بينما كنت أتابع فرحة الكثيرين بحفل افتتاح مهرجان القاهرة السينمائي، الأسبوع الماضي، وبما يمكن وصفه بـ"احتفاء" المهرجان بفلسطين، عبر الأزياء، ودبابيس خريطة فلسطين المعلقة على الملابس، واختيار فيلم للمخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي في الافتتاح، ورقص فرقة دبكة فلسطينية، غلبتني الحيرة تجاه هذا المشهد، ومعها إحساس بالحزن على حالتنا البائسة.
رؤية "الفرحة" باعتبارها تعبيرًا عن "بؤس" قليلي البخت الذين يفرحون بمجرد حفل افتتاح، اختلطت بالحيرة؛ فكيف تسمح السلطة الحاكمة لإحدى المؤسسات التابعة للدولة، مهرجان القاهرة، بالتضامن مع فلسطين، بينما تسير مجمل سياساتها تجاه القضية الفلسطينية وتجاه الإبادة في نهج مختلف؟
أشار الصحفي حسام السكري في بوست على فيسبوك إلى مفارقة أن السلطة التي ألقت القبض على مائة مواطن لتضامنهم مع فلسطين، وما زالت تحبس عددًا منهم وتهدد مستقبلهم، هي التي سمحت، بل وبادرت واتخذت هي، لا حسين فهمي، ودون نفي احتمالية أن يكون اقتراحه أو اقتراح أحد من فريقه، قرارًا سياسيًا بأن يحتفي حفل الافتتاح بفلسطين ويتضامن مع شعبها.
كيف تسجن مواطنًا لأنه رفع علم فلسطين بينما ترحب، أو توافق، أو تقرر، أن يفعل نجم مشهور الأمر نفسه؟! بل والأهم من الدبكة والدبوس والكوفية والملابس والفيلم، أن يؤكد النجم أن هذه المؤسسة، ومرة أخرى كي لا ننسى: التابعة للدولة، ملتزمة بقائمة المقاطعة، ورفض رعاية الشركات الواردة فيها!
قليل البخت يرضى بقليله
نحن، قليلو البخت والحيلة، الذين نفرح ونرضى بقليلنا، نجد أنفسنا أمام وضع مُلغَّز لا تفك شفرته النكات، ولا التهليل وبوستات تبجيل النجم حسين فهمي، والمهرجان، والفنانين الذين اختاروا رفع الشارة الفلسطينية. فتوجُّه السلطة المصرية، وممارساتها منذ بداية الإبادة، لم يكن في أي لحظة لصالح الفلسطينيين، ولم تسر أبدًا في طريق الرفض العملي والحاسم لإبادتهم، وللمشاريع الإسرائيلية المستقبلية التي لا نعلم من ملامحها حتى اللحظة سوى هدفها الحالي؛ المزيد من الدم والدمار، دون أن ندري إلى أين ستقود الفلسطينيين، وأي مصير سيواجهون.
لا داعي لتعداد هذه الممارسات، أو دلائل غياب موقف واضح للدولة المصرية خلال هذه السنة، للتدليل على أنها لم تفعل ما كان بإمكانها لصالح قضية الشعب الفلسطيني، فعن هذا الموضوع كُتب وقيل الكثير. ورغم كثرة الدلائل والممارسات، أكتفي بهذا السؤال الذي ألقاه حسام السكري، مرة أخرى؛ لماذا يُسجن مائة مواطن لأنهم فعلوا ما فعله حسين فهمي؟!
الوضع يقارب العبث. نحن سعداء بأن السلطة تسمح لحظيًا لمجموعة بعينها، وداخل قاعة مغلقة، أو على سجاجيد احتفالية حمراء، بما تمنعه عن الآخرين في كل مكان. سيكتفي هؤلاء الآخرون الغاضبون الذين تمنعهم السلطة من التظاهر، ومن بينهم أهالي المعتقلين تضامنًا مع الفلسطينيين، بمشاهدة تضامن المشاهير على التليفزيون في بيوتهم. وسيرى الممنوعون من الدعوة للمقاطعة مؤسسة المهرجان التابعة للدولة وهي تُشهر سلاح المقاطعة، رغم أنها تتعلق بجوهر سياسة الدولة المصرية، الاقتصادية على الأقل، ونستطيع أن نعتبرها "خطًا أحمر". فماذا تريد الدولة من هذا الوضع المركب والمتناقض والمربك؟! لماذا تضعنا في موقع المتفرجين الحائرين؟!
يمتد العبث إلى مستوى أن يخصص المهرجان قسمًا من أقسامه لما يسمونه بـ"أفلام المسافة صفر"، حسبما أعلنوا. فيما لم تصدر مصر ولو بيان إدانة واحد لاغتيال إسماعيل هنية، ولم تشارك ولو عبر مندوب في عزائه. هذا الذي كان رئيس وزراء فلسطين، وكان المسؤول السياسي عن المقاومة وعمليات المسافة صفر.
درجة البؤس والتناقض تدفع البعض لرفض التفكير، بحجة أننا لن نجد منطقًا يحكم أداء السلطة، وأن لا سبيل لحل ألغاز ممارساتها. فيكتفون بشخصنة المسألة لتكون رهنًا بشجاعة أو بـ"جدعنة" المسؤولين عن المهرجان. لكن الموضوع لا تفسره جدعنة الشخصية المتضامنة أو شجاعة مواقفها، ولا التفسير البسيط بأن لا منطق يحكم أداء السلطة من الأساس.
فالمهرجان، وحفل افتتاحه، والكثير من تفاصيله، تخضع مباشرة لإشراف الأجهزة السيادية وتوجهاتها وقراراتها وما تراه مناسبًا لمصالحها. كلنا نعلم ذلك، ليس فقط لأنه مهرجان تابع للدولة، بل لأن مجمل الشأن الثقافي المصري يخضع لإشراف الأجهزة الأمنية المختلفة والمتنوعة، ويُدار مباشرة منها.
تزامن مع افتتاح المهرجان، وفي نفس المساء، عرض أزياء وحفل "عالمي" فاخر في السعودية حضره بعض النجوم المصريين، بدلًا من وجودهم في الافتتاح المصري ذي النكهة الفلسطينية في القاهرة لمهرجانها/مهرجانهم السينمائي. فانتشرت تعليقات السب في هؤلاء، من ذهبوا لأموال تركي آل الشيخ، بدلًا من دعم افتتاح المهرجان المصري وإعلانه المتضامن مع الشعب الفلسطيني.
نحن من نتخذ المواقف ونشهر التضامن حين نريد وليس الشعب
لم يملك أصحاب الذهن الملوث، والنية السيئة، في هذه الحالة، سوى تخيل ضابط سيادي مهم، يجلس في غرفة لا نعرف مكانها، محاطة بالسرية، وأمامه قائمة بالمشاهير، يقسمها لقائمتين، قائمة من سيذهبون للسعودية من أجل حفلها، ومن سيبقون في القاهرة ليرفعوا شارة فلسطين، بعد أن أصبح الانتماء للمكانين معًا؛ القاهرة والرياض، غير ممكن.
هذا التخيل نفسه إهانة لجموع الفنانين المصريين، يصورهم كقطع شطرنج، وهو غير صحيح. لكنه مفهوم، كون العبث قد وصل، ومن قبل ليلة 13 نوفمبر/تشرين الثاني، إلى أن اللعبة لم تعد الشطرنج. بل إنها كراسٍ موسيقية يلعبها قطاع كبير من المشاهير والفنانين والمبدعين؛ مقعدك اليوم في القاهرة، وغدًا في الرياض، وبالتبادل بيننا. فبعض من ارتدوا الكوفية الفلسطينية، سيخلعونها قبل الصعود للطائرة المتجهة للسعودية من أجل الحفلة القادمة.
النظام الذي لا يعلم بماذا يرضى
لنبتعد عن الأفكار التقسيمية والمؤامراتية المبنية على فرضية أنَّ من يسمح بقسمٍ لأفلام المسافة صفر، ويمنح الإشارة لحسين فهمي لإعلان التزام المهرجان بالمقاطعة، ليس هو من يُلقي القبض على المتضامنين مع الشعب الفلسطيني، أو من يحفز المشاهير ليشاركوا في حفلات السعودية، أو يقرر ألا تشارك مصر في عزاء رئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق.
ولأن التضامن مع فلسطين خارج قاعة المهرجان خطر مثل التفكير والتأمل الجماعي، فلنحاول منفردين أن نفكك قليلًا تفاصيل هذا المشهد المُركَّب بدلًا من الاكتفاء بتوصيفه كلغز معقد سيبقى للأبد دون تفسير، والتقاط الفتات التي يلقونها لنا فنفرح ونستهلكها محليًا ومؤقتًا كسذج. وأخيرًا، بدلًا من شخصنة المسألة وحصرها في جدعنة وشهامة ووطنية البعض. فكل ما سبق لا يبتعد عن العبث، وربما يكون جوهر الموضوع أكثر واقعية ومنطقية من كل الطرق السابقة للتفسير.
ربما تريد السلطة التي تدير هذه الدولةَ البيروقراطية العريقةَ شاسعةَ الحجم، أن تؤكد على رسالتها الاستبدادية البسيطة والخالدة؛ نحن من نتخذ المواقف ونشهر التضامن حين نريد، وليس الشعب. اجلس في بيتك، وعلم فلسطين الذي تريد أن ترفعه في الشارع سنريك إياه على التليفزيون، معلقًا في بضعة أماكن من بينها سترة حسين فهمي. فنكتفي كمواطنين بالاستعراض التضامني اللحظي، والفرجة على ما لا نستطيع ممارسته، ونخدع أنفسنا: هل هناك أفضل أو أقوى أو أجمل من أن تحتل فلسطين شاشاتنا في ساعة افتتاح المهرجان؟!
لكن الاستبدالية، أن تسمح السلطة المصرية بفعل تضامن رمزي من قبل المشاهير بدلًا أن تسمح به للمواطنين، ليست التفسير الوحيد. ربما يكون الأمر أبعد من ذلك، خصوصًا مع إشهار المهرجان للمقاطعة، التي تمس جوهر السياسة المصرية. فربما تعاني دولتنا من أزمة وجودية، أزمة انفصام، لا تعي بسببها أين مصلحتها، وتقف أمام سؤال صعب لا تعرف إجابته: هل نحن مع الفلسطينيين أم مع الإسرائيليين؟ مع من تتحقق مصلحتنا؟
ربما تمتد أزمة الانفصام إلى سؤال "هل سنستمر في الصمت تجاه مخطط إسرائيلي/أمريكي لا نعرف ملامحه، ويتضمن على الأغلب مشاريع تهجير وضم للضفة وغزة؟!". مع الأخذ في الاعتبار أن هذه المخططات نفسها قابلة للتمدد، بسبب طبيعة إسرائيل كدولة عدوانية توسعية، وبسبب ثقة نتنياهو التي تضخمت خلال هذه السنة بأن لا أحد قادر على إيقافه، وبالذات بعد انتصار ترامب في الانتخابات الأمريكية، بحيث تمتد هذه المشاريع لما هو أبعد من مشروع اقتصادي إقليمي، خليجي/إسرائيلي، ستكون مصر تابعًا فيه، بعد القضاء على المقاومة في فلسطين ولبنان.
هذا التمدد نفسه في المشاريع الإسرائيلية/الأمريكية، أو الإسرائيلية/الخليجية، ربما يكون مقلقًا لدوائر سيادية مصرية، ربما ما زالت واعية بأن هناك ما يسمى بـ"الأمن القومي المصري"، وبأنه مهدد من بعض الدول الجارة و"الشقيقة".
ربما يكون النظام بمجمله حائرًا مثلنا كمتفرجين أفراد، يفكر، لا يعلم، فيفعل الشيء وعكسه. وهي الحالة الأكثر خطورة إن استمرت، لأن لا أحد يعلم إلى متى سيظل الفلسطينيون، ونحن قليلو البخت الراضون بقليلنا، على هذا المستوى من الرضا.