تصميم: أحمد بلال، المنصة
هل تغني مادونا في الإسكندرية؟

إذا غنّت مادونا على شاطئ الإسكندرية

منشور الثلاثاء 21 مايو 2024

تحت تأثير الترند متعدد الأبعاد، لم يكن هناك مفرٌ من الذهاب إلى الصفحة الرسمية لمؤسسة تكوين، لأكتشف المفاجأة؛ لا شيء يثير الريبة أو الاهتمام.

بدأ الترند بعبارات ليوسف زيدان وفراس السواح بأنهما "أهم من طه حسين"، وإن اعتذر الأول في اليوم التالي باعتبارها مزحة، بدليل أن ملتقاهم كان تحت يافطة "50 عامًا على رحيل طه حسين". لكن الأمر تطور عندما قال بعض الأشخاص إنَّ مؤسسة تكوين مشبوهة، ليصل الأمر لاتهامها بأنها جزء من مؤامرة صهيونية تستهدف مصر.

ثم ما لبث أن تدخل الأزهر، ممثلًا على الأقل بأحد أعضاء هيئة علمائه، مصرحًا بأنهم يتابعون المؤسسة وما يُنشر عن تهديدها للدين الحنيف. وبالتوازي بدأت حملة تكفير، شارك فيها أشخاص يُفترض أنهم "متنورون"، ومؤمنون بحرية الفكر والعقيدة، لكنهم يرون في نماذج مثل إبراهيم عيسى ويوسف زيدان وفاطمة ناعوت وإسلام البحيري تهديدًا للدين.

لا أعلم توجهات مؤسسة تكوين، أو أهدافها. ولا أدافع عنها ولا أهاجمها. فعلى صفحتها الرسمية معلومات تفتقد للطعم والدسم، من نوعية النصوص التعريفية التي تقول كل شيء دون أن تقول شيئًا.

تفكيك وتكوين

جاء ترند تكوين ونحن مشغولون بترندات أخرى، أولها وأطولها حرب غزة وعملية إبادة شعبها منذ سبعة أشهر، وثانيها ترند "غامض"، لا نستطيع عزله تمامًا عن غزة والترتيبات المحتملة في سيناء، يرتبط باسم رجل الأعمال إبراهيم العرجاني، والإعلان عما يسمى بـ"اتحاد القبائل العربية".

لن يحقق الملتصقون بالسلطة والمتماهون معها خلال العقد الأسود الأخير أي حشد أو إجماع

إن كانت هناك سمة متكررة في أغلب الترندات التي تحقق الانتشار والجلبة، فستكون افتقاد المعلومات الموثقة الواضحة التي يمكن نسبها لمصادر تتمتع بالحد الأدنى من المصداقية. فإذا استثنينا غزة، التي تتوفر عن مذبحتها وعن القضية الفلسطينية كل المعلومات لمن يسعون للمعرفة، سنجد كثيرين انخرطوا بحماس في الترندين الآخرين، دون معلومات كافية لبناء مواقف، في بلد خلقت سلطته هذا الواقع تحديدًا؛ غياب المعلومات، وتجريم تداولها أحيانًا، وحصار الوسيط الطبيعي لنشر الأخبار؛ الصحافة. فالسلطة تعتبر أنَّ معرفة شعبها ضارة بها وتهديد لها.

على سبيل المثال، وقبل اجتياح رفح بساعات، نُشر خبر عن مصادر مُجهّلة بأنَّ إسرائيل أبلغت مصر أنها ستغلق معبر كرم أبو سالم، دون أن نعرف كيف أبلغتها، ومَن أبلغ مَن، وكيف ردت مصر على هذا الإبلاغ. وهي معلومات شديدة البساطة، لا تستحق السرية أو الكتمان.

واللافت في ترند لعبة العرجاني، الذي لا نستطيع التعاطي معه بمعزل عما يحدث بغزة، هو تراجعه السريع لصالح ترند تكوين، رغم أنَّ الأول أكثر أهمية، ويمس مستقبل الدولة والبلد والشعب.

لا يوجد على صفحة إبراهيم العرجاني على فيسبوك سوى تهانٍ يوجهها "للشعب" في مناسبات مختلفة، وإعلانات عن نشاطات شركاته "المبهرة". وجدت من بينها تعليقًا لامرأة مصرية، تستنجد به، وترجوه، ليُخرج أبناءها من غزة.

للوهلة الأولى، لا يبدو تعليق من هذا النوع مهمًا، في ضوء معرفتنا أنَّ إحدى شركاته تدير شيئًا ما، مبهمًا، يتعلق بمعبر رفح. لكن المثير للانتباه، هو كيف أصبحت شركةٌ خاصةٌ يمتلكها فرد الجهةَ التي نناشدها كمواطنين في مسألة تخص  على أقل تقدير الحكومة المصرية، أو تتعلق بشأن إقليمي بين أطراف ثلاثة؛ مصر، والجانب الفلسطيني الشريك في معبر رفح، والاحتلال الإسرائيلي.

لافتة دعم للسيسي عام 2022 يظهر فيها إبراهيم العرجاني

بل إن الفرد/الشركة الخاصة، هو من يُعلن تغيير اسم مدينة داخل حدود سيادة الدولة المصرية، وهو مَن يُقرر أن يسميها باسم رئيس الجمهورية، لا الجهات الإدارية المنوط بها مثل هذه الإجراءات.

وتتعاظم علامات الاستفهام حين نتأمل العرجاني وهو يفتتح مشاريع جديدة، وكأنه صاحب سلطة أعلى من الضباط الذين يرافقونه، في صور تشبه الصور التقليدية، مفتقدة المعنى، للرؤساء المصريين مُفتتحي المشاريع. وصولًا لأن يكون لاتحاد القبائل عَلم، هو علم مصري مُعدّل.

ربما تبدو الملاحظات السابقة، المتعلقة بالترند الذي أسميه رمزيًا بـ"تفكيك"، على عكس "تكوين"، شكلانية. لكنها تكتسب دلالاتها المثيرة للقلق حين تُضاف إليها مفارقات من نوعية أن يتحول شخص اتُهم برفع السلاح في مواجهة الدولة لرجل أعمال من الأكبر والأهم في المنطقة خلال سنوات قليلة، وبعلاقات إقليمية ودولية، ودور مسلح في سيناء، وتناقضات في الخطاب الدعائي، ما بين أن يكون اتحاد القبائل جمعية أهلية، أو كما يعتبره المتحدث باسمه كيانًا تابعًا للقوات المسلحة، وصولًا لتدخله في مسائل ينحصر التعامل معها في المؤسسات السيادية لأي دولة، مثل مخاطبة مجلس الأمن في بيانه بشأن اجتياح رفح.

طه حسين ومادونا

اختتمت المغنية الأمريكية مادونا جولتها العالمية الأخيرة بحفل مجاني على أكبر شواطئ مدينة ريو دى جانيرو في البرازيل؛ كوباكابانا. حضر الحفل أكثر من مليون ونصف المليون رجل وامرأة، من كل الأعمار والمستويات الاجتماعية والتوجهات الثقافية والفكرية.

أثار رقم المليون ونصف المليون الحاضرين لحفل "ملكة البوب" دهشة بعض المصريين على السوشيال ميديا، وكادوا لا يصدقونه. وأتصور أنَّ منبع الدهشة هو عدم قدرتهم على تخيل أن يكون بمقدرة فنانة أو فنان حشد هذا الكم من البشر في مكان واحد، وتوحيدهم، ليستمعوا إليها.

ماذا سيحدث إن أتت مادونا لتغني عندنا؟!

لا يمكن أن تغني مادونا في مصر لأسباب كثيرة. أولها وأهمها السلطة، ونظرية المؤامرة، والدين والتقاليد. نستطيع بسهولة توقع رفض مادونا أن تحبسها السلطة، التي لا تحتمل أيَّ نوع من الحشود، وتراها تهديدًا لأمنها إذا اجتمعت في قاعة، أو حتى ملعب رياضي، والاستثناءات محدودة. فكيف هو الحال بمكان مفتوح يسع كل هذا الكم من البشر؟

كما سترفض قطاعات واسعة من المواطنين حفل مادونا "المُنحلة"، محترفة تدمير التابوهات، لما تمثله من أفكار وقيم ومعانٍ. وهذا هو الجانب الديني والمتعلق بالتقاليد. لكن قطاعات أكبر سترفضها لسبب آخر، سيرون حفلها مؤامرة، لمجرد عدم معرفتهم بمادونا. أي، مرة أخرى، لعدم توافر المعلومات، وغياب حرية التعبير عن الرأي والخلاف المبني على المعرفة. وهذا القطاع تحديدًا لا يُدان بسبب استشعاره للمؤامرات وتخيلها. بل تُسأل الدولة عن مناخ البارانويا الذي خلقته بسياساتها وقمعها.

لا يتوقف الأمر عند مادونا، فلم يعد خيال خيري بشارة في فيلم آيس كريم في جليم قابلًا للتحقق، بسبب حالة العداء المستحكمة بين السلطة وشعبها. لم يعد باستطاعة المغني المجهول سيف/عمرو دياب وفرقته أن يغنوا في أحد شوارع المعادي الهادئة ليلًا، أو في وسط البلد، أو في حارة فقيرة، أو في حفل مفتوح على أحد شواطئ الإسكندرية مثلما يحدث في نهاية الفيلم. لا يمكن لفرقة سيف أن تغني في أيٍّ من شوارعنا، مجانًا، ليستمتع بها "الشعب". وإن كان مسموحًا في بلد المنتجعات والكومباوندات الغناء في قرى الساحل الشمالي السياحية، المملوكة للأغنياء.

يعيدنا الحديث عن مادونا، وعن تخيّل الغناء في المجال العام، إلى"تكوين" يوسف زيدان وإبراهيم عيسى وزملائهما، التي تبدو كتنوير في منتجعات مُنارة. فالأسماء المعروفة المنشورة على صفحة المؤسسة، يجمعهم أنهم جميعًا طيور مغردة منفردة، قيمة كل منهم الأساسية هي الشهرة، والقدرة على جذب الانتباه، و"الفرقعة". وإن تجمعوا، في تكوين أو غيرها، سيغنون لتنوير نخبوي مُفرغ من محتواه، وكأنهم يغنون في كومباوند، بين الفيلات والقصور، لا يستطيع دخوله الشعب المفترض أنه هدف هذا التنوير.

https://www.youtube.com/watch?v=C4GtG2Sjfao&ab_channel=LAISLABONITAMADONNAFANSCLUBARGENTINA

نحو معارك آمنة 

ليست المسألة مَن الأهم، طه حسين أم هُم. الأهم هو أنَّ طه حسين لم يكن يغني في منتجعات سياحية، بل كان، وكثرٌ من معاصريه، يغنون في الجامعة، وفي ملتقيات مفتوحة، وعلى صفحات الجرائد.

كان طه حسين واعيًا، على عكس تكوين، بأنَّ التنوير ليس مجموعة أفكار تُطرح على مجموعة من الناس فتخلق واقعًا جديدًا. بل تتكون هذه الأفكار نتيجة واقع ملموس وصراعات اجتماعية، فتكون أفكارًا لها أساس، وقادرة على التأثير والتغيير.

لذلك "غنّى" طه حسين، مجازًا، لتنوير وتقدم ومعرفة ومنهج علمي، غير منفصلة عن أسئلة مجتمعه السياسية والاجتماعية والمعيشية، وهذا تحديدًا هو ما لا يستطيع الاقتراب منه مؤسسو، ومُمولو، ومُشكلو الفريق الأساسي لتكوين.

صورة نشرتها صفحة "العرجاني جروب" لـ "الجولة التفقدية للمهندس إبراهيم العرجاني، والكابتن عصام العرجاني والسادة الزوار" لقرى في سيناء. 10 مارس 2024.

على سبيل المثال، هل يستطيعون العمل ضد الفكرة الرجعية والتفكيكية المتمثلة في تشكيل اتحاد للقبائل؟! وضد تنصيب العرجاني كأحد ملوك الطوائف؟! بالتأكيد لا. لأن السلطة، التي لم تتوقف عن اتهام معارضيها منذ يوليو/تموز 2013 بمحاولة تفكيك الدولة والجيش، تبارك الاتحاد بما يحمله من أخطار تفكيكية. وبالتالي سيتجاهلون كونه خطوة للوراء، ترتد لعصور المماليك، لتفكيك الفكرة الأساس للدولة القومية نفسها، لصالح أُسس عائلية، أو قبلية، أو دينية، أو عرقية.

رغم أنَّ "التنوير" لا يُختصر فيما هو ديني، فإنَّ تجديد الخطاب الديني المزعوم، على طريقة تكوين أو غيرها، مستحيل استحالة أن تغني مادونا على شاطئ سكندري، وأن تتحقق فانتازيا خيري بشارة القديمة. لأن السلطة، أو أي مؤسسة نُخبوية، لا تستطيع تجديد أي شيء دون فتح المجال العام والسماح بصراع سياسي وثقافي واجتماعي في إطار ديمقراطي وحر.

بينما في بلادنا، أصبح مجرد تداول المعلومات والمعرفة، والحوار حولهما، ممنوعان.

لم تخلق مادونا حشدًا مذهلًا وفقط، بل أيضًا إجماعًا على منتج ثقافي وفني يُنظر إليه كثيرًا باستخفاف. وكلاهما، الحشد والإجماع، لن يحققهما، في حالتنا، الملتصقون بالسلطة والمتماهون معها خلال العقد الأسود الأخير، أيًا كان مجال غنائهم، وأيًا كان اسم مشروعهم.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.