
DeepSeek والجولة الجديدة في حرب الشرائح الإلكترونية
في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أصدر الرئيس الأمريكي جو بايدن قرارًا بفرض عقوبات جديدة على الشركات المصدّرة لتكنولوجيا الشرائح الإلكترونية إلى الصين، في خطوة جديدة ضمن النزاع التجاري المستمر بين الولايات المتحدة والصين.
لطالما ساد في الوعي الجمعي أن الصين تنتج نسخًا أقل جودة أو "غير أصلية" من المنتجات الأمريكية. هذا الافتراض ليس دقيقًا في معظم الصناعات، إذ تعتمد جودة المنتجات على الجهات الرقابية في كل سوق.
على سبيل المثال، تُباع المنتجات الصينية التي تُصنَّف أقلَّ جودة في مصر بمعايير مختلفة تمامًا عن النسخ عالية الجودة التي تُباع في أوروبا، رغم أنها تُنتج في المصانع نفسها. مع ذلك، هناك صناعات لا تزال الصين مُتأخّرة فيها مقارنة بنظيراتها الأمريكية والغربية، منها صناعة الشرائح الإلكترونية.
في السنوات الأخيرة، انصبّ التركيز العالمي على تطوير أصغر الشرائح الإلكترونية وأكثرها كفاءة. وبينما تقود تايوان وكوريا الجنوبية هذا السباق، أدّت أزمات سلاسل التوريد والتوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى انتقال السباق بينهما نحو هدف آخر: توطين صناعة الشرائح الإلكترونية داخل حدودهما.
ولكون هذه الصناعة ليست مركزيةً، فإنها تعتمد على شبكة متكاملة من المكونات والتقنيات التي تُنتَج في بلدان وشركات متعددة بدلًا من أن تكون محصورة في دولة أو كيان واحد. على سبيل المثال، تُعد شركة ASML الهولندية الرائدة عالميًا في تصنيع المعدات الأساسية المستخدمة في إنتاج الشرائح، مثل آلات الطباعة الضوئية الدقيقة.
أما تصنيع الشرائح نفسها، فهو مجال تتصدره شركات مثل TSMC التايوانية وسامسونج الكورية الجنوبية، وهما شركتان حليفتان للولايات المتحدة وتلتزمان بالقيود الأمريكية المفروضة على تصدير التقنيات المتطورة إلى الصين. ومن جانب آخر، تعتمد الصناعة على مواد خام تُستخرج من دول عدّة حول العالم، مما يعكس الطبيعة العالمية لسلاسل الإمداد.
هذا التداخل والتوزيع الجغرافي يجعلان من الصعب على أي دولة السيطرة الكاملة على هذه الصناعة الحيوية، إذ تتطلب تعاونًا دوليًا وتقنيات وخبرات متفرقة لضمان استمرارية الإنتاج وتلبية الطلب المتزايد على الشرائح الإلكترونية.
ليست كل الشرائح متساويةً
تُعدّ الشرائح الإلكترونية عنصرًا أساسيًا في مختلف الصناعات، لكنها لا تستخدم نفس أنواع الشرائح. على سبيل المثال، تختلف الشرائح المطلوبة لتشغيل الدوائر الكهربائية في السيارات عن تلك المستخدمة في تشغيل الموبايلات. والتحدي الأكبر حاليًا لا يقتصر على تصنيع عدد كبير من الشرائح سنويًا لتجاوز أزمات سلاسل التوريد، بل يمتد إلى تصنيع أصغر وأكفأ الشرائح الممكنة.
كلما صغرت الشريحة الإلكترونية، أصبحت أكثر كفاءةً في استهلاك الطاقة وأفضل في الأداء. ومع ذلك، فإن هذه الكفاءة تأتي على حساب تقليل عمرها الافتراضي. لهذا السبب، يُفضّل مصنعو الأجهزة المنزلية مثلًا استخدام شرائح أكبر حجمًا، لأنها تؤدي الغرض المطلوب بكفاءة عالية دون الحاجة إلى استخدام الشرائح الصغيرة والمتطورة التي تُستخدم في تطبيقات متقدمة مثل الموبايلات والكمبيوترات فائقة الأداء وبرمجيات الذكاء الاصطناعي، التي تكون أكثر تكلفةً وتعقيدًا مما يلزم لهذه الأجهزة البسيطة.
في الوقت الحالي، تقود شركتا سامسونج وTSMC مسار الابتكار في إنتاج الشرائح الإلكترونية ذات القياسات النانوية الأصغر والأداء المتفوق. وتُعدّ هذه الشرائح أساسًا لا غنى عنه لتطوير وحدات المعالجة المركزية، التي تُشكّل أساسًا لتشغيل أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة.
يهرع المستثمرون لضخ المليارات ليس بهدف تطوير الابتكار لكن بهدف الاستحواذ على أكبر حصة من السوق المتنامية
ويتميز هذا المجال بمتطلبات تقنية ومالية هائلة، مما يضع تحديات استراتيجية أمام الشركات الصينية الساعية لإيجاد موطئ قدم لها في هذا السباق التكنولوجي المعقد، من خلال تطوير حلول ذكاء اصطناعي قادرة على مجاراة أو تجاوز النماذج المتقدمة التي تنتجها الشركات الأمريكية.
صراع الشركات الأمريكية
منذ إصدار تطبيق ChatGPT، انطلق سباقٌ بين شركات التكنولوجيا الأمريكية لتطوير برمجيات ذكاء اصطناعي تنافسية؛ فبدأت شركة xAI، التي يقودها إيلون ماسك، بضخ مليارات الدولارات بإنشاء مركز بيانات جديد كخطوة أولى، ومن المتوقع أن تُتبع باستثمارات ضخمة إضافية. كما عزّزت شركة جوجل استثماراتها بشكل كبير لتطوير مراكز البيانات الخاصة بها بهدف دعم أنظمتها المستقبلية في الذكاء الاصطناعي.
المشهد الحالي ليس جديدًا على وادي السيليكون الذي اعتاد أن يشهد سباقات محمومة مع كل طفرة تكنولوجية جديدة، سواء كان ذلك الإنترنت في التسعينيات، أو المنصات الرقمية في بداية الألفية، أو الهواتف الذكية لاحقًا، أو العملات الرقمية مؤخرًا. يهرع المستثمرون لضخ المليارات ليس بهدف تطوير الابتكار بحد ذاته، بل بهدف الاستحواذ على أكبر حصة من السوق المتنامية. واليوم، أصبح الذكاء الاصطناعي الساحة الجديدة لهذا التنافس المحموم.
شربها الكروديا
بينما أنفق المستثمرون الأمريكيون مليارات الدولارات في سباق تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي التقليدي، كانت هناك شركة صينية تعمل بهدوء على نموذج ذكاء اصطناعي أكثر كفاءة من أقرانه. أطلقت هذه الشركة مؤخرًا نموذجًا يحمل اسم DeepSeek، الذي تزعم أنها طورته بتكلفة لم تتجاوز 6 ملايين دولار فقط، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بالمليارات التي أنفقتها الشركات الأمريكية.
ما يجعل هذا النموذج مميزًا ليس فقط تكلفته المنخفضة خلال التطوير، بل أيضًا تكاليف تشغيله المنخفضة بشكل كبير بعد الانتهاء من عملية التدريب. من المهم أن ندرك أن كل استفسار يُوجّه إلى نماذج مثل ChatGPT أو Gemini يُكلّف أموالًا حقيقيةً، تُنفق على الكهرباء لتشغيل الخوادم العملاقة التي تعمل على مدار الساعة لتلبية الطلبات. على النقيض، يُظهر نموذج DeepSeek الصيني كفاءة عالية من حيث التكلفة، إذ يستهلك ما يقرب من واحد على ثلاثين من تكلفة تشغيل النماذج الأمريكية.
رغم أن هذا النموذج الصيني لا يزال غير قادر على مجاراة النماذج الأمريكية في جميع الوظائف، فإنه يقدّم أداءً موازيًا في الوظائف الأساسية، مما يقلل بشكل كبير من الحاجة إلى استخدام عدد كبير من الشرائح الإلكترونية، وهو عامل حاسم في سباق التفوق التكنولوجي بين الصين والولايات المتحدة.
الاعتماد على نماذج الذكاء الاصطناعي وحدها قد يقود إلى نتائج مُضلّلة بسبب التحيزات المضمّنة في تصميمها أو البيانات التي دُرِّبت عليها
بطبيعة الحال، ستعمل شركات التقنية الأمريكية على التكيف مع هذا التطور من خلال الاستفادة من التقنيات الصينية أو تطوير تقنيات مشابهة لخفض التكاليف. ومع ذلك، فإن التأثير الفوري لهذا التغيير يظهر بوضوح في الأسواق العالمية. وفي ظل تقلبات الصناعة، يتحمل صغار المستثمرين في البورصات عادةً الخسائر الكبرى، بينما يشارك كبار المستثمرين هذه الخسائر في بعض الحالات النادرة.
عادةً ما تكون الابتكارات التكنولوجية تراكميةً بطبيعتها، فتُقدّم الشركات تحسينات تدريجية على المنتجات الحالية. مثلًا، إذا أصدرت أبل هاتفًا جديدًا، تُطلق سامسونج هاتفًا آخر بمواصفات محسنة قليلًا عنه. لكن مع DeepSeek، يبدو أن الطفرة أكبر بكثير من مجرد تحسينات بسيطة، مما يجعل استعادة أسهم شركات التكنولوجيا الأمريكية لعافيتها أمرًا صعبًا في المستقبل القريب، بل وربما لن تعوض جزءًا كبيرًا من الخسائر التي شهدتها.
انحياز جديد للمعلومات
تتسم جميع نماذج الذكاء الاصطناعي بوجود انحياز معلوماتي، وهو أمر تُحدّده الشركات المصنعة لهذه النماذج، سواء أدرك المستخدم ذلك أم لا. الجدير بالذكر أن النماذج الأمريكية مثل ChatGPT تفرض قيودًا أكبر لتحسين الحيادية في إجاباتها. فعلى سبيل المثال، أصبحت الإجابات المتعلّقة بالقضية الفلسطينية في ChatGPT أكثر توازنًا وموضوعيةً مقارنة بما كانت عليه قبل 6 أشهر.
في المقابل، تخضع النماذج الصينية مثل DeepSeek لقيود صارمة من السلطات الصينية، مما يؤدي إلى تشويه الحقائق أو تفادي تناول الموضوعات الحساسة. جرب مثلًا أن تسأل DeepSeek عن أحداث ميدان تيانانمن عام 1989، وستجد أن النموذج يتهرب من الإجابة بطريقة مبهمة وغير واضحة.
لهذا السبب، تبقى المصادر التاريخية المقارنة هي الخيار الأكثر موثوقيةً للحصول على معلومات دقيقة وحيادية، خصوصًا في المواضيع ذات الصلة بالسياسة والتاريخ أو الاقتصاد. فالاعتماد على نماذج الذكاء الاصطناعي وحدها قد يؤدي إلى نتائج مُضلّلة بسبب التحيزات المضمّنة في تصميمها أو البيانات التي دُرِّبت عليها.
من جهة أخرى، توفر الأداة الصينية الجديدة DeepSeek فرصةً للاستفادة من تقنيات مبتكرة بأسعار تنافسية، خصوصًا للمستخدمين الذين يواجهون ضغوطًا ماليةً. ورغم اعتراضات شركات التكنولوجيا الأمريكية واتهامها للصين بسرقة البيانات والمعلومات، يبقى القرار في يد المستخدم النهائي.
بالنسبة لي كمستخدمٍ في مصر، لا فارق بين من يستغل بياناتي، سواء كان ذلك في الولايات المتحدة أو الصين، "يا قلبي لا تحزن". ما يهم حقًا هو الحصول على أداة فعالة بأقل تكلفة، وفي هذا السياق، يبدو أن "الصيني أرخص".