم سردية إلقائهم في البحر التي تنفعهم في كسب تعاطف العالم، بل قال ما لم نكن نحب أن نسمعه ولا يحبون هم أن يسمعوه، كان يقول إنَّ إسرائيل قامت لتبقى لكن إلى جانب فلسطين. و لم يترك بابًا للسلام لم يطرقه ولم يتحرج من لقاء أيِّ داعية سلام إسرائيلي، لكنه مات مهمومًا عام 2003، بعد أن رأى مخاوفه من فخ أوسلو تتحقق، ولم يرَ كيف سيلحق به عرفات إلى الموت مسمومًا بعد عام واحد.

لا تعني دعوتي إلى الوقوف على المسافة صفر من إدوارد سعيد أنه معصوم أو أنَّ هناك قولًا نهائيًّا في الظواهر السياسية وصراع الوجود بين طرفين. من المرجح؟ أنه لو كان حيًّا الآن ما كان ليوافق على هجوم حماس في السابع من أكتوبر. لكنَّ هذا الهجوم هو الذي وضع القضية الفلسطينية على المسافة صفر من العالم. من الواضح أنَّ القوة تؤسس للحق؛ فأن تكون إرهابيًّا أفضل من أن تكون ميتًا ومنسيًّا.

هنا يجب أن نعود إلى رؤية شامير عن الحق في الإرهاب؛ فالصهاينة وليس غيرهم من وضعوا عدالة القضية محددًا لمشروعية الإرهاب من عدمها. ومراقبة تحولات الرأي العام تجاه حماس تؤكد معقولية طرح شامير.

لم نعرف بعد أسرار ما حدث في السابع من أكتوبر، ما الهدف الأساسي، من الذي قتل المحتفلين، وأسرارًا أخرى كثيرة، لكن يبدو أن سيطرة حماس على قواعد البيانات الإسرائيلية في اللحظات الأولى كانت أهم النتائج، ولعله فأل خير لبداية سعي جديد للسيطرة على القصص.

من حق الفلسطينيين أن يستردوا قصتهم التي سطت عليها إسرائيل طويلًا، لأنَّ الألم والقلق الهاملتي والشك والخسارة والتضحية هي في الواقع حال الفلسطيني لا الإسرائيلي.

لقد بدا الأمر واضحًا من المسافة صفر: للقوة جمالياتها على الأرض، وللضعف جمالياته في القصص التي تساند الحق.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.