المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين
لاجئون سودانيون على حدود تشاد

وجبة الموت.. الجوع سلاحًا في حرب السودان

منشور الاثنين 20 يناير 2025

طبقُ الجراد المشوي مع أوراق الشجر، أصبحت هذه الوجبة الرئيسية للنازحين السودانيين في مخيمات دارفور مع شح الغذاء وندرته في غالبية مناطق السودان، بعدما لجأ طرفا الصراع لسلاح الجوع في الحرب الممتدة منذ أبريل/نيسان 2023.

وتسببت الحرب المشتعلة بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، في أكبر كارثة إنسانية في العالم، مع دخول نصف السكان تقريبًا في أزمة نقص غذاء متفاقمة.

استخدام الجوع في الحرب ليس جديدًا، فكان وما زال التحكم في الطعام والشراب ومنعه والسماح بالنفاذ إليه سلاحًا يستخدم في الحروب والصراعات لخدمة الأهداف السياسية والعسكرية، بالأخص لقلة تكلفته وسهولة إحكامه وتنفيذه. 

كارثة إنسانية

بعد مرور أكثر من عشرين شهرًا على الحرب، وضعت مبادرة التصنيف المتكامل للأمن الغذائي/ IPC نحو 24.6 مليون شخص (نصف سكان السودان تقريبًا) في مرحلة الأزمة بسبب انعدام الأمن الغذائي. 

يعوق المسيطرون على الأرض قدرة الإنسان على الوصول إلى وسائل الحياة

وبينما يغض العالم الطرفَ عن الانتهاكات المُمارسة في حق الأطفال والنساء بالسودان، تؤكد تقارير المرافق الطبية في جنوب دارفور أن هناك ما بين 4 إلى 5 أطفال يموتون كل يوم لأسباب تتعلق بسوء التغذية، كما ارتفعت معدلات وفيات الأمهات بنسبة 56% في نيالا وكاس جنوب دارفور من يناير/كانون الثاني إلى منتصف أغسطس/آب 2024.

ويمتلك السودان 175 مليون فدان صالحة للزراعة بالإضافة لمصادر مياه متنوعة من أنهار وبحيرات وأمطار موسمية هائلة تُقدّر بحوالي 440 مليار متر مكعب، وثروة حيوانية ضخمة قُدرت في عام 2022 بأكثر من 111 مليون رأس من الأبقار والأغنام والماعز والإبل.

التجويع في حروب السودان

من الطبيعي، وفق الأرقام السابقة، ألا تقترن مفردة المجاعة مع السودان في جملة واحدة، لكن الحروب والصراعات المسلحة أدت لهذا الترابط المتكرر. وسبق وشهد البلد الإفريقي الكبير عددًا من المجاعات، من بينها المجاعة التي وقعت جراء الصراع الممتد من عام 1986 حتى 1988، عندما اشتعلت الحرب على وقع الأزمات الاقتصادية والسياسات التي تبناها الرئيس السوداني جعفر النميري ونتج عنها تأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق.

وقتها تبنت الحكومة السودانية والميليشيات الموالية لها من العرب الرُحل، والحركة الشعبية لتحرير السودان، استراتيجيات حرمت العديد من المدنيين من الوصول إلى الغذاء، فأودت بحياة 250 ألف سودانى وأدت لنزوح مليون شخص.

في كل النزاعات لجأت أطراف الصراع لتجويع السودانيين بحصار المدن وقطع وسائل الإمداد

ومع تجدد الصراع في أغسطس/آب 1991، تفاقمت المجاعة في منطقة ريفية تضم ثلاث مدن هي كونقور ووأو وآيود، وأصبح نحو 1.5 مليون شخص في حاجة ماسة إلى مساعدات غذائية، وتكررت المأساة في 1998 بعدما اشتعل الصراع مجددًا في منطقة بحر الغزال، جنوب السودان، بين الحركة الشعبية لتحرير السودان والقوات المسلحة السودانية مع الميليشيات الداعمة لها (الجنجويد)، وحدثت مجاعة جديدة تأثر بها 2.6 مليون شخص في مناطق يسيطر عليها الطرفان.

في كل هذه النزاعات، لجأت أطراف الصراع لتجويع السودانيين من خلال حصار المدن وقطع وسائل الإمداد وسرقة المواشي وإحراق القرى، ففر الآلاف من ضحايا المجاعة من الجوع والرعب وهجرة مناطقهم الأصلية.

كيف يعمل السلاح الرخيص؟

توصل الباحثان دوفال وبريدجيت كونلي لـ4 سمات رئيسية للمجاعة تتوافق تمامًا مع ممارسات طرفي الصراع من القوات المسلحة والدعم السريع.

أولًا، لا يقتصر الحرمان من الوصول للغذاء على عرقلة أنشطة العمل والتجارة والبحث عن الطعام، بل يشمل الإضرار بالصحة العامة مع صعوبة الوصول إلى المياه النظيفة، وإجبار المواطنين على التجمع في ظروف غير صحية وتدمير المرافق الصحية وتدهور المساكن والمأوى.

وهذا ما أشارت إليه عدة تقارير، إذ نهبت قوات الدعم السريع الإمدادات الطبية في المستشفيات والمستودعات، وأطلقت قذائف الهاون، واقتحمت المستشفيات لتقديم الرعاية الصحية لجنودها فقط. 

تزامنت اتهامات العنف الجنسي مع منع الوصول للغذاء والتشريد وتدمير سبل العيش

تسبب ذلك في انهيار الوضع الصحي، بالأخص مع انتشار الأمراض الوبائية، إذ تشير التقديرات إلى 3.4 مليون طفل دون سن الخامسة معرضين لخطر الإصابة بالكوليرا والملاريا والحصبة.

ثانيًا، لا يُمنع الوصول إلى الغذاء فقط، بل تتزامن معه العديد من الانتهاكات منها العنف المباشر والعنف الجنسي والتشريد وتدمير سبل العيش والبنية الأساسية. وهو ما حدث خلال الحرب الممتدة في السودان، إذ وثقت منظمة هيومن رايتس ووتش عددًا من الجرائم التي ارتكبتها قوات الدعم، منها جرائم عنف جنسي واسعة النطاق في المناطق التي تسيطر عليها، فضلًا عن الاحتجاز غير القانوني للمدنيين.

ثالثًا، تتقاطع عملية التجويع مع أسباب أخرى للحرمان من الغذاء، بعضها تكون خارجة عن إرادة المجتمع مثل الضغوط البيئية، والكوارث الطبيعية، وهو ما حدث بالفعل في السودان، فتأثر نحو 491 ألف شخص بالأمطار الغزيرة التي هطلت في يونيو/حزيران 2024.

ويدخل في نطاق العوامل الخارجية، التفاوتات الاقتصادية والسياسات التي تسبب ضائقات اقتصادية، إما عن عمد أو عن طريق الخطأ، ويعد أحد أسباب الأزمة الاقتصادية في السودان سيطرة الجيش وميليشيات الدعم السريع على الاقتصاد، وتنافس الطرفين على المصالح التجارية عبر قطاعات التعدين والزراعة والصناعة.

رابعًا، في الأغلب تستغرق عملية تجويع الأفراد والسكان وقتًا طويلًا يمتد أحيانًا لسنوات حتى تصل لذروتها بإعلان المجاعة. لكن في السودان بعد وقت قصير لم يتعدَ 14 شهرًا، أعلن المجلس الفيدرالي للاستجابة للطوارئ المجاعة في مخيم زمزم بولاية شمال دارفور. 

منعت القوات المسلحة وصول المساعدات للمناطق التي تخضع لسيطرة الدعم السريع

وتوفر أنظمة المعلومات الإنسانية تشخيصات مفصلة لأبعاد ومسارات أزمة الغذاء، وتشير إلى ما يمكن القيام به لتخفيفها. لذلك صنف مشروع تقييم القدرات على الوصول الإنساني (ACAPS) القيود المفروضة على وصول المساعدات الإنسانية في السودان على أنها شديدة الأزمة.

واستغلت القوات المسلحة السودانية تعامل الأمم المتحدة معها باعتبارها تمثل السلطة الشرعية في البلاد وعمدت إلى توجيه وصول المساعدات إلى المناطق التي تسيطر عليها في شرق وشمال السودان ومنعت وصول المساعدات للمناطق تحت سيطرة الدعم السريع، ومعظمها تعاني بشدة من انعدام الأمن الغذائي مثل إقليم دارفور في غرب السودان.

لذا لم يستطع برنامج الغذاء العالمي إيصال المساعدات سوى إلى 10% من الذين يواجهون جوعًا حادًا شديدًا في جميع أنحاء السودان.

وفي محاولة لإنقاذ حياة الناس، بعدما فشلت المؤسسات السودانية والدولية في سد رمق الجوعى، أنشأت غرف الطوارئ المُشكلة من متطوعين محليين مطابخ مجتمعية عُرفت بمطابخ الخير، ومع هذا لم تسلم تلك المطابخ والتكيات من اعتداءات طرفي الصراع إذ سرقها ونهبها الجنود واعتدوا على المتطوعين واعتقالوهم ما تسبب في توقف التكايا عن تقديم الطعام.

ينذر الاستخدام المتصاعد للجوع سلاحًا في حرب السودان المحتدمة بمجاعة تاريخية لم يشهدها البلد العربي من قبل. بالطبع لا نعرف أسماء من ماتوا جوعًا في الصراعات السابقة أو في الحرب الحالية ولكن من نعرفهم جيدًا هم من تسببوا في هذه الجرائم.