كانت الأوضاع شبه هادئة في بورتسودان قبل أن تصلها سمية حسن شحاتة، فعاصمة ولاية البحر الأحمر، شرق السودان، اتخذتها قيادة مجلس السيادة الانتقالي، الذي يرأسه عبد الفتاح البرهان قائد الجيش، مقرًا لها، لكن ذلك لم يدم طويلًا، إذ وصلت قوات الدعم السريع إلى ولاية سنار الواقعة جنوب شرق السودان على الحدود المتاخمة لإقليم الشرق لتتبدل الأوضاع.
سيطرت قوات الدعم السريع على مدينة سنجة، عاصمة ولاية سنار، جنوب شرق السودان، مطلع يوليو/تموز الماضي، وقالت المنظمة الدولية للهجرة في تقرير أخير إن نحو 151.7 ألف شخص أُجبروا على النزوح من ولاية سنار عقب الأحداث الأخيرة بالولاية ما خلق أوضاعًا ضاغطةً في ولايات الشرق الثلاث (القضارف وكسلا والبحر الأحمر)، التي ظلت منذ بدء الحرب في 15 أبريل/نيسان من العام الماضي مركزًا لاستقبال النازحين من الأماكن التي طالتها الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع.
نزحت ابنة سمية المتزوجة منذ بداية الحرب إلى ولاية البحر الأحمر، فشجعت والدتها على أن تلحق بها، تقول المرأة الخمسينية لـ المنصة "جيت على بورتسودان وما كنت أعرف إن الأوضاع سيئة كدا".
الغلاء يهدد الأمان
كانت الأوضاع المعيشية مقبولة عند وصول سمية، ربة المنزل، إلى المدينة البعيدة عن الاشتباكات، لكن مع أنباء وصول قوات الدعم السريع إلى سنار بدأت الأسعار في الارتفاع بشكل جنوني.
نظمت قوات الدعم السريع في 24 يونيو/حزيران الماضي حملةً عسكريةً للاستيلاء على مدينة سنار، التي تعد مركزًا تجاريًا، لكنها سرعان ما تحولت إلى مدينتين أصغر، هما سنجة والدندر، مما أدى إلى نزوح جماعي من المدن الثلاث إلى ولايتي القضارف والنيل الأزرق المجاورتين.
يصل سعر برميل المياه الواحد إلى 6 آلاف جنيه سوداني
استأجرت سمية منزلًا في منطقة سواكن على بعد 50 كيلومترًا من بورتسودان، بمبلغ 400 ألف جنيه سوداني (الدولار = 2700 جنيه سوداني) رغم أن إيجاره قبل الحرب لم يكن يتجاوز 30 ألفًا.
تصف سمية البيت الذي تسكنه "غرفتين وصالة صغيرة لا تزيد مساحتها عن 80 مترًا، عايشين فيه 17 نفر، زوجي وستة من أولادي في منهم اثنين متزوجين ومعاهم 7 أطفال".
البناية لا يصل إليها الماء، لذا عليهم شراؤه يوميًا، ويصل سعر البرميل الواحد إلى 6 آلاف جنيه سوداني "نحتاج إلى برميلين في اليوم"، تقول سمية.
تكتفي سمية وأسرتها بوجبتين يوميًا إن استطاعت توفيرهما مكونتين من الفول والعدس في الإفطار وأرز ومكرونة في الغداء، تقول "زوجي ع المعاش وما في شغل للولاد يشتغلوا، معتمدين على الفلوس اللي جايبينها معانا من الخرطوم. زوج بنتي بس اللي بيشتغل".
فكرت المرأة الخمسينية كثيرًا في الذهاب إلى إحدى مدارس بورتسودان للنزوح فيها، لصعوبة توفير احتياجاتها اليومية ودفع إيجار المنزل، "شهر أبريل اللي فات حكومة البحر الأحمر طردت كتير من النازحين من المدراس عشان ترجع تشغلها وتبدأ العام الدراسي"، تقول سمية مبررة خوفها من المصير ذاته.
إما التعليم أو الإيواء
في منتصف أبريل الماضي، وفي محاولة لتجاوز آثار الحرب، استأنفت ولاية البحر الأحمر العملية التعليمية لجميع المراحل الأساسية والثانوية، للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب التي أوقفت الدراسة في جميع الولايات السودانية بما فيها التي تتمتع باستقرار أمني بسبب استخدام المدارس مراكز إيواء للنازحين.
وحسب تصريحات إعلامية لوالي البحر الأحمر مصطفى محمد نور، في ذلك الحين، فإن الحكومة السودانية اتخذت حزمة من التدابير لضمان استمرار العملية التعليمية "بينها تفريغ حوالي 34 مدرسة، وتم نصب أكثر من ألف خيمة تحوي حوالي أربعة آلاف وافد".
غير أن نادية محمد علي، الصحفية والناشطة في المجتمع المدني، التي تقيم في ولاية كسلا تنقل صورة مختلفة، تقول لـ المنصة "يتوافد الأهالي على المدارس هنا دون أن يوجههم أحد، فلا يجدون أمامهم سوى الفصول ليحتموا بها، وإن لم تكن مجهزة لاستقبالهم"، مشيرة إلى أن عددًا كبيرًا من المدارس لم تبدأ فيها العملية التعليمية وجرى تجهيزها لاستقبال مزيد من النازحين.
نزحت نادية من الخرطوم خلال الشهر الأول من الحرب ووصلت إلى مسقط رأسها/ كسلا بصحبة أسرتها، لتكون شاهدة على بدء تكوين مراكز الإيواء في أنحاء عديدة من الولاية بطريقة عفوية، إذ لجأ النازحون ممن لم يكن لديهم المال الكافي لاستئجار بيوت إلى المدارس "لكنني في ذلك الحين ذهبت إلى مصر ومكثت فيها أربعة أشهر قبل أن أعود ثانية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى أهلي لأجد الوضع تبدل" تقول نادية.
"مدارس مكتظة بالنازحين ومؤسسات علاجية غير قادرة على استقبال حالات المرضى ولجان شعبية تشكلت لتوصيل المساعدات ومواطنون يبحثون عن موطئ قدم يمكن أن يحميهم من ويلات النزوح"، تصف الصحفية الوضع بعد شهور من الحرب.
مساعدات المجتمع المدني
في هذه المرحلة لم يكن للحكومة السودانية أدوار حقيقية في التعامل مع حركة النزوح الهائلة، في المقابل كانت الجهود الشعبية حاضرة، تشير نادية إلى تشكيل لجان في كل منطقة مهمتها استقبال النازحين وتسجيلهم، وهو ما فتح المجال لتدخُّل منظمة الهلال الأحمر السوداني وديوان الزكاة السوداني، اللتين لا تزالان تقدمان المساعدات. وذلك قبل أن تلتفت حكومة الولاية إلى ضرورة تدخلها لتأخذ دورًا تنظيميًا وإشرافيًا على هذه اللجان.
يصل عدد النازحين بمدارس كسلا إلى 97 ألف شخص حسب الأرقام التي حصلت عليها نادية من ديوان الزكاة السوداني، فيما يصل إجمالي من وصلوا الولاية منذ اندلاع الحرب وسكنوا بيوت أقاربهم أو المستأجرين أو غير المسجلين إلى نحو مليون مواطن في ولاية تبلغ مساحتها 42 ألف كيلو متر مربع ويبلغ عدد سكانها الأصليين مليونًا ونصف المليون.
تعتبر كسلا من الولايات الآمنة في السودان، لذا يلجأ إليها النازحون من الولايات الشرقية التي باتت قوات الدعم السريع قريبة من اقتحامها مثل قضارف، التي لا تبعد عنها سوى نحو 200 كيلومتر.
"النازحون تفرقوا على 11 محلية تابعة للولاية وذهبوا إلى القرى بحثًا عن مكان يؤويهم وهؤلاء يعانون أوضاعًا أكثر مأساوية ويصعب حصر أعدادهم، كما أن البعض ذهب إلى بعض أماكن السكن المهجورة في أحد الكمباوندات التي كانت مجهزة للعيش دون أن تكتمل" توضح نادية الوضع.
لا يبقى النازحون في كسلا طويلًا، تشرح الصحفية السودانية "يتجهز عدد كبير منهم للفرار خارج البلاد عبر الطريق البري الذي يربط كسلا بإرتيريا ومن هناك يمكن الحصول على تأشيرة لدخول إحدى الدول الخليجية مع إغلاق هذه الدول سفاراتها في السودان". أدت الحرب إلى أكبر عدد من النازحين في العالم، حيث يبلغ عددهم أكثر من 11 مليون شخص.
يوميات النزوح
في ولاية القضارف، ثالث ولايات الإقليم الشرقي في السودان، تشارك سارة الحاج، وهي عضو مبادرة "نفاج"، في تقديم المساعدات للنساء السودانيات، إذ أضحت ملجأً للهاربين من ولايات عديدة اقتربت منها الحرب أو وصلتها، خاصة ولايات النيل الأبيض والجزيرة وسنار وجنوب كرفان.
يعاني حوالي 26 مليون سوداني من الجوع الحاد
"النازحين ما بيلاقوا أماكن بيناموا في الشوارع لأيام طويلة، بيقعدوا في ظل الشجر والبنايات بالنهار وفي الليل ع الأرصفة" تقول سارة لـ المنصة.
يصل النازحون من ولاية سنار إلى القضارف منهكين بعد رحلة تستغرق ما بين 5 إلى 9 أيام، تقول سارة في اتصال هاتفي "يتعرض الكثير منهم للسرقة والنهب ومنهم من يركب إما شاحنات كبيرة أو عربات كارو التي تعتمد على الحمار للسير بهم مسافات طويلة لحين إيجاد سيارة يمكن أن تُكمل بهم الطريق إلى القضارف".
لا يختلف الوضع الاقتصادي في القضارف عن غيرها من الولايات على الرغم من الأمان، تصف سارة الوضع "الولاية التي توصف بأنها إنتاجية توقفت تقريبًا عن إنتاج أي شيء في ظل غياب الاهتمام الحكومي وتأثير الحرب"، فقد المواطنون القدرة على دفع إيجارات منازلهم بعد أن ارتفعت لتصل إلى 1000 دولار في الشهر الواحد بالنسبة للبيوت والشقق الصغيرة، ما يجعلهم يفضلون الهجرة إلى مصر أو أوغندا حيث الأسعار في هاتين الدولتين ستكون أرخص حسب الناشطة الحقوقية.
وهو ما أكده مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، الذي أعرب عن قلقه البالغ إزاء تدهور الوضع الغذائي في السودان، حيث يعاني حوالي 26 مليون شخص من الجوع الحاد.
ورغم ذلك لا تجد سمية سبيلًا آخر سوى البقاء في الولاية الآمنة، مع محاولاتها لإيجاد عمل لأبنائها لمساعدتها على إعالة أسرتها الكبيرة، تقول "مهما كان الوضع سيئ والتحصل على الفلوس صعب، لكن أفضل من البهدلة في الخيام ومراكز الإيواء".