كان من المفترض أن أكون مهندسًا. تخرجتُ في كلية الهندسة، قسم كهرباء اتصالات، لكني وجدت شغفي في التدريس، فاتجهت للعمل معلمًا للفيزياء والرياضيات منذ إحدى عشرة سنة في مدرسة خاصة غير هادفة للربح؛ لم تكن يومًا الدروس الخصوصية من اهتماماتي، لم أُقبل عليها كما لم تُقبل هي عليّ.
ترك لي ذلك وقتًا استطعت فيه ممارسة الكثير من الأنشطة المحببة إليّ، مثل قراءة الكتب ومشاهدة الأفلام وقضاء أوقات مع الأسرة، واستمتعت بحضور الحفلات والفعاليات الثقافية، وكان لدي متسع للتفكير في أنشطة للطلاب والمعلمين، والأهم من ذلك كله؛ الاسترخاء والراحة الجسدية.
لكني في المقابل بلغت من العمر 40 سنة، لم أحقق فيها لنفسي حياة كريمة مستقلة وليس لديّ أمان اجتماعي. يكفيني راتبي، الذي لا يتجاوز الأربعة آلاف جنيه، بالكاد، رغم أني أعزب وأقيم مع والديّ وليست عليّ التزامات ومسؤوليات مادية.
يتقاضى المدرسون أجورًا لا تصل إلى الحد الأدنى للأجور
هل أثّر أحدنا على الآخر أنا وشقيقتي ساندي التي تصغرني بسبع سنوات؟ هي الأخرى معلمة رياض أطفال في مدرسة خاصة فرنسية، ولكن على العكس مني، فمدرستها استثمارية. ورغم ذلك، فبعد ست سنوات من الخبرة تتقاضى ساندي 3300 جنيه شهريًا. ولأنها تقيم معنا في المنزل وليس عليها التزامات مادية كبيرة قرَّرت شقيقتي أن تحد من إعطاء الدروس الخصوصية، لتجد وقتًا للراحة وممارسة هواياتها.
ولكن ماذا عن المعلمين الذين يعولون أسرًا ويتحملون مسؤوليات والتزامات، كيف يعيشون مع تضخم أسعار السلع والخدمات في ظل خصخصة أساسيات كالصحة والتعليم والمواصلات والثقافة والرياضة والترفيه... بينما الأجور في هذا القطاع أدنى من الحد الأدنى للأجور، الذي ارتفع إلى 6 آلاف جنيه في مارس/آذار الماضي.
يوم في حياة مليون معلم
في مصر مليون معلم تقريبًا. أغلبهم ما إن ينتهون من عملهم في المدرسة نهارًا يبدأون مساءً عملًا آخر في الدروس الخصوصية، ليقضوا في العمل يوميًا ما يزيد على 14 ساعة مستنزفين بذلك وقتهم وصحتهم، بما يؤثر سلبًا على حياتهم الاجتماعية والأسرية.
ومن بين هؤلاء صديقي محمد خليفة، معلم اللغة العربية الذي يبلغ من العمر 42 سنة. يقول خليفة الذي يعمل في مدرسة خاصة غير هادفة للربح، "تحرمني الدروس الخصوصية من الجلسة الأسرية والراحة والتحضير الجيد لليوم الجديد، وإنتاج أفكار جديدة"، يبدأ محمد الدروس بمجرد انتهاء اليوم الدراسي حتى العاشرة مساءً، ويتحصل فقط على نصف يوم إجازة في الأسبوع.
لا يجد محمد وقتًا ليس فقط للترفيه، لكن أيضًا لتطوير نفسه مهنيًا، يقول "عملت تمهيدي ماجستير سنة 2015 وبسبب إني لازم أشتغل دروس ملحقتش أعمل الرسالة. لو كان عندي وقت كنت هطور من نفسي في شغلي وكنت حعمل أفكار للطلاب نقرب بيها من بعض".
كذلك حال مراد أمين معلم الفلسفة وعلم النفس، البالغ من العمر 45 سنة، يقول "عملت دبلومة تربوي وكنت ناوي أعمل بعدها دبلومة في علم النفس التربوي، تفيدني في شغلي، لكن مفيش وقت".
يدرك مراد، الذي يعمل في مدرسة خاصة غير هادفة للربح، أن المقررات العلمية التي يُدرِّسها؛ الفلسفة وعلميّ النفس والاجتماع، تحتاج إلى معلم واسع الاطلاع "لازم المدرس إللي يشتغل المواد دي تكون معلوماته وثقافته أوسع بكتير من اللي موجودة في المنهج"، فهو حسب قوله يستهدف تعليم طلابه وليس فقط إعدادهم لاجتياز الامتحان حال الكثير من المعلمين.
طبقة البريكاريا
تعتبر الدروس الخصوصية جزءًا تكميليًا في العملية التعليمية باتفاق ضمني بين الوزارة والمعلمين وأولياء الأمور، فالطالب لا يحصّل من المدرسة ما يفيده، معتمدًا على الدروس، والوزارة بدورها لا تمنح المعلمين رواتب تكفيهم اعتمادًا على ما يحصلون عليه من الدروس. ولكن بخلاف أنها دخل غير ثابت، وغير مضمون، فالمعلم يبدأ عامه الدراسي الجديد دون أن يدري هل سيقبل على دروسه الخاصة الطلاب أم لا، وكم سيكون عددهم، وبالتالي لا يستطيع تحديد دخله، ولا يعرف كيف سيكون مستوى معيشة أسرته.
تلازم هذه المخاوف المعلم على مدار السنة الدراسية، خاصة مع التغييرات المفاجئة التي تقوم بها الوزارة، المتسمة بالعشوائية، مثل إلغاء مادتي الفلسفة وعلم النفس والاجتماع وإخراج اللغة الأجنبية الثانية من المجموع.
يقول مراد "أنا وكل مدرسين الفلسفة إللي أعرفهم كلنا بندور على بديل عن مهنة التدريس، أو حاجة جنب التدريس". ومن هنا يمكن سحب مصطلح البريكاريا، أي الطبقة التي تعتمد في دخلها على عمل متقلقل/precarious work، على المدرسين باعتبارهم يعتمدون في دخلهم على الدروس، ما ينزع عنهم راحة البال ويؤثر على سلامتهم النفسية وممارستهم المهنية.
كان من المتوقع أن ينسحب قرار رفع الحد الأدنى للأجور ليصبح 6000 جنيه بدلًا من 3500 على القطاع الخاص بدءًا من مايو الماضي، لكنه لم يطل مدرسي القطاعين العام والخاص، إذ لا تزال الرواتب حول نصف الحد الأدنى.
في الوقت الذي تبلغ فيه نسبة ميزانية التعليم في تونس 15% من إجمالي ميزانية الدولة، وفي الجزائر 10.18%، فإنها تقتصر في مصر 7.6% من إجمالي الموازنة، ما لا يسمح بتوفير أجور تضمن للمعلمين حياة كريمة تتناسب ومعدلات التضخم، التي ارتفعت خلال أغسطس/آب الماضي إلى 25.6%.
أما بالنسبة للمدارس الخاصة، فأغلب الفئة التي نتحدث عنها تعجز عن توفير الحد الأدنى للأجور بسبب عجز ميزانيتها، تنفيذًا لقرار مجلس رئاسة الوزراء.
يرى خليفة أن على الدولة رفع الأجور بما يتماشى مع الوضع الاقتصادي، معللًا "حفاظًا على كرامة المعلم وعشان مايبقاش مضغوط بسبب قلقه من عدم قدرته الوفاء بالتزاماته الأساسية". في حين تقترح ساندي "الدولة تدي ميزانية للمدارس اللي ما بتكسبش".
ميزانية التعليم أولًا
تبدأ عملية إنقاذ المعلم من رفع ميزانية التعليم بالقدر الذي يوفر للمعلمين في المدارس الحكومية والخاصة أجورًا تتناسب مع متطلبات المعيشة، دون اللجوء لعمل آخر مساءً، ليتمكن المدرس من تحقيق توازن بين حياته المهنية والشخصية/work-life balance، وليتمكن من أداء عمله باحترافية.
لا أقدم حلًا جديدًا، إذ ورد الكلام ذاته في كتاب مستقبل الثقافة في مصر، الذي يدين فيه طه حسين الدولة لتخصيصها نسبة كبيرة من موازنتها للدفاع الحربي مقابل نسبة ضئيلة جدًا للتعليم:
"وليست حاجة الشعب إلى التعليم الصالح بأقل من حاجته إلى الدفاع الوطني المتين، فالشعب ليس مُعرضًا للخطر الذي يأتيه من خارج حين يُغير عليه الأجنبي الطامع فحسب، ولكنه مُعرَّض للخطر الذي يأتيه من داخل حين يفتك الجهل بأخلاقه ومرافقه، ويجعله عبدًا للأجنبي المتفوق عليه في العلم.
وليس يغني عن مصر ولا يكفل لها استقلالها الصحيح، أن يكون لها جيش قوي عزيز يحمي حوزتها ويزود عن حدودها، إذا كان وراء هذا الجيش ومن دون هذه الحدود شعب جاهل غافل".
ربما علينا أن ننضم جميعًا لدعوة طه حسين لرفع ميزانية التعليم، فترتفع أجور المعلمين، بما يسمح لي الاستمرار في المجال الذي أحببته وأجتهد لتطوير نفسي فيه، دون أن أتخلى عن الحدود الدنيا من جودة الحياة، ودون أن أضطر للعمل مساءً في منظومة موازية من أجل الحصول على حياة كريمة. أتمنى أن أعود إلى مصر بعد رحلة دراستي للماجستير في فرنسا لأجد الأحوال قد تغيرت.