صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي- ChatGPT
صورة متخيلة لمدينة ماكوندو كما وردت في رواية مائة عام من العزلة لجابرييل جارسيا ماركيز

مائة عام من العزلة على نتفليكس.. الشاشة تمتحن هيبة أشباح ماكوندو

منشور الخميس 30 يناير 2025

في عالم رواية مائة عام من العزلة للكاتب الكولمبي جابرييل جارسيا ماركيز، يفاجأ خوسيه أركاديو بوينديا رئيس عائلة بوينديا ومؤسس قرية ماكوندو التي بناها مع رفاقه على النحو الذي حلا لهم في عزلة عن العالم الخارجي، بمرسوم حكومي يقضي بوجوب طلاء جميع بيوت القرية باللون الأزرق احتفالًا بالذكرى السنوية للاستقلال الوطني.

وعلى غرار التحول المفاجئ في أحداث الرواية وبعد سنوات من التخيل الحر لعوالمها وشخصياتها، فوجئ القُرَّاء بإعلان نتفليكس في أكتوبر/تشرين الأول على إكس أن مسلسلًا يحمل الاسم نفسه للرواية الشهيرة، سيبدأ عرضه في 11 ديسمبر/كانون الأول 2024، وكأنه مرسوم آخر يقضي بوجوب طلاء خيالات القراء عن الرواية بالصور والألوان التي اختارها صناع العمل، بعد 43 عامًا من فوز ماركيز بجائزة نوبل بفضلها، و58 عامًا من طباعتها.

اهتمام متأخر لنص خالد

الخطوة التي أقدمت عليها نتفليكس كسرت عزلة النص عن عالم الواقع وخصوصيته السحرية. سيكون هناك شكل واحد لماكوندو، وشكل واحد لأورسولا زوجة مؤسس ماكوندو وشكل واحد للأشباح التي تظهر لهما.

لقطة من مسلسل مائة عام من العزلة لجانب من مدينة ماكوندو حيث يحيا ويتفاعل أبطال العمل، من إنتاج نتفليكس 2024

منذ صدرت الرواية في عام 1967 ومنذ حصولها على جائزة نوبل عام 1982 لم تقدم أي شركة إنتاج سينمائية أو تليفزيونية على تحويلها إلى عمل مصور.

يضاف إلى ذلك فتور حماس مؤلفها تجاه تحويلها إلى نص سينمائي كما أعلن في مرات عديدة متحفظًا على نمط الإخراج الهوليودي الذي يؤمرك التراث الإنساني العالمي في ستوديوهات تقدم صورًا مزيفة.

كان ماركيز متشككًا في قدرة الوسيط السينمائي على تقديم سحر النص بأمانة. ولكن بوفاته وبالاتفاق مع ورثته، أصبحت نتفليكس قادرة على أن تحكي الحكاية.

استغرق إعداد الموسم الأول عامين تقريبًا حتى خرج إلى النور، بين ترقب وتحفز من جمهور الرواية. طمأن المتحدث باسم نتفليكس الجمهور بأن المسلسل سيلتزم الأمانة في نقل روح/جوهر النص احترامًا لفرادة موقع الرواية في الأدب الكلاسيكي العالمي. واطمأن بعض الجمهور بهذا الوعد الذي يعني أن خيالهم عن ماكوندو لن يخرج عن تلك العزلة التي عاشت فيها قبل أن تصبح جزءًا من الإنتاج المصور.

تفاديًا لتخوف ماركيز الأول، حرصت نتفليكس على استقدام طاقم عمل كولومبي ليخرج العمل بلسان شخصيات الرواية، وصورت المشاهد في كولومبيا أيضًا. أما بالنسبة لتخوفه الثاني، فنستطيع القول إن ماركيز كان على حق. فالالتزام النصي بروح/جوهر العمل لم يكن كافيًا للحفاظ على سحر النص بسبب اختلاف الوسيط. فكما ذكر الكاتب التشيلي آريل دورفمان أن تعريف السحري في الأدب يختلف عن تعريفه في السينما. 

لقطة من مسلسل مائة عام من العزلة، نتفليكس 2024

على سبيل المثال فإن السحري في رواية مائة عام من العزلة هو تعامل أسرة بوينديا مع ظهورات الأشباح بشكل عادي، والتعاطف معهم وكأنهم ما زالوا على قيد الحياة، بينما تحولت مشاهد ظهور الأشباح في المسلسل إلى مشاهد مستنسخة من أفلام الرعب التقليدية. 

أكبر مخاوف ماركيز

لا يقدّم ماركيز نفسه بوصفه الوصي الوحيد على روايته. وليس لديه أي مشكلة مع اللغة الإنجليزية أو أي لغة أخرى في تقديم روايته. فهو بمنتهى الصدق قد امتدح ترجمة جريجوري راباسا الإنجليزية، بل وقال عنها أنها أفضل من أصلها الإسباني. وهذا ينفي عنه شبهة الخوف من تشويه أعماله لأسباب شخصية. ولكن دفاعه ينبع من رؤيته للوسائط المختلفة ومقدرة كل منها على ترجمة الخيال. ثقة ماركيز في الوسيط الأدبي في نقل الخيال أو السحر كما يسميه، يعبر عنها في أحد أقوى مشاهد الرواية في طقس أحلام اليقظة الجماعي الذي أصاب سكان ماكوندو في فترة وباء الأرق:

"لقد أصيبوا فعلا بعدوى داء الأرق… لم يستطيعوا النوم، وإنما أمضوا اليوم كله يحلمون وهم مستيقظون. وفي حالة هذيان اليقظة تلك لم يكونوا يرون صور أحلامهم فقط، وإنما كان كل منهم يرى الصور التي يحلم بها الآخرون أيضا. فبدا البيت كأنه قد امتلأ بالزوار".(*)

يشكل هذا المشهد حالة من البهجة لدى سكان ماكوندو. جو ديمقراطي تتآلف فيه جميع الرؤى والصور والأحلام جنبًا إلى جنب في نسق لا يشعر فيه أحد بامتيازات لا تتوفر للصور الأخرى. وهذا ما لا يحدث عندما نشاهد شريطًا مصورًا منقولًا من نص أدبي. هكذا يقضي قراء الرواية بترجماتها المتعددة وقتًا ممتعًا في تبادل انطباعاتهم عن الرواية بحرية.

ينطبق ذلك على القارئ الكولومبي وغير الكولومبي. ولكن بخروج هذا المشهد من عزلة السحر إلى زخم الإنتاج التليفزيوني تم إسقاطه تمامًا من حسابات صناع العمل. فتصوير تلك المشاهد المتداخلة بحذافيرها وتقديمها على الشاشة هو أمر شديد الاعتيادية في عالم المشاهدة التليفزيونية يشاهدها الجمهور يوميًا في الإعلانات وفيديوهات الأغاني والأفلام الخيالية، لا يحقق قدرًا ولو ضئيلًا من السحر الذي يقدمه وصف ذلك المشهد أدبيًا في الرواية. فتم الاستغناء عنه تماما والرهان على ما هو آمن، فقفز صناع المسلسل إلى خلق مشاهد فوضى عارمة وحرائق وهدم منازل لا تتوقف إلا مع ظهور سحري لميليكيادس بعلاج الأرق وعودة الأمور إلى طبيعتها. 

غاب عن نتفليكس أن الترجمة الحرفية التي تفترض إرضاء الجميع تفرض تفسيرًا أحاديًا للنص شديد الفقر

المشاهد الخيالية في المسلسل هي المشاهد الأضعف. فظهور شبح برونديسيو لبوينديا لم يكن مختلفا عن أي مشهد يظهر فيه شخص ميت في أي فيلم عربي شاهدناه من قبل. أما زكيبة عظام والدا ريبيكا المتحركة فكان لها وقع كوميدي على المشاهد. كما أن مشاهد شديدة الخيالية من الرواية تم استبعادها تمامًا مثل اختراع بوينديا لآلة الذاكرة أثناء ظاهرة الأرق والنسيان. إذن ماذا قصد صناع المسلسل بروح أو جوهر الرواية؟ 

الحديث عن جوهر أو روح الرواية يعيدنا إلى جريجوري راباسا مترجم النسخة الإنجليزية من الرواية عندما سُئل عن سر تميز ترجمته التي قال عنها ماركيز إنها أفضل من نسختها الإسبانية الأصلية، وصف راباسا عملية الترجمة بأنها نوع من الخلق الأدبي حيث يجب على المترجم أن يسكن عالم المؤلف ويبحث عن الروح ذاتها والمعنى ذاته في لغة مختلفة.

رؤية راباسا لعمل المترجم لم تلتزم بها نتفليكس أثناء تحويل الرواية إلى عمل تليفزيوني، فهي لم تتخيل كيف كان ماركيز ، الذي احترف كتابة السيناريو لفترة ليست بقصيرة، سيخرج روايته تليفزيونيًا، وظنت أنها بالمحافظة على الترجمة الحرفية تحافظ على هيبة الرواية الأدبية.

غاب عن نتفليكس أن الترجمة الحرفية التي تفترض إرضاء الجميع تفرض تفسيرًا أحاديًا للنص شديد الفقر. تشبه في ذلك القرار الذي اتخذه السيد موسكوتي بوجوب طلاء البيوت باللون الأزرق احتفالًا باستقلال البلاد. علينا جميعًا أن نحتفل باستقلال البلاد بنفس الطريقة!

https://www.youtube.com/watch?v=Ss-ZOKhxpK4

موقع آخر تفشل فيه نية المسلسل في الحفاظ على روح الرواية بالتمسك الحرفي بالتفاصيل التاريخية. في المواد الترويجية للمسلسل نجد طاقم الإخراج وتنسيق المشاهد يتحدثون بفخر شديد عن التزامهم بملابس وديكورات وإكسسوارات البيئة الكولومبية بين عامي 1850 و1950. متناسين أنهم بصدد عمل أدبي تخيلي بالأساس.

في الصفحة الأولى من الفصل الأول يصف ماركيز ماكوندو بـ"أن العالم كان حديث النشوء حتى أن أشياء كثيرة كانت لا تزال بلا أسماء، ومن أجل ذكرها لا بد من الإشارة إليها بالإصبع". بينما يحكي في الصفحة الأولى من الفصل الثاني تاريخ العالم قبل أحداث الرواية بثلاثة قرون بالإشارة إلى واقعة تاريخية حقيقية وهي هجوم القرصان فرنسيس دريك على مدينة ريوهاتشا في القرن السادس عشر. حيث لم يكن العالم حديث النشوء وكانت كل الأشياء لها أسماء.

يلعب ماركيز اللعبة نفسها لخلق السحر الأدبي بالتأرجح بين الواقع والخيال، بخلق السحر بين التاريخ وانتقائية الذاكرة ليزيد من رمادية هذه المنطقة لكيلا يطغى جانب على آخر، فيضحي بوعي شديد بالتزام التفاصيل التاريخية التي كانت محور اهتمام صناع المسلسل. وعلى عكس اهتمام الرواية بحكي الأحداث في تلك المنطقة الرمادية بين التاريخ وانتقائية الذاكرة حيث لا يعرف القارئ ماذا عليه أن يتوقع فيطير به إلى واقع سحري، يحكي المسلسل أحداثًا تقع بين عامي 1850 و1950 بالتزام حرفي في منطقة آمنة من السرد التاريخي.

رغم ابتعاد المسلسل عن روح الرواية المتمثل في السحر، فإن ذلك لا يقلل أبدًا من جودة العمل كمسلسل تاريخي سخي الإنتاج قدّم أداء تمثيليًا ومشاهد درامية في قمة الروعة والتأثير، إلى درجة تدمج المشاهد في الواقع التاريخي، لا يوقظه سوى ظهور رجل عجوز مربوط إلى شجرة كستناء ضخمة حزين على ما آلت إليه ماكوندو على أيدي أبنائه بعد تصميمهم على إخراج ماكوندو من العزلة والخصوصية والسحر.


(*)مائة عام من العزلة، ترجمة صالح علماني، دار المدى للثقافة والنشر، 2005، صفحة 60.