
تعثر مشروع ترامب العالمي يزيد من نفوذ ممالك الخليج
انصب الاهتمام في الأيام القليلة الماضية في المنطقة وخارجها على زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمملكة العربية السعودية وقطر والإمارات، خاصة أنها الزيارة الخارجية الأولى له منذ انتخابه، إذا استثنينا زيارته لروما لحضور جنازة بابا الفاتيكان الراحل.
على الرغم من أن هدف ترامب المعلن من الزيارة هو تأمين تدفق استثمارات ضخمة من بلدان الخليج الثلاثة، فإن أغلب التحليلات ذهبت إلى الحديث عن المخرجات السياسية المنتظرة أو المحتملة لتلك الزيارة، وما إذا كانت ستؤشر على تحول في استراتيجية الولايات المتحدة إزاء المنطقة العربية أم لا.
ترامب ونتنياهو
في حالة ترامب، لا يمكن فصل ما هو اقتصادي عن السياسة، إذ إنه بدأ فترته بحرب تجارية تبدو في طريقها للفشل، وهو لا يحتاج فقط لدعم من أموال الخليج يساعده على تحقيق شيء من وعوده، لكن بعد انقشاع الغبار عن الحرب الإسرائيلية ضد غزة، ستحتاج كثيرٌ من أوراق المنطقة لإعادة ترتيب، ويبدو أن ترامب وجد في الرياض مكانًا مناسبًا للشروع في هذه الترتيبات.
من أوائل الأسئلة السياسية الملحة، لماذا بدأ ترامب جولته الأولى في الشرق الأوسط بزيارة السعودية وليس إسرائيل؟ الظاهر أن العلاقة بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يشوبها قدر من التوتر المكتوم، وهو ما يتبدى في تصريحات ترامب الأخيرة عن ضرورة إنهاء الحرب في غزة وإعادة الرهائن، وقبلها اقتراح إدخال المساعدات إلى القطاع المحاصر قبل أكثر من شهرين.
من المبكر الحديث عن أثر الزيارة على العلاقة مع الحليف المفضل إسرائيل، في خضم حربها للتطهير العرقي ضد الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية، أو احتواء إيران بعد تراجع محورها الإقليمي، لكن لا يمكن إنكار أن شيئًا جديدًا يحدث في المنطقة، مثل الكلام غير المؤكد عن استعداد ترامب للقبول ببرنامج نووي سعودي سلمي دون اشتراط التطبيع مع إسرائيل، وفي الخلفية بالطبع ما يقول الأمريكيون إنه تقدم في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني بعد أيام قليلة من الوصول لاتفاق ضمني ينهي القصف الأمريكي على الحوثيين دون شمول إسرائيل، التي لا تزال تتعرض للصواريخ من اليمن.
هل يمكن توقع ترامب؟
من جهة أخرى، من المستحيل أصلًا الحديث بأي قدرٍ من العقلانية أو من الجدية عن تحولات استراتيجية مع إدارة كإدارة ترامب، التي شنت حربًا تجاريةً على العالم لمدة أسبوع ثم تراجعت عنها وقصرت التصعيد على الصين، قبل أن تحتفي قبل أيام بقرب التوصل لاتفاق مع بكين!
لكن كل هذا الفشل قد يكون أيضًا مفتاحًا لمعرفة ما الذي يبحث عنه ترامب في الخليج، فهو في حاجة لتعويض ناخبيه عمّا يبدو أنه عجزٌ عن تحقيق الوعود الكبرى التي أطلقها في احتفالية يوم التحرير، في مقدمتها عودة الصناعة إلى الولايات المتحدة من خلال فرض تعريفات جمركية مرتفعة على غالبية الشركاء التجاريين للولايات المتحدة.
كما أن ترامب لم يوفق كثيرًا على الصعيد السياسي أيضًا، فمبادرته لإنهاء الحرب في شرق أوروبا لم تنه الحرب وأثمرت فقط تحقيق الروس بعض المكاسب العسكرية ضد أوكرانيا، بل وأدت لاستنفار دول الاتحاد الأوروبي نتيجة تراجع الولايات المتحدة عن التزاماتها العسكرية في إطار حلف شمال الأطلنطي من ناحية، وتصاعد التوتر الاقتصادي مع الاتحاد الأوروبي من ناحية أخرى.
شريك وليس منافسًا
قادت كل العوامل السابقة إلى وجود فرصة أو حتى فُرجة صغيرة تستطيع دول بالغة الثراء مثل السعودية والإمارات وقطر أن تنفذ منها لكي تلعب دورًا ما في إنقاذ ترامب، وفي المقابل توسع من دورها في الهيمنة على المنطقة، وتلائم هذه الفرصة دول الخليج الكبرى، لأنها تتمتع بسمات اقتصادية بالأساس تجعلها شريكًا مناسبًا لأمريكا في الوقت الراهن.
من جهة، تعد دول الخليج من أكبر مصدِّري رأس المال في صورة استثمارات مباشرة وغير مباشرة إلى الولايات المتحدة، كما أنها خلافًا للصين واليابان والاتحاد الأوروبي ليست في علاقة صدام فيما يتعلق بملفات التجارة، لأنها ببساطة شديدة تُصدِّر المواد الأولية ممثلة في البترول والغاز الطبيعي.
تفيد آخر التقديرات بأن صناديق الخليج السيادية تدير أصولًا بأكثر من 4 تريليونات دولار بنهاية العام الحالي، وهذه الحكومات بالفعل من خلال صناديقها وشركاتها المملوكة للدولة أو القريبة منها تمتلك أصولًا ماليةً وثابتةً ضخمةً في أرجاء العالم، بما فيها السوق الأمريكية بالطبع.
رغم وضع العملة الأمريكية المهيمنة عالميًا فإن الولايات المتحدة تواجه تحديًا كبيرًا نتيجة تراجع وزنها كقوة صناعية وتجارية
ولكن يفوق كونها من الدول المصدِّرة لرأس المال الدولاري أن بلدان الخليج بلدان "بترولية"، بالتالي من أهم محطات البترودولار، أي الدولارات المستخدمة في مبيعات النفط والغاز بين الدول، ولا شك أن تجارة البترول المقومة بالدولار بابٌ رئيسيٌّ من أبواب الحفاظ على وضع الدولار عملة احتياطيات عالمية (في نهاية 2024 كان 58% من احتياطيات دول العالم بالدولار الأمريكي).
رغم وضع العملة الأمريكية المهيمنة عالميًا فإن الولايات المتحدة تواجه تحديًا كبيرًا نتيجة تراجع وزنها كقوة صناعية وتجارية في العالم بما انعكس على تراجع وزن الدولار من الاحتياطيات العالمية من 72% في 2000 إلى 58% في 2022، كما انعكس على وزن التجارة العالمية المقومة بالعملة الخضراء، التي تمثل اليوم 56% ما يعني أن نحو نصف تجارة العالم تتم بعملات أخرى مثل اليورو والين ومؤخرًا اليوان الصيني بوتيرة متسارعة في العقد الماضي.
كل هذه التحولات سواء قصيرة أو طويلة المدى، التي تهدد في مجموعها وضع الولايات المتحدة العالمي سياسيًا واقتصاديًا، تزيد من أهمية الدور التقليدي لممالك الخليج مصدِّرًا للاستثمارات الدولارية، وتضعه في سياق مختلف، ربما بدأ ينعكس بالفعل على تعامل ترامب مع زيارته للخليج العربي، التي أمست ترتبط بأدائه الرئاسي وخططه الاقتصادية الداخلية.
من يستفيد أكثر؟
كيف يمكن لدول الخليج أن تستخدم الأهمية المستجدة لدورها الاقتصادي إزاء الولايات المتحدة؟ ربما تنعكس هذه التغيرات في المدى المباشر على ملفات مثل برنامج نووي سعودي سلمي، وتطبيع أمريكي مع النظام السوري الجديد بدفع من قطر والسعودية، وربما يشجع ذلك ترامب على أن يضغط على إسرائيل كي تنهي حرب الإبادة العرقية في قطاع غزة.
لكن الأمور الأبعد مدىً مثل ضم أعضاء جدد إلى اتفاقيات أبراهام مقابل إنشاء دولة فلسطينية، كما اشترطت المملكة العربية السعودية، تظل محل شك، في ضوء تشابكات الشأن الإسرائيلي مع السياسة الداخلية في الولايات المتحدة.
كما ستحد من فرص التعاون الأمريكي الخليجي رغبةُ الأخيرة في موازنة علاقاتها بالقوى الاقتصادية الأخرى الصاعدة، على رأسها الصين، أكبر مستورد بالفعل للبترول والغاز من الخليج.
لكن على كل حال، يبدو أن تعثر جهود ترامب في الأشهر القليلة الأولى من رئاسته صبَّ في تعزيز أهمية بلدان الخليج، وعلينا أن ننتظر فحسب إلامَ سيؤدي هذا في المستقبل القريب وربما البعيد.